قد لا تكون مفاجأة أن يفوز إيمانويل ماكرون بمدة ثانية في قصر الإليزيه، لكن اتجاهات التصويت نفسها تكشف أن أصغر رؤساء فرنسا منذ نابليون قد لا ينعم بشهر عسل من الأساس هذه المرة.
كانت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية قد انتهت لصالح ماكرون بنسبة 58% مقابل 42% حصلت عليها مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، بعد أن تأهل كلاهما لتلك الجولة في أعقاب حصولهما على المركزين الأول والثاني في الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية.
كانت الجولة الأولى قد جرت الأحد 10 أبريل/نيسان، وشارك فيها 12 مرشحاً، وشهدت تصدُّر ماكرون السباق بنسبة 27.6% من إجمالي الأصوات، وجاءت لوبان في المركز الثاني بنسبة 23.4%، وفي المركز الثالث جاء مرشح اليسار المتطرف جان لوك ميلنشون، الذي كان بالفعل واحداً من أبرز المرشحين، وحصل على 22.2% من الأصوات، بينما حل اليميني المتطرف إيريك زمور رابعاً بنحو 7%. وكان أكبر الخاسرين في هذه الانتخابات هو اليمين التقليدي عبر مرشحته فاليري بيكريس، التي حصلت على 4.7% فقط من الأصوات.
هل أصبح ماكرون "بطة عرجاء"؟
نعم، تفوق إيمانويل ماكرون على مارين لوبان، وأصبح أول رئيس منذ جاك شيراك يفوز بولاية ثانية، لكن مدته الثانية في رئاسة فرنسا قد تكون أكثر تعقيداً مما يظن، مع تصاعد المعارضة السياسية ضده، ووصول الغليان الاجتماعي لمستويات غير مسبوقة، بحسب تقرير لرويترز.
وفي الوقت الذي احتفل فيه أنصاره بإعادة انتخابه بشق الأنفس في تجمع حاشد بجوار برج إيفل مساء الأحد 24 أبريل/نيسان، أقر ماكرون في خطاب النصر بأن كثيرين ممن صوتوا له فعلوا ذلك لمنع لوبان من الوصول إلى الرئاسة، وليس لأنهم يدعمون أفكاره.
وقال ماكرون، وهو يقف بجانب زوجته بريجيت: "لن يعاني أحد من الإهمال والتهميش. "لن تكون المدة المقبلة مثل الولاية السابقة، سنستكشف معاً طريقاً جديداً للإنجاز من أجل خمس سنوات أفضل".
إذ رغم الفارق الذي بلغ 16 نقطة بين ماكرون ولوبان، إلا أن هذا الفارق بينهما قد تقلص إلى النصف مقارنة برئاسيات 2017، عندما خسرت لوبان أمام ماكرون بـ66.1% مقابل 33.9%، بفارق 32.2 نقطة. ووصف لوبان نتيجة الانتخابات بالانتصار المدوي، رغم الخسارة، بحسب تحليل لموقع فرانس24.
وكانت خسارة لوبان متوقعة إلى حد كبير، وخصوصاً بعد أدائها المتواضع في المناظرة الوحيدة بينهما الأربعاء 20 أبريل/نيسان، ليتسع الفارق خلال أيام قليلة من 10 إلى 16 نقطة، حيث كان أداء ماكرون أكثر إقناعاً منها، بناءً على استطلاعات الرأي، إلى درجة دفعت موقع "فرانس24" (رسمي) إلى التساؤل: "هل قضت المناظرة على حظوظ لوبان في الفوز؟".
كما أن ماكرون، ربح لعبة التحالفات عندما ضمن دعم أغلب المرشحين الخاسرين في الجولة الأولى، بينما لم تدخل لوبان الجولة الثانية وحيدة بعد أن حصلت على دعم مرشحين اثنين، بينهما إريك زمور، اليميني المتطرف الذي حصل على المرتبة الرابعة.
وإضافة إلى هذا الأداء القوي لليمين المتطرف، ممثلاً في لوبان، فإن العزوف عن التصويت أيضاً مؤشر آخر لا يصب في صالح ماكرون؛ إذ لم يسبق لفرنسا أن سجلت نسبة امتناع عن التصويت في انتخابات رئاسية كالتي سجلتها في رئاسيات 2022، منذ 1969 (31.1%). ووفقاً لتقديرات معاهد استطلاعات الرأي، بلغ معدل الامتناع عن التصويت نحو 28% من الناخبين المسجلين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، والبالغ عددهم 48.7 ملايين مسجل.
ونسبة الامتناع في الجولة الثانية للرئاسيات أعلى بـ1.7% مقارنة بالجولة الأولى التي سجلت معدل 26.3%. ومقارنة برئاسيات 2017، التي سجلت نسبة امتناع عن التصويت بـ 25.38% (نحو 12 مليون صوت)، فإن معدل الامتناع في 2022 ارتفع إلى 2.62%، أي بزيادة نحو مليون ناخب ممتنع.
وتعني نسبة الأصوات المنخفضة التي حققها ماكرون أمام لوبان مقارنة بانتخابات 2017 أنه لن يتمتع بالسلطة نفسها التي كان يتمتع بها قبل خمس سنوات لتنفيذ الإصلاحات، رغم أنه أصبح الرئيس الفرنسي الوحيد الذي فاز بولاية ثانية خلال عقدين من الزمن، أي إن ماكرون يدخل فترته الثانية أقرب إلى كونه "بطة عرجاء".
قضايا ساخنة وتحديات أصعب تنتظر ماكرون
تنتظر ماكرون تحديات ضخمة وعقبات متعددة، ولا تبعد العقبة القادمة، التي يجب عليه تخطيها، سوى أسابيع قليلة؛ إذ ستحدد الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران المقبل شكل الحكومة التي سيعتمد عليها في خطط الإصلاح التي ستكون بمنزلة تغيير غير مسبوق في برامج الرعاية الاجتماعية في فرنسا.
وجرت العادة أن يحصل الرؤساء المنتخبون حديثاً على الأغلبية في البرلمان عندما تأتي الانتخابات التشريعية بعد التصويت الرئاسي مباشرة؛ بسبب المشاركة المنخفضة عموماً لمؤيدي المرشحين المهزومين.
وتعد معاشات التقاعد دائماً قضية ساخنة في فرنسا، وقال كريستوفر ديمبيك الخبير الاقتصادي في ساكسو بنك لرويترز: "انتخابه هو خيار فرضته الظروف. قد يتحول إلى بطة عرجاء في مواجهة استياء اجتماعي كبير إذا أراد تنفيذ إصلاحات حساسة مثل معاشات التقاعد".
وفي إشارة محتملة للمتاعب التي تنتظر ماكرون، حذره الناخبون الغاضبون مراراً بشأن إصلاح نظام معاشات التقاعد خلال الحملة الانتخابية. وحذر فيليب مارتينيز، رئيس الاتحاد العام للعمال في فرنسا (سي.جي.تي) المدعوم من الاشتراكيين، ماكرون من أنه لن ينعم "بشهر عسل"، وحري به أن يتوقع مظاهرات إذا لم يتراجع بالكامل.
ومن القضايا الشائكة الأخرى التي يجب على ماكرون التعامل معها في أعقاب الانتخابات الارتفاع الهائل في أسعار الطاقة. ووضعت حكومة ماكرون حداً لأسعار الكهرباء، وقدمت خصومات على أسعار المستهلكين حتى ما بعد الانتخابات. وقال ماكرون خلال الحملة: إنه سيحمي الناخبين مادام ذلك ضرورياً، لكنه لم يقدم جدولاً زمنياً.
والواضح حتى الآن أن التدابير المكلفة يجب رفعها في مرحلة ما. وفي الوقت نفسه، يقول مشرعون: إن الناخبين يشتكون بالفعل من ارتفاع أسعار جميع أنواع المواد الغذائية الأساسية، مثل زيت دوار الشمس المصنوع في أوكرانيا والأرز والخبز.
وفي عام 2018، تسبب ارتفاع أسعار المستهلكين في أسوأ اضطرابات اجتماعية في فرنسا منذ ثورة الطلاب في عام 1968؛ إذ تسببت احتجاجات "السترات الصفراء" في اضطرابات دامت لعدة أشهر في باريس ومختلف ميادين فرنسا.
ولذلك سيتعين على ماكرون أن يخطو بحذر إذا لم يكن يريد أن ينفجر الوضع مرة أخرى. وكانت ولايته الأولى مليئة بأخطاء في العلاقات العامة جعلته يبدو متغطرساً أو متعجرفاً. ولا يحبه العديد من الفرنسيين، وأخبره رجل في وجهه في أثناء الحملة الانتخابية بأنه "أسوأ رئيس للجمهورية الخامسة". كما تعرض ماكرون لصفعة على وجهه من أحد المواطنين خلال أحد التجمعات في يونيو/حزيران الماضي.
ويحذر الحلفاء السياسيون من أن ماكرون سيحتاج إلى استشارة المشرعين والنقابات والمجتمع المدني بصورة أكبر، والتخلص من أسلوب الحكم من أعلى إلى أسفل، الذي كان مميزاً لولايته الأولى، والتي وصفها بنفسه بأنها "كوكب المشتري".
وقال النائب باتريك فينيال لرويترز: "تلقى إيمانويل ماكرون الرسالة، ومفادها أنه لا يمكنه اتخاذ قرار بشأن كل شيء من الأعلى، فهو ليس رئيس شركة. إنه يحتاج إلى قبول فكرة التفاوض والتشاور".
اليمين المتطرف شوكة في خاصرة الرئيس الفائز
النقطة الأخرى، التي يتوقع أن تمثل عقبة أمام ماكرون، هي اليمين المتطرف وممثلوه، وعلى رأسهم لوبان نفسها؛ إذ أبدت نبرة متحدية في خطاب الإقرار بالهزيمة، وتعهدت بوجود كتلة معارضة قوية في البرلمان. كما يسعى جون لوك ميلونشون اليساري المتشدد لأن يصبح رئيساً للوزراء، بعد حصوله على الجزء الأكبر من أصوات اليسار في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية.
ويأمل ميلونشون في الاستفادة من هذا الزخم في الانتخابات البرلمانية، وإجبار ماكرون على التعامل معه بوصفه زعيم الأغلبية اليسارية في البرلمان، وهو تعايش صعب قد لا يكتب له البقاء.
وحتى إذا حصل حلفاء ماكرون على الأغلبية، أو توصلوا لاتفاق لتشكيل ائتلاف فعال، فسوف يتعين عليه أيضاً التعامل مع رفض الشارع لخططه الإصلاحية، لا سيما إصلاح نظام التقاعد الذي سيرفع الحد الأدنى لسن التقاعد تدريجياً إلى 65 من 62.
وقبل عقود خلت كان اليمين المتطرف منبوذاً في فرنسا، لكن مع حصول لوبان على 42% من الأصوات أو ما يعادل نحو 14 مليون صوت، فذلك يشكل قوة تصويتية كبيرة.
فهذه المرة الأولى في تاريخ اليمين المتطرف التي يحصل فيها على نسبة تجاوزت 40%، بعدما حقق في رئاسيات 2017، نسبة 33.9%.
إذ لم يسبق أن صوّت لليمين المتطرف نحو 14 مليون مقترع في أي انتخابات سابقة.
حيث تم تسجيل أعلى معدل تصويت له في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2017، وحصلت فيها لوبان على أقل من 11 مليون صوت، وعُدَّ هذا الرقم حينها تاريخياً، قبل أن تكسره لوبان في 2022.
لذلك فالمعركة الانتخابية لم تنتهِ بعد بانهزام اليمين المتطرف، بل مازالت جولة ثالثة للنزال السياسي، عندما تجرى الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران المقبل، بعد نحو 7 أسابيع.
وإذا تمكنت لوبان، من الحفاظ على هذه القاعدة التصويتية في الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ فإن ذلك يرشحها للمشاركة في تشكيل حكومة ائتلافية، إذا أخفق حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" من الحصول على 50% من الأصوات.
وإذا تمكنت لوبان من المشاركة في حكومة ائتلافية، فمن شأن ذلك أن يقود فرنسا إلى مزيد من التطرف في ملفات الهجرة والإسلاموفوبيا، وفتح ملفات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والاختلاف بشأن الحرب الروسية الأوكرانية.
فدخول اليمين المتطرف إلى الحكومة من شأنه أن يُقحم فرنسا في مرحلة عدم استقرار سياسي، ويؤثر في علاقاتها بشركائها (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويضيق أكثر على المهاجرين والمسلمين.
وتشكيل حكومة ائتلافية، يكون اليمين المتطرف أحد أطرافها، من شأنه فتح أبواب الخلاف مع الرئيس ماكرون، الذي مرّت ولايته الرئاسية الأولى في هدوء دون صدام مع الحكومة، خاصة أن فرنسا تتبنى نظاماً شبه رئاسي يتقاسم فيه رئيس البلاد ورئيس الحكومة السلطة التنفيذية.