أصبحت مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي، أقرب من أي وقت مضى من الوصول لرئاسة فرنسا، ولعب ماكرون دوراً كبيراً في صعود اليمين المتطرف الفرنسي الذي ظهر في الانتخابات الأخيرة.
فقد قلصت مارين لوبان الفارق بينها وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي فاز بالانتخابات الرئاسية الفرنسية بمقدار النصف مقارنة بانتخابات 2017.
وحملت رئاسيات 2022، عدة مؤشرات مقلقة عن صعود اليمين المتطرف الفرنسي؛ من شأنها التأثير في مستقبل البلاد وأوروبا برمتها.
إذ حصل ماكرون على أكثر من 58% من الأصوات مقابل نحو 42% للوبان.
رغم الفارق الذي يتجاوز 16 نقطة بين المرشحين الرئاسيين، إلا أن لوبان تمكنت من تقليصه إلى النصف مقارنة برئاسيات 2017، عندما خسرت أمام المرشح ذاته بـ66.1% مقابل 33.9%، بفارق 32.2 نقطة.
فقد سجلت لوبان أعلى نسبة تصويت يحققها اليمين المتطرف في تاريخ فرنسا؛ إذ حصلت على نحو 42% من أصوات الفرنسيين في الجولة الثانية لانتخابات 2022، مقابل 34% في الجولة الثانية في الانتخابات الماضية عام 2017، والتي كانت أمام ماكرون أيضاً، أي بزيادة تقارب 8% من الأصوات.
بلغ معدل الامتناع عن التصويت نحو 28% من الناخبين المسجلين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، والبالغ عددهم 48.7 ملايين مسجل، وهو أعلى معدل امتناع في تاريخ البلاد منذ 1969.
ونسبة الامتناع في الجولة الثانية للرئاسيات أعلى بـ1.7% مقارنة بالجولة الأولى التي سجلت معدل 26.3%.
ومقارنة برئاسيات 2017، التي سجلت نسبة امتناع عن التصويت بـ25.38% (نحو 12 مليون صوت)، فإن معدل الامتناع في 2022 ارتفع إلى 2.62%، أي بزيادة نحو مليون ناخب ممتنع.
وفاقت نسبة الامتناع عن التصويت (28%) ما حصل عليه ماكرون في الجولة الأولى (27.85%)، ما يجعل الممتنعين عن التصويت أكبر من أي حزب في البلاد.
وارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت يمكن ربطها بعدم اقتناع فئة من الناخبين بكل من ماكرون ولوبان معًا، خاصة من اليسار الراديكالي والمسلمين (10% من إجمالي عدد السكان).
وتصب حالة العزوف التاريخية عن التصويت في مصلحة لوبان؛ إذ إن غالبية الممتنعين عن التصويت من اليساريين والمسلمين الذين يوجدون على الطرف النقيض من اليمين المتطرف.
نتيجة انتخابات فرنسا تهدد أوروبا برمتها
قبل عقود خلت كان اليمين المتطرف منبوذاً في فرنسا، لكن مع حصول لوبان على 42% من الأصوات أو ما يعادل نحو 14 مليون صوت، فذلك يشكل قوة تصويتية كبيرة، ومؤشر على صعود اليمين المتطرف الفرنسي بشكل غير مسبوق.
وإذا تمكّنت لوبان، من الحفاظ على هذه القاعدة التصويتية في الانتخابات البرلمانية المقبلة؛ فإن ذلك يرشحها للمشاركة في تشكيل حكومة ائتلافية، إذا أخفق حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" من الحصول على 50% من الأصوات.
لذلك فالمعركة الانتخابية لم تنته بعد بانهزام اليمين المتطرف، بل مازالت هناك جولة ثالثة للنزال السياسي، عندما تجرى الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران المقبل، بعد نحو 7 أسابيع.
وإذا تمكنت لوبان من المشاركة في حكومة ائتلافية، فمن شأن ذلك أن يقود فرنسا إلى مزيد من التطرف في ملفات الهجرة والإسلاموفوبيا، وفتح ملفات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والاختلاف بشأن الحرب الروسية الأوكرانية.
فدخول اليمين المتطرف إلى الحكومة من شأنه أن يُقحم فرنسا في مرحلة عدم استقرار سياسي، ويؤثر في علاقاتها بشركائها (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو))، ويضيق أكثر على المهاجرين والمسلمين.
وتشكيل حكومة ائتلافية يكون اليمين المتطرف أحد أطرافها من شأنه فتح أبواب الخلاف مع الرئيس ماكرون، الذي مرت ولايته الرئاسية الأولى في هدوء دون صدام مع الحكومة، خاصة أن فرنسا تتبنى نظاماً شبه رئاسي يتقاسم فيه رئيس البلاد ورئيس الحكومة السلطة التنفيذية.
دور ماكرون في صعود اليمين المتطرف الفرنسي
لعب ماكرون والنخبة السياسية الفرنسية دوراً كبيراً في صعود اليمين الفرنسي المتطرف، فبدلاً من أن يعارض ماكرون توجهات اليمين الفرنسي المتطرفة، فإنه في حقيقة الأمر، كان يستغلها.
فعندما كان ماكرون مرشحاً رئاسياً عام 2017، حمل خطاباً ليبرالياً متسامحاً يطالب بسياسات مرنة مع الهجرة، وينتقد إيطاليا لتركها سفن اللاجئين تغرق بالبحر، وكان يقول: إن فرنسا ارتكبت أخطاءً أحياناً باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل.
ثم لم يلبث أن انقلب ماكرون على المسلمين، وأصبح يغازل اليمين المتطرف للبقاء في الإليزيه.
وبالفعل تُظهر مواقف ماكرون من المسلمين تقلبات لافتة؛ فالرجل صدم فرنسا، عندما غازل الناخبين المسلمين الجزائريين في انتخابات 2017، بقوله: إن "الاستعمار جريمة ضد الإنسانية، وإن الدولة ينبغي أن تكون محايدة تجاه الدين، وهو ما يأتي في صلب العلمانية، فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة". بالإضافة إلى ذلك دعا ماكرون إلى تدريس الشؤون الدينية في المدرسة.
ولكن الرجل نفسه، هاجم الجزائر، وقال: إن هويتها مصطنعة، ودافع عن نشر الصور المسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولم يسعَ للنأي بنفسه وحكومته عنها، وكان من الممكن أن يكتفي بإدانتها مع تأكيد أنه لا يستطيع منعها في إطار حرية التعبير.
بل أعلن أن بلاده لن تتخلى عن "الرسوم الكاريكاتيرية" المسيئة والمنشورة على واجهات المباني بعدة مدن فرنسية، بينها تولوز ومونبلييه (جنوب)، التي يقيم فيها عدد كبير من المسلمين، خاصة من البلدان المغاربية.
بل إنه، قبيل انتخابات 2017، دافع عن البوركيني، وهو لباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات المتدينات، ولكنه بعد توليه الرئاسة سعى لمنع أحواض السباحة من أن تخصص أوقاتاً منفصلة للنساء المسلمات، وذلك قبيل نحو 16 شهراً من رئاسيات 2022.
ماكرون المرشح في 2017، كان يحمل "لواء الإسلام" على حد قول الكاتب الفرنسي "ميشال براسبارت"؛ بهدف استقطاب أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، الذين يمثلون نحو 6% من الناخبين.
ويرجح أن نسبة كبيرة من أصوات المسلمين ذهبت في الجولة الأولى عام 2017 لماكرون، بعد أن قدم خطاباً بدا مشجعاً ناحية المسلمين، وفي أصوات ساهمت في تأهله للجولة الثانية، في وقت كان فيه مرشحاً شبه مجهول.
وقال ماكرون آنذاك: "لا يمثل أي دين مشكلة في فرنسا في وقتنا الحالي، وإذا كان ينبغي أن تكون الدولة محايدة، وهو ما يأتي في صلب العلمانية، فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة". بالإضافة إلى ذلك دعا ماكرون إلى تدريس الشؤون الدينية في المدرسة. كما طالب بتكوين الأئمة في الجامعات الفرنسية، وإغلاق المساجد التي تدعو للتطرف والإرهاب.
كانت هذه خطة ماكرون، التي جذب من خلالها أصوات الناخبين المسلمين من اليسار الفرنسي بجناحيه، ليسحق في الدور الثاني مارين لوبان، بتأييد من جميع التيارات الأخرى التي اتحدت ضد اليمين المتطرف.
ولكن ماكرون الذي واجه أزمات داخلية عديدة منذ بداية وصوله للسلطة، على رأسها مظاهرات السترات الصفراء المعترضة على رفعه لأسعار الوقود، يبدو أنه وجد أن المسلمين هم الطرف الأضعف الذي يمكن الضغط عليه لكسب اليمين الفرنسي، بعد أن بدأ يفقد تأييد الليبراليين واليساريين الفرنسيين.
وهكذا استهدف ماكرون المسلمين، حسب وصف زعيم اليسار الفرنسي الراديكالي جان لوك ميلينشون، وتسببت سياساته في مزيد من الاعتداءات العنصرية ضدهم، لاسيما النساء المحجبات، خاصة عام 2020.
ولم يهدِّئ ماكرون حالة الشحن ضد المسلمين، وكأنه يخاطر بإشعال حرب أهلية في بلاده، حسب تعبير سياسية فرنسية، من خلال بث الكراهية ضد المسلمين، متجاهلاً أنهم أصبحوا يمثلون الديانة الثانية في فرنسا، بل إنه واصل تصريحاته المستفزة عندما قال: إن الإسلام في أزمة.
كما كان لافتاً أن ماكرون، الذي قدم نفسه نبياً جديداً لليبرالية، ركز في سياسته الخارجية على التحالف مع المستبدين العرب، ومحاولة تنصيب الإسلام السياسي المعتدل عدواً لفرنسا، ونتيجة لذلك تعرض لنكسات عسكرية ودبلوماسية في ليبيا، وفشل في استعراض قوة ونفوذ فرنسا في شرق المتوسط وفي جنوب القوقاز (الحرب بين أذربيجان وأرمينيا).
غازل روسيا وافتعل مشكلات مع تركيا وبريطانيا
كما تجاهل ماكرون خطر روسيا على أوروبا، وأحياناً غازلها، بينما حاول حشد الاتحاد الأوروبي ضد تركيا، إحدى الدولة المسلمة الديمقراطية القليلة، مقابل تحالفه مع الحكام العرب المستبدين، وأثارت مواقفه، خاصة فيما يتعلق بالرسوم المسيئة للرسول، دعوات إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية في العالم الإسلامي.
ولكن أخطر تحدٍّ حقيقي واجه ماكرون هو فشله في إدارة أزمة وباء كورونا في فرنسا، وتداعياتها الاقتصادية، وأخيراً موقفه الضعيف ضد الغزو الروسي لأوكرانيا.
نتيجة هذه السياسات، أخرج ماكرون مارد التطرف الفرنسي من مخبئه؛ حيث لم يواجه فقط في الانتخابات السياسية اليمينية المتطرفة مارين لوبان، بل المرشح الشعبوي الأكثر تطرفاً إريك زمور، وحتى منافسته الوحيدة اليمينية الرئيسة التي لا تصنف متطرفة فاليري بيكريس هي يمينية محافظة تفاخر بأنها تمنع البوركيني في منطقة "إل دي فرانس" التي تحكمها (المنطقة المركزية في فرنسا التي تضم باريس وتسمى جزيرة فرنسا).
بينما كادت تختفي التيارات الليبرالية واليسارية المعتدلة في الحملة الانتخابية التي تحولت إلى صراع بين يمين محافظ ويمين متطرف، وماكرون الذي كان يصنَّف ليبرالياً، ولكنه فعلياً أصبح يمينياً يذكي النزعات الشعبوية، ليس فقط ضد المسلمين والمهاجرين الذين يتركهم يموتون في بحر المانش، بل يهدد جارة فرنسا بريطانيا، حليفته التاريخية التي أنقذتها من الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وحررتها في الثانية بقطع الكهرباء.
وإضافة لذلك، دخل ماكرون في صدمات عدة مع الأمة الفرنسية نفسها، والتي تندر عليها ذات مرة بوصفها قبائل الغال (سكان فرنسا القدامي الذين تعرضوا للغزو الروماني)، كما توعد بتنغيص حياة رافضي تلقِّي اللقاحات.
هل تعمّد ماكرون استهداف المسلمين وبريطانيا لاكتساب الشعبية؟
وأدى كل ذلك إلى صعود اليمين المتطرف الفرنسي وكذلك اليسار الراديكالي، وقد يكون هذا هدف ماكرون من سياسته ضد المسلمين وضد بريطانيا، أن يضع الناخب الفرنسي أمام ثلاثة خيارات مرة: إما انتخابه مع كل عجرفته مع الفرنسيين وغير الفرنسيين، مسلمين وغير مسلمين، أو انتخاب اليمين المتطرف، أو اليسار الراديكالي ممثلاً في جان لوك ميلينشون، الذي تبدو أفكاره خيالية وغير قابلة للتطبيق، رغم أن مواقفه إيجابية تحديداً تجاه المسلمين.
يبدو أن انخراط ماكرون في التحريض ضد مسلمي فرنسا وكذلك تركيا وبريطانيا، وإيطاليا في بعض الأحيان، عملية سياسية مقصودة تهدف إلى اجتذاب جزء من الناخبين اليمينيين.
وسبق أن اتهم بعض المسؤولين البريطانيين ماكرون بأنه ورط البلدين في أزمة حول حقوق الصيد في نهاية عام 2021 لإظهار أنه يعتني بمصالح الصيادين في شمال فرنسا قبل الانتخابات الرئاسية.
ومن الواضح أن هدف ماكرون الذي فقد كثيراً من شعبيته كان أن يكرر ما حدث في انتخابات 2017، أي أن يهزم المرشحين الليبراليين واليمينيين التقليديين في الجولة الأولى عبر اجتذابه الأصوات المندفعة وراء الشعوبية، وإبعاد النظر عن إخفاقاته، ثم يواجه لوبان في الجولة النهائية، حيث سيهرع الجميع إلى منح أصواتهم له حتى لو كرهوه، وذلك خوفاً من فوز لوبان.
ولكن النتيجة خطيرة على مستقبل فرنسا، حيث نقل ماكرون أجندة اليمين المتطرف من هامش السياسة الفرنسية؛ حيث كانت موصومة بالنبذ، إلى قلب الجدل الانتخابي، ومع استهدافه للتجمعات والمنظمات الإسلامية التقليدية التي أغلبها انتخبه في 2017، ووصفه دين الإسلام بأنه في أزمة، واستهدافه حريات المسلمين، ومحاولة الادعاء أن الإسلام السياسي أكبر خطر على فرنسا؛ شرعن ماكرون خطاب اليمين المتطرف ضد المسلمين.
كيف ساهم ماكرون في تعزيز مكانة بوتين؟
ومع غزله الخجول للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتأكيده على أن روسيا جزء من أوروبا، في وقت تحتشد فيه دبابات بوتين على حدود الناتو، أعطى ماكرون شرعية لحالة الإعجاب التي يكنها اليمين الفرنسي المتطرف لبوتين، والتي تظهر واضحة في سلوك لوبان وإريك زمور.
ومع افتعال ماكرون العداء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يرغب في دمج بلاده بالاتحاد الأوروبي، ولكن مع معاملتها وسائر المسلمين باحترام، أعطى ماكرون زخماً لأطروحات اليمين المتطرف المعجب بالرئيس الروسي؛ حيث يراه بعض اليمينيين الأوروبيين زعيم أوروبا في مواجهة الإسلام.
وهو توجه جعل اليمين المتطرف وبعض اليمين المحافظ طابوراً خامساً لروسيا البوتينية في قلب أوروبا، في وقت ثبت أن الخطر الحقيقي في وجه أوروبا هي روسيا وليس المهاجرين السوريين الذي يهربون من الكارثة التي ألحقها بوتين ببلادهم.
في انتخابات 2017، نُظر لماكرون بشكل إيجابي في أوساط المسلمين واليساريين المعتدلين وبعض المحافظين التقليديين، وعقد عليه أمل أنه سيكون الزعيم الذي سيحاول معالجة مشكلات فرنسا، والرجل الذي سيكون صريحاً في انتقاد تعصب العلمانية الفرنسية ضد الإسلام.
ولكن في انتخابات 2020، بدا للمسلمين واليساريين أنه لا يختلف كثيراً عن لوبان، فلا فارق كبيراً بين دعوته لمحاربة الانفصالية الإسلامية وبين دعوة لوبان لحظر الحجاب في الأماكن العامة.
كما أن أداءه الاقتصادي والإداري خلال أزمة كورونا، والذي بدا متناقضاً بشكل واضح مع الأداء الجيد لجارته الكبرى ألمانيا خلال الجائحة؛ سلط الضوء على عثراته.
الأزمة الأوكرانية بددت حلمه بقيادة أوروبا
وشكلت الأزمة الأوكرانية إحراجاً خاصاً له؛ لأن ماكرون أسس جزءاً كبير من سياسته الخارجية على التقارب مع روسيا، وكان من أواخر الزعماء الغربيين الذين زاروها قبل غزوها لأوكرانيا.
ولذا بدا ماكرون ساذجاً للغاية حينما غزا بوتين أوكرانيا بعد أيام من زيارة الرئيس الفرنسي لموسكو وتلميحه لمبادرة فرنسية لحل الأزمة.
والأهم أن مواقف ماكرون الضعيفة في الأزمة بددت محاولته لتقديم فرنسا زعيمةً لأوروبا وقائدة الاستقلال الاستراتيجي والدفاعي للاتحاد الأوروبي الذي طالما دافع عنه.
فها هو الاتحاد الأوروبي يواجه أكبر خطر أمني منذ تأسيسه، ولكن فعلياً بريطانيا والولايات المتحدة هما اللتان تقودان التحركات الأوروبية ضد روسيا، بل إن دولة متوسطة مثل بولندا يبدو أن لها دوراً أكثر أهمية من فرنسا، التي يقال: إنها تفضل أن ترسل السلاح سراً لأوكرانيا بينما تتباهى الدول الأوروبية والغربية، بما فيها ألمانيا ودول صغيرة مثل سلوفاكيا وجمهوريات البلطيق والسويد وفنلندا المحايدتين، بأنواع الأسلحة التي ترسلها لكييف.
والأهم أن سياسات ماكرون ساهمت في جعل أزمة أوكرانيا ليست أولوية على الإطلاق للناخب الفرنسي، وفي الوقت ذاته تضرر هذا الناخب من الغلاء الذي سببته هذه الأزمة، ولكن دون أن يكون على استعداد أن يدفع الثمن؛ لأنه على عكس الناخب في معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لم يُحشَد ضد روسيا باعتبارها الخطر الأكبر على الغرب.
والنتيجة أن التداعيات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية على فرنسا أكبر تأثيراً من غيرها؛ لأن الفرنسيين مهمومون بأسعار الوقود أكثر من اهتمامهم بمصير الأوكرانيين.
كما أنه من الواضح من تزايد التصويت لليمين المتطرف، أن الناخب الفرنسي لا يأبه باحتمال أن لوبان وزمور مجرد وكيلين لبوتين، بل إن فرنسا التي تقدم نفسها زعيمةً للاتحاد الأوروبي، أعطى نصف ناخبيها أصواتهم في الجولة الأولى لمرشحين منحازين أو معجبين بالرئيس الروسي.
إرث ماكرون المرير في السياسة الفرنسية لا يقتصر على سياسته تجاه المسلمين وروسيا وبريطانيا، فالرجل كان، عن قصد أو دون قصد، أحد المساهمين في إضعاف الأحزاب التقليدية الفرنسية، وبينما ملأ الفراغ بشخصيته القوية المثيرة للجدل، فإن ماكرون لن يكون موجوداً في انتخابات 2027، ولكن تأثيره سيبقى، وخاصة ما يتعلق بإعطاء الشرعية لأجندة اليمين المتطرف في ملفات مثل العداء للمسلمين والإعجاب بروسيا ومناكفة بريطانيا، وهي ملفات قد تصبح أدوات اليمين المتطرف للوصول لقصر الإليزيه، خاصة إذا استمرت حالة الفراغ في الوسط الفرنسي بشقيه اليميني المحافظ واليساري المعتدل.
ومع تحول لوبان إلى مرشحة رئيسة حصلت على أكثر من 40% من الأصوات، وبات الكثيرون لا يصفونها بالمتطرفة، خاصة أن ظهور المرشح الأكثر تطرفاً إريك زمور، جعلها تبدو أقل تشدداً، فإن ماكرون قد يكون قد ساهم عبر سياسته الشعبية عن قصد في تعبيد الطريق لوصول اليمينية المتطرفة مارين لوبان لقصر الإليزيه في عام 2027.