يرى الكثيرون أن هجوم روسيا العسكري على أوكرانيا يشكل انتهاء لمرحلة سابقة، وبدءاً لعهد جديد في العالم، وخصوصاً في مجال السياسة العالمية، وهيمنة الغرب فيها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكن ليس من ناحية عسكرية صرفة، فليس من الضروري أن تكون هذه هي الحالة نفسها، فما يحصل اليوم هو استنساخ لأمور حصلت سابقاً إذا ما نظرنا إلى الخطوط العامة.
لكنّ أكثر ما يرعب العالم اليوم هو إمكانية عودة الخطر النووي في العالم، خصوصاً مع التقارير والتصريحات الكثيرة التي تتكلم عن إمكانية استخدام بوتين للسلاح النووي في أوكرانيا، ولو على مستوى ضيق.
وهي أجواء تذكر بعهد الحرب الباردة، عندما كان العالم يخشى إمكانية استخدام إحدى القوى العظمى لسلاحها النووي ضد الأخرى، ما قد يدفع إلى ضربات انتقامية؛ تتوافر فيها لدى القوى العظمى الإمكانية لإنهاء العالم بأسره، ودون استخدام كامل الترسانة النووي حتى.
يشكل هذا الخطر الذي يتم الحديث عنه بكثرة في هذه الأيام العلامة التي يقول عنها البعض إنها مؤشر المرحلة الجديدة في تاريخ العالم، واختلاف طريقة خوض المعارك والحروب فيه، على الأقل احتمالية تغير الأمر، لأن روسيا حتى الآن لم تستخدم أي سلاح غير تقليدي.
ادعاءات الاستعداد لأسلحة الدمار الشامل
تدعي تقارير كثيرة، ومعها تصريحات من مسؤولين أوكرانيين وغربيين، أن بوتين قد يلجأ لاستخدام أسلحة دمار شامل في أوكرانيا؛ نتيجة لإحباطه من مسار العملية العسكرية، والتي يقول الغرب إن الجيش الروسي متعثر فيها بشدة، وإنه يلاقي مقاومة أوكرانية قوية جداً، وغير متوقعة في نفس الوقت من قبل أي أحد.
تقول هذه التقارير إن بوتين قد يلجأ لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية، أو ربما أسلحة كيميائية، سواء على نطاقات صغيرة أو حتى أكبر من المتوقع، لتضمن له نصراً في أوكرانيا دون الحاجة لخسارة المزيد من الجنود والمعدات العسكرية، والتي يقول الأوكرانيون إن روسيا خسرت من هذه الجوانب أكثر من خسارتها خلال حربها في أفغانستان طوال عقد كامل.
والخوف الأساسي من الأسلحة النووية التكتيكية، أو استخدام الأسلحة الكيميائية على نطاق ضيق؛ كاستخدامها ضد قوات أوكرانية محاصرة، مع إمكانية تعمية العالم عن معرفة أنباء استخدامها من قبل الجيش الروسي مثلاً، أما الأسلحة النووية التكتيكية فلا يمكن إخفاء استخدامها طبعاً، ولكن لأنها أقل تأثيراً بكثير من غيرها، فهناك مخاوف أيضاً من إمكانية استخدامها من قبل بوتين.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك فحسب؛ فاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، أو الكيميائية على نطاق ضيق، قد يصبح مقبولا بسبب السابقة الأوكرانية المحتملة الحدوث، خصوصاً أن استخدام السلاح النووي من قبل روسيا على نطاق صغير، يعني أن الآثار ستكون محدودة على الأراضي الغربية نفسها.
وفي المقابل؛ فإن أي رد غربي على الخطوة الروسية قد يعني حرباً نووية شاملة تنهي الكوكب، ولا يرغب بها أي من الطرفين، ولا يستطيع احتمالها أصلاً.
ولكن هل فعلاً هناك إمكانية لاستخدام الأسلحة النووية في الحرب الحالية؟ وكم يختلف شكل الصراع الحالي عما سبقه من تاريخ الصراعات العسكرية المختلفة في العالم؟
فصل جديد من نفس المرحلة
لكن التاريخ؛ بحسب Foreign Affairs، ينبئنا أن الظرف الحالي ليس جديداً على العالم، بل قد مررنا سابقاً بلحظات أشد توتراً وأكثر صعوبة، مع قادة أكثر "إجراماً" في نظر الغرب من بوتين حاليا،ً بل إن التقرير يصفهم بأنهم معتلون اجتماعياً، بينما يصف رؤساء أمريكيين بأنهم سياسيون بسطاء.
ولكن بعيداً عما يروجه الغرب؛ لم يتم استخدام السلاح النووي في التاريخ إلا مرة واحدة، وكانت الولايات المتحدة هي المسؤولة عن هذا الاستخدام، وتم ذلك ضد دولة لا تمتلك مثل هذا السلاح، بل تم ذلك في نهاية الحرب، وربما دون داعٍ أو حاجة حقيقية لهذا الاستخدام.
ومنذ أن استطاعت دول أخرى تحقيق صناعة الأسلحة النووية؛ أصبح السلاح النووي سلاحاً رادعاً، يمنع استخدام الأسلحة النووية التي في يد الأعداء، لعلمهم بأن ذلك يعني نهاية الجميع.
مع ذلك؛ استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية السلاح النووي كأداة لابتزاز دول لا تملك أسلحة نووية، وهي الحالة المعروفة بـ"الابتزاز النووي"، عندما هددت أمريكا كوريا الشمالية والصين باستخدام هذا النوع المدمر من الأسلحة ضدهما، ما لم توقف حرب كوريا الشمالية، وربما كان لهذا الابتزاز الأثر الأكبر في دفع البلدين لتطوير سلاحهما النووي الخاص لاحقاً، كي لا يتعرضا للابتزاز من قبل دولة غربية في المستقبل.
والحرب الكورية مفصلية في تاريخ العالم، وهي- كما يتحدث مقال Foreign Affairs؛ مثلت بداية نهاية عصر الحرب الشاملة، والشبيهة بالحربين العالميتين، والحروب النابليونية أيضاً، وبدء عصر الحرب المحدودة.
وقد استنسخ نموذج الحرب الكورية لاحقاً في التاريخ في جميع الحروب تقريباً، وأصبحت هي النمط السائد في العالم، فكل الحروب التي خيضت في العقود الماضية كانت من نمط الحرب المحدودة.
لكن هذه الحروب لم تنتهِ بنفس الطريقة، وكل ما يمكن أن نعرفه أن الحرب المحدودة لا تتضمن صراعاً شاملاً على مساحات واسعة جداً، تتطور لتصبح حروباً إقليمية كبرى، أو حرباً عالمية مثلاً، كما أنه لا تستخدم في مثل هذه الحروب أسلحة الدمار الشامل، ويقتصر على استخدام الأسلحة التقليدية، ومحاولة فرض الأهداف السياسية والعسكرية عن طريقها فقط.
وما لم تستطِع الدول الكبرى تحقيق أهدافها بهذه الأساليب؛ فإنها ببساطة تقبل بالأمر الواقع نهاية، وتضطر لتوقيع اتفاقيات سلام، أو القبول بالجمود العسكري على أرض المعركة، وترك الأمر على ذلك الحال.
لماذا لن نرى استخداماً للأسلحة النووية؟
مر العالم بأزمات وحروب كثيرة في الحرب الباردة؛ بدءاً بالحرب الكورية، أزمة الصواريخ الكوبية- والتي سبقها نشر الولايات المتحدة الأمريكية لبنية تحتية نووية في تركيا المجاورة للسوفييت، حربي فيتنام مع فرنسا وأمريكا، حرب أكتوبر/تشرين الأول، وحرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، عدا عن تدخلات واشنطن وحروبها الكثيرة في الشرق الأوسط، قبل وبعد نهاية الحرب الباردة.
في كل هذه الحروب تصاعد الخوف من إمكانية استخدام أسلحة نووية، ويمكن القول أيضا إنه وفي جميع هذه الحروب لم تتم دراسة الخيار النووي فحسب، بل كانت القوى الكبرى في ظرف لا تحسد عليه، وفي إحباط كبير من مسار الحرب باستخدام الأسلحة التقليدية.
لكن الجميع التزم طوال تلك العقود، وفي كل تلك الأزمات والحروب بعدم استخدام الأسلحة النووية في النهاية، وإن تمت دراسة استخدامها في كثير من الأحيان، ولا يعود ذلك إلى أسباب أخلاقية منعت استخدام الأسلحة النووية، بل لأن الجميع يعلم خطر استخدامها على نفسه، كما أنه خطير على الجميع.
تم تطوير قواعد استخدام السلاح النووي على مدى هذه العقود، وتشكيل عقائد نووية مختلفة لكل دولة نووية في العالم، ولكن هذه العقائد والقواعد لم تتطور نتيجة "لقراءة كتاب ما، أو عبر المفاوضات، لم يكن اتباعها نتيجة للإيمان بها أو الأمل أو الصدقة"، ولكن تم تطويرها واتباعها بشكل عملي.
عمل صانعو السياسة الخارجية في الدول النووية؛ وتحديداً في واشنطن وموسكو على تطوير هذه القواعد والالتزام بها، ونجحوا بذلك في تجنب المواجهة المباشرة بينهما، وتجنب استخدام الأسلحة النووية، والانزلاق نحو نهاية العالم.
كيف ينظر الغرب لعملية روسيا العسكرية في أوكرانيا؟
تتحدث Foreign Policy عن ثلاث مراحل للعملية العسكرية الروسية، تضمنت ثلاث خطط مختلفة لبوتين في الحرب، تم تغييرها بناء على تطور الوضع الميداني على الأرض.
فالخطة الأولى كانت النصر السريع في الاستيلاء على أوكرانيا، وتبديل الحكومة الحالية بحكومة صديقة لها، ولكن هذه الخطة وُوجهت بصمود ومقاومة كبيرين من الأوكرانيين، ما منع إنجاحها، واضطر موسكو لتغيير خطتها لخطة بديلة.
قضت الخطة الثانية بضرب المدن الأوكرانية عن بعد، لتقليل خسائر الجيش، ولمحاولة تحطيم معنويات الأوكرانيين، ولكن ذلك لم ينجح أيضاً بحسب المقال، ولذلك اضطرت موسكو للانتقال للخطة البديلة الأخيرة، والتي لا تزال تعمل على تحقيقها اليوم.
هذه الخطة البديلة هي نفسها ما تسميه موسكو "المرحلة الثانية من الحرب"، بعد ادعائها أنها استطاعت تنفيذ جميع أهداف المرحلة الأولى بنجاح وكما هو مخطط له، وجاء الوقت الذي تحتاج فيه لبدء تحقيق المرحلة الثانية من الحرب والخطة العسكرية.
تتضمن الخطة الأخيرة والتي يتم تنفيذها اليوم السيطرة على كامل أراضي الدونباس، بالإضافة إلى جزء كبير من الأراضي الأوكرانية في الشرق والجنوب، بما في ذلك 80% من شواطئ أوكرانيا، والتي تمثل جزءاً مهماً من اقتصادها وتجارتها مع الخارج.
وهي نفسها المنطقة التي تعتبرها روسيا جزءاً منها؛ لم يكن من المفترض انفصالها عنها سابقاً، وهي تمثل مشروعاً قومياً طموحاً لاستعادتها، خصوصاً لأهميتها الاقتصادية، ولأن الأقلية الروسية في أوكرانيا تمثل غالبية سكان هذه المناطق.
بطبيعة الحال؛ قد تنتهي الحرب بكثير من الطرق، وقد يطول أمدها أو يقصر، وقد يثبت الوقت أن روسيا خسرت بنفس القدر الذي يدعيه الغرب والأوكرانيون، وقد لا يحصل كل ذلك، ولكن المرجح بشكل كبير جداً ألا تؤدي أي نتيجة لاستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، وألا يتدخل حلف شمال الأطلسي أو دولة غربية في الصراع بشكل مباشر؛ بما يعني رفع احتمالية قيام مثل هذه الحرب.