مفاجآت صادمة تظهر في مواقف كثير من اللبنانيين تجاه الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تُعقد جولتها الأخيرة اليوم الأحد 24 أبريل/نيسان 2022.
فالمرشحة اليمينية المتطرفة المعادية للإسلام مارين لوبان تحصل عادة على نسبة لا يستهان بها من أصوات اللبنانيين الذين يحملون الجنسية الفرنسية، وقد تزيد نسبتها في الانتخابات الحالية، والأغرب أن هؤلاء المصوّتين لها ينتمون إلى طوائف وجهات سياسية مختلفة وأحياناً متباينة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
الانتخابات الرئاسية الفرنسية تحظى باهتمام أقل هذه المرَّة
لَطالما كانت قضايا السياسة الفرنسية موضوعاً للنقاش بين اللبنانيين، ولا شك في أن لبنان كان على مدار تاريخه أكثر بلدان الشرق الأوسط انشغالاً بالمعارك السياسية الداخلية في فرنسا.
يستند ذلك الاهتمام إلى الروابط التاريخية العديدة بين البلدين، وهي روابط ترسخت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية، ثم خلال ما أعقبها من سنوات الاستعمار الفرنسي للبنان. واليوم، ما زالت الفرنسية لغة يجيدها نحو نصف سكان لبنان.
تقدم الزمن، وحصلت طائفة من اللبنانيين على الجنسية الفرنسية أيضاً، وفي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي عُقدت مؤخراً، كان في لبنان 19 ألف شخص يحق لهم التصويت بتلك الانتخابات، وفي كل ثمانية من هؤلاء واحدٌ يحمل الجنسيتين اللبنانية والفرنسية.
على الرغم من ذلك، لم يُظهر كثير من اللبنانيين اهتماماً كبيراً بالأحداث الجارية في فرنسا هذا العام. وفي واقع الأمر، لقد صارت السياسة الدولية أمراً بعيداً كل البعد عن أن تكون محل اهتمام كبير للبنانيين العاديين، المنهمكين في أزمات عديدة يعيشها بلدهم، ولا يعرف أحدٌ نهاية لها.
تقول منى، وهي لبنانية تعيش في بيروت وواحدة من المتأثرين، بشدة بأزمة البلاد الحالية: "لكي تكون مُطلعاً، يجب أن تكون قادراً على الوصول إلى المعلومات، وتستطيع تحمُّل تكلفة الاتصال بالإنترنت، والحصول على الكهرباء. ولكي تهتم بالعالم، يجب أن تكون أنت نفسك مستقراً في مكان جيد، إلا أن الحال ليست كذلك للناس هنا".
استدركت منى بالإشارة إلى الانتخابات النيابية المقررة بلبنان في 15 مايو/أيار، وقالت: "لا شك في أن لديَّ اهتماماً بالانتخابات في فرنسا، لكني أقول بصراحة، إن انشغالي الأكبر هو بالانتخابات المقبلة هنا في لبنان".
ولكن ما زالت فرنسا مهمة بالنسبة للبنانيين
على الرغم مما يشهده لبنان من تدهور يتعذر التنبؤ بمآلاته، يقول بعض اللبنانيين إنهم ما زالوا يحاولون الإبقاء على طرف من الاهتمام بالأحداث الدولية، لا سيما ما تنطوي عليه الأحوال في فرنسا من تغيرات وأمور على المحك.
يقول ميشال توما، مدير التحرير في صحيفة Ici Beyrouth اللبنانية، إن "اللبنانيين يتابعون أخبار فرنسا، لا سيما أخبار الانتخابات العامة، لسببٍ واضح: أنهم يعرفون أن هوية الرئيس [الفرنسي] وتوجُّهه سيكون لهما تأثير حاسم في وضع بلادهم".
إلى الرأي نفسه يذهب وديع الأسمر، رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان (CLDH). ويقول الأسمر إن ظهور رئيس جديد بقصر الإليزيه يحمل تأثيراً كبيراً في لبنان؛ لما لفرنسا من نفوذ قوي هنا، و"هذا أبرز سبب لما تشهده هذه الانتخابات الرئاسية من متابعة وثيقة [بين اللبنانيين] مع كل الأمور الأخرى التي تقع بهم".
يرى الأسمر أن لبنان لا يزال يحتل مكانة مهمة لدى المرشحين الفرنسيين، ويستشهد بما حدث خلال الانتخابات السابقة عام 2017، فقد جاء معظم المرشحين الرئاسيين الفرنسيين إلى لبنان خلال حملتهم الانتخابية. ومع ذلك، فإن ذلك لم يحدث في انتخابات هذا العام، لأسباب مختلفة.
اليمين المتطرف يصرف النظر عن المشكلات الحقيقية
أعرب بعض اللبنانيين عن مخاوفهم بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في فرنسا هذا العام، والتي فاز فيها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بنسبة 27.84% من الأصوات، متقدماً على مارين لوبان، مرشحة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، التي جاءت في المرتبة الثانية بنسبة تصويت بلغت 23.15%.
اختلفت الآراء في لبنان حول ما شهدته الحملات الانتخابية في فرنسا، لا سيما ما غلب عليها من خطاب يضطرم بالانقسام حول التعامل مع قضية الهجرة إلى فرنسا، وفوق ذلك فإن كثيراً من القضايا المهمة للمجتمع لم يُتطرَّق إليها كثيراً، وحلَّ محلها التنازع الشديد بشأن سياسات الهوية، وخطاب الكراهية المتنامي في المجتمع الفرنسي.
يقول فلوريان زوين، وهو صحفي فرنسي لبناني يعيش في بيروت، إن الجدل "يكاد لا يفارق الدوران حول قضايا الإسلام والهجرة والأمن، أما المشكلات الحقيقية، والقضايا التي تهم الشباب، فلم تجد لها نصيباً في النقاش".
يرى وديع الأسمر أن انصراف الناس إلى الموضوعات المثيرة للجدل أكثر من التركيز على الموضوعات المهمة أمرٌ "مقلق حقاً، بل خطير"، ويستنكر الأسمر أن "الأحزاب السياسية الفرنسية تقاعست عن إشراك اليمين المتطرف في القضايا المحورية، مثل المساواة الاجتماعية وتغير المناخ وقضايا البيئة، وأقبلت بدلاً من ذلك على التنازع مع أحزاب اليمين المتطرف على أرضها" والقضايا التي تطرحها.
وقال الأسمر: "يجب على جميع الأحزاب السياسية، وأولهم حزب (الجمهورية إلى الأمام!) الذي ينتمي إليه ماكرون، أن تفكر في كيفية تحويل النقاش بعيداً عن النقاشات التي يدفعها الخوف، والعودة إلى المشروعات الاجتماعية الحقيقية".
البعض في لبنان تأثر بآراء إريك زمور المعادي للإسلام
أما توما، الصحفي اللبناني، فيقول إن "التدهور الثقافي" السائد بالمجتمع مساهم أساسي في المناخ الحالي، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة لا تقتصر على فرنسا. فهو يرى أن "لهجة النقاش السياسي في العالم أجمع تشهد تردياً عاماً، وقد تجلى ذلك في الولايات المتحدة خاصةً، لكن الظاهرة [عالمية]، وتكاد تشمل جميع المجالات الفكرية والثقافية والفنية وتعلن عن نفسها فيها".
وأضاف توما: "والأمر لا يختلف في لبنان، فالبلد يشهد تدهوراً ملاحَظاً بجميع المجالات"، ومن ثم لم يسلم لبنان من تأثر البعض فيه بآراء إريك زمور، الذي كان مرشحاً في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهو يميني متطرف يطلق عليه كثيراً اسم "دونالد ترامب الفرنسي".
يقول أنطوني سمراني، نائب رئيس تحرير صحيفة L'Orient-Le Jour الناطقة بالفرنسية، إن نفوذ زمور في لبنان "يمكن إرجاع بعض أسبابه إلى إشارة زمور كثيراً إلى لبنان، حتى وإن كانت الإشارة بالذم، علاوة على حضور اليمينيين هنا، خاصة بين المسيحيين اللبنانيين، الذين يميلون إلى هذا النوع من الخطاب، وهو خطاب لا يختلف كثيراً عن الخطاب السائد بين الميليشيات المسيحية اللبنانية خلال الحرب الأهلية".
كتب سمراني في مقال افتتاحي نُشر في اليوم التالي لظهور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، تحت عنوان "تشرذُم فرنسا" La France en miettes، وتحدث فيه عن "سُمِّ نظريات المؤامرة الذي بات مبثوثاً في النقاش العام هناك".
وقال سمراني إن النقاش العام للانتخابات اعتراه "تصاعد كبير في الشعبوية، لا سيما الشعبوية اليمينية المتطرفة، التي استمدت وقودها من شعور عام بالانحدار، الحقيقي أو المتوهم، وبأن البلاد تشهد تغيرات ديموغرافية، بعضها حقيقي وبعضها متوهم أيضاً، تخترق المجتمع وتغير ملامحه".
البعض يرى أن ماكرون قد عزز نفوذ حزب الله
لطالما فازت الأحزاب اليمينية في فرنسا بتأييد قطاع واسع من الناخبين اللبنانيين الذين يصوتون في الانتخابات الفرنسية، فقد حصل الرئيس الفرنسي جاك شيراك في وقته على ما يقرب من 80% من الأصوات، وفي عام 2017 حصل فرانسوا فيون على 61% من الأصوات في الجولة الأولى. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يفوز إيمانويل ماكرون بهذه الانتخابات، ويتقدم على مارين لوبان، التي بالكاد حصدت 11% من أصوات مزدوجي الجنسية الحاملين للجنسيتين اللبنانية والفرنسية.
ومع ذلك، فإن معدل الامتناع عن التصويت بين شريحة اللبنانيين الفرنسيين كان مرتفعاً على نحو غير مسبوق، فقد بلغ 62.32%، وهو ما يدل على تفاوت شديد بينهم في رؤيتهم لماكرون.
يسترجع كثيرون زيارة ماكرون للبنان عام 2020 في أعقاب انفجار مرفأ بيروت، وهي زيارة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، إلا أن المبادرات التي أعلن عنها ماكرون لمساعدة لبنان لم تُسفر عن شيء في النهاية. ويقول زوين، الصحفي اللبناني الفرنسي: "لهذا السبب، لم يعد أغلب اللبنانيين يتوقعون منه الشيء الكثير، لا سيما أنه فشل بالفعل في الاستجابة لمطالب المجتمع المدني".
إلا أن سمراني يقول إن حتى فشل ماكرون في الوفاء بوعوده قضية تتفاوت آراء اللبنانيين حولها، فبعضهم يثمِّن الوقت والجهد اللذين بذلهما [ماكرون] لإنقاذ لبنان من الخراب، وعلى النقيض يشير كثيرون إلى أنه "ساعد في إعادة إضفاء الشرعية على الحكومة القائمة [في لبنان]" في أعقاب التظاهرات المناهضة لتلك الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
كما ينتقد بعض اللبنانيين دور ماكرون في استيعاب حضور حزب الله بالمعادلة السياسية، ويتهم كثير من اللبنانيين الحزبَ بأنه المسؤول عن فشل فرنسا في الوفاء بوعودها في لبنان، ويقولون إن "ماكرون لم يفشل عن وهن في عزيمته أو قلة في الاهتمام، بل لأن حزب الله خدعه".
أما أنصار حزب الله، فيستحسن كثير منهم رغبة ماكرون في الحوار مع قادة الحزب، إلا أن ذلك لم يمنع الأمين العام لحزب الله من انتقاد الرئيس الفرنسي؛ "للهجته المتعالية" حين اتهم الطبقة السياسية اللبنانية كلها بـ"الخيانة الجماعية".
ولكن الحزب يفضّل فوز مارين لوبان
مهما كان من أمر، فإن الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية ستحظى بمتابعة كبيرة في لبنان، ولأسباب وجيهة، منها ما يشير إليه الأسمر بالقول: "إن هناك مخاوف كثيرة من اضطراب سياسي محتمل، لأن الانتخابات يشارك فيها حزب بعيد عن الاهتمام بلبنان، وأميل إلى القرب من روسيا أو الصين".
في الواقع، قد يؤدي فوز مارين لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية إلى انقلاب الأمور كلها، فهي لم تخفِ قط ميلها إلى دمشق وموسكو، مثلها مثل شريحة كبيرة من اليمين المتطرف الفرنسي، ومن ثم فإن انتصارها قد يعني تغيير فرنسا لوجهة دعمها في لبنان.
وقال توما: "حزب الله يأمل بالتأكيد أن تنتصر مارين لوبان، ودافعه إلى ذلك مواقفها المعلنة من الصراعات الإقليمية، إذ يتوقع أن تكون متعاطفة مع روسيا والأسد.
في اليوم التالي للجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، نشرت صحيفة الأخبار اللبنانية، القريبة من حزب الله، مقالاً حمل وجهة نظر واقعية في الانتخابات، قال كاتبه: إن فوز لوبان، المتعاطفة مع روسيا، يمكن أن يزعزع استقرار التحالف الغربي في حربه على موسكو، ويغير وجهة باريس التي هي قوة أوروبية كبرى، ومن ثم يمهد الطريق لتنازع الدول الغربية الأخرى مع الولايات المتحدة والناتو".
ومع ذلك، من المتوقع أن يلقى أي انحياز علني من مارين لوبان إلى حزب الله استنكاراً شديداً من أنصارها، ولذلك رفضت لقاء ممثلين عن الحزب في عام 2017، وآثرت في الوقت نفسه تعزيز علاقتها مع الرئيس اللبناني ميشال عون، الذي هو نفسه متحالف مع حزب الله.
الخلاصة أن اللبنانيين يدركون حقيقة بارزة: لقد أصبح لبنان بطريقة ما طرفاً لا يمكن إلا أن يتأثر بما تحمله التغيرات الدولية، ومن هنا، فإن الانتخابات الفرنسية، وبصرف النظر عن التدابير التي ينتهجها الطرف الفائز بها وما ستؤول إليه الأوضاع في باريس، ستكون لها حتماً تداعيات على الوضع في لبنان.