مرّت ثمانية عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وما زالت أوروبا معتمدة على أمريكا بشكل كلي، مع ذلك، يحتفي المسؤولون الأمريكيون بالطلب المتوقع من جانب فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). وبحسب وجهة النظر الأمريكية، يُطرَح انضمام هذين البلدين باعتباره عاملاً مُعزِّزاً لقوة الحلف. لكنَّ الولايات المتحدة، بمفردها أو بالاشتراك مع حلفائها الـ29 بالناتو من شأنها أن تهزم موسكو في أي منافسة قارية بسهولة.
وكان ذلك واضحاً حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. والآن، بعد مرور شهرين على اندلاع الصراع الذي كان من المُفتَرَض أن يجتاح الأخيرة في غضون أيام أو أسابيع قليلة على أقصى تقدير، لا أحد يتصور أنَّ موسكو تحتفظ بأكثر من مجرد "شبح" للقدرات العسكرية التقليدية للاتحاد السوفييتي، كما يقول دوغ بانداو، الزميل الأول بمعهد كاتو ومساعد خاص سابق للرئيس الأمريكي رونالد ريغان، في مقالة له موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
لماذا يجب على الناتو إغلاق باب الانضمام أمام فنلندا والسويد؟
يقول بانداو، إن توسع حلف الناتو لم يكن في أي وقت من الأوقات مرتبطاً بالأمن الأمريكي، بل كان يهدف لتوسيع يد النفوذ والعون الدفاعية لواشنطن باسم تعزيز الاستقرار الإقليمي. فلماذا يجب أن يزيد الأمريكيون حملهم الدفاعي الآن؟ على الولايات المتحدة التوقف عن إضافة أعضاء جدد للحلف العابر للمحيط الأطلسي، وأن تستعد بدلاً من ذلك لنقل مهمة الدفاع عن أوروبا إلى أوروبا. إليكم تسعة أسباب لإبقاء الباب مغلقاً في وجه فنلندا والسويد، من وجهة نظر الخبير والمستشار الرئاسي الأمريكي السابق دوغ بانداو.
1- لا فنلندا ولا السويد عرضة للخطر
تُعَد كلتا الدولتين مُسلحتين تسليحاً جيداً، ولا تملك أيٌ منهما نزاعات كبرى مع موسكو. في الواقع، حافظت فنلندا على استقلالها باعتبارها بلداً محايداً في مواجهة الاتحاد السوفييتي. وحتى أكثر المحللين الذين يعانون من رهاب روسيا لا يطرحون أي أدلة على اعتزام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو البلدين وإضافتهما إلى اتحاد سوفييتي جديد موسع. وإذا حاول فعل ذلك، تشي تجربة أوكرانيا بأنَّ البلدين سيفرضان عليه ثمناً رهيباً.
2- خرافة "الباب المفتوح" للناتو عبارة عن خيال روَّج له الراغبون في توسيع الحلف باستمرار
لا يملك أي بلد الحق في الانضمام للناتو. ولا يملك أي بلد الحق في دفع الحلف للنظر في فكرة جعله عضواً. بل تنص المادة 10 على: "للأطراف، من خلال الاتفاق بالإجماع، دعوة أي دولة أوروبية أخرى في وضع يُمكِّنها من تعزيز هذه المعاهدة والإسهام في أمن منطقة شمال الأطلسي، للانضمام إلى هذه المعاهدة".
يدعو حلف الناتو الأعضاء وفق ما يراه مناسباً. ولا يوجد التزام عليه للنظر في طلبات الانضمام، ناهيك عن الموافقة عليها. ويتمثل هدف الحلف في حماية أعضائه، وليس الدول الأخرى.
3- ستضيف فنلندا والسويد للناتو التزامات دفاعية أكثر مما ستضيفه من الأصول الدفاعية
لن يغير أي البلدين توازن القوى مع روسيا بشكل كبير. فمن الناحية الجغرافية، تساعد فنلندا والسويد في حماية النرويج من روسيا، لكن لا يبدو أنَّ هجوماً كهذا وشيكاً. ويمكن لفنلندا استضافة قوات الحلفاء المستعدة لمساعدة دول البلطيق، لكن سيكون من المنطقي أكثر آنذاك وضع هذه القوات في دول البلطيق نفسها. لكنَّ إضافة فنلندا سيوسع حدود الناتو مع روسيا بأكثر من 830 ميلاً (1335.8 كم تقريباً)، وهو ما يتطلَّب التزاماً أكبر من الحلفاء، وسيكون هذا الالتزام من الناحية العملية التزاماً أمريكياً.
4- الالتزام يولد الالتزام
تطالب دول البلطيق وبولندا بوجود محميات أمريكية دائمة. وقامت وارسو بحملة لوبي (ضغط) كبيرة خلال إدارة ترامب، وعرضت تسمية المنشأة الجديدة "كامب ترامب". وحتى مؤيدو تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا انتقدوا الفكرة لأنَّها تحقق أهدافاً سياسية وليست أمنية. فمن شأن ضم المزيد من البلدان المتاخمة لروسيا أن يزيد على الأرجح الدعوات لمزيد من عمليات النشر غير الضروري للقوات الأمريكية.
5- موسكو ستنظر إلى ضمهما على أنَّه تهديد
وبالفعل، تمثل فنلندا طريقاً آخر لمدينة سان بطرسبرغ، إذ تبعد الحدود الفنلندية أكثر بقليل من 100 ميل (161 كم تقريباً). وقد حذَّر دميتري ميدفيديف، حليف بوتين طويل الأمد، بالقول: "إذا انضمت السويد وفنلندا للناتو، ستزيد حدود الحلف مع الاتحاد الروسي بأكثر من الضعف، وسيتعين تعزيز هذه الحدود". وهو ما يعني أنَّ موسكو على الأرجح ستعتمد على سياسة "الانتقام الشامل" التي اتبعتها أمريكا خلال الحرب الباردة، وذلك باستخدام الأسلحة النووية لتغطية الضعف التقليدي.
6- تعزيز المخاوف الأمنية التي حفَّزت سياسة روسيا العدوانية ضد كل من جورجيا وأوكرانيا
وعلى الرغم من إنكار "بطيئي الفهم" في واشنطن أنَّ السياسة الأمريكية كان لها أي علاقة بالتصرفات الروسية، انتهك الحلفاء بصورة طائشة ضماناتهم بأنَّ الناتو لن يتوسع، فقاموا بعمليات عسكرية عدوانية تقوض المصالح الروسية، وروَّجوا لتغيير نظم الحكومات الصديقة لروسيا. ولو كانت روسيا تصرفت على نحو مماثل في أمريكا اللاتينية، لكانت الولايات المتحدة هددت بالحرب. ومن شأن تعميق الانقسام الأوروبي أكثر من خلال ضم فنلندا والسويد أن يفاقم العداوات المتعمقة بالفعل.
7- لا توجد مصلحة أمنية كبيرة للولايات المتحدة في أي البلدين، وبالتالي لا يوجد مبرر لخوض حرب من أجلهما
فرغم "خيال" الناتو الذي يرى أنَّ الولايات المتحدة والأوروبيين يتعاونون في دفاعهم المشترك، فإنَّ واشنطن في الممارسة العملية هي التي تدافع عنهم. وقد توسع الحلف في السنوات الأخيرة وصولاً إلى بلدان لا حول لها ولا قوة وعديمة الأهمية وصغيرة ومعزولة، بما في ذلك كرواتيا وألبانيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وسلوفينيا ودول البلطيق، ولا تمثل أيٌّ من هذه البلدان أهمية للأمن الأمريكي.
8- تمتلك فنلندا والسويد جيشين قويين من شأنهما تعزيز نظام دفاعي أوروبي مستقل
مع ذلك، من شأن توسيع دور يد العون الأمريكية في الدفاع الأوروبي تثبيط الجهود الدفاعية لهما ولآخرين. فاليوم، يخصص 19 أعضاء الناتو (بما في ذلك كندا) أقل من 2% من الناتج المحلي الإجمالي لقواتها المسلحة. ومن بين كبرى البلدان الأوروبية، تترك ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا بشكل كبير عبء الإنفاق والقتال للأعضاء الآخرين. وحتى دول البلطيق وبولندا، وهي بلدان عالية الصوت جداً في التعبير عن مخاوفها من العدوان الروسي، لا تنفق إلا أكثر بقليل من 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على مجالها الدفاعي، وهو مبلغ زهيد في حال كان استقلالها في خطر حقاً.
علاوة على ذلك، وجدت الاستطلاعات أنَّ الأغلبيات الشعبية في العديد من الدول الأوروبية تعارض الدفاع عن بعضها البعض. ومع أنَّ برلين وعدد من الدول الأوروبية الأخرى بدأت تصدر تصريحات جيدة، فإنَّ الحماسة الشعبية لإنفاق المزيد على الجيش من المرجح أن تنحسر مع نشر واشنطن المزيد من قواتها في القارة. ومن المرجح ألا تتعامل أوروبا مع أمنها جدياً إلا حين تنهي واشنطن سياستها المستمرة في "طمأنة" الحلفاء بأنَّها ستقوم إلى الأبد بما هو ضروري لحمايتهم بصرف النظر عن مدى ضآلة مساهماتهم.
9- لم يعد بمقدور أمريكا تحمُّل أن تكفل "مجموعة من الدول المُفرِّطة غير المبالية"
يجب على أمريكا أن تقلص إعانتها الدفاعية، لا أن توسعها. إذ وصل العجز الفيدرالي السنوي إلى نحو 3 تريليونات دولار في 2020 و2021. وسيبلغ العجز هذا العام 1.3 تريليون دولار، بافتراض عدم تمكُّن إدارة بايدن من زيادة الإنفاق أكثر في سنة الانتخابات.
وحتى في ظل نهاية جائحة كوفيد، تنبَّأ مكتب الموازنة بالكونغرس بتحقيق عجز تصل قيمته إلى أكثر من 12 تريليون دولار على مدار العقد المقبل، مع تحقيق عجز أكبر بكثير في المستقبل في ظل ارتفاع متوسط الأعمار في أمريكا. وتجاوزت الديون الفيدرالية العامة بالفعل حاجز 100%، وتقترب من الرقم القياسي البالغ 106% المُسجَّل عام 1946. وسيكون اللجوء إلى تخفيضات كبيرة في الإنفاق أمراً ضرورياً. وهو ما سيجعل النفقات العسكرية، لاسيما تلك التي تفيد الحلفاء المزدهرين كثيري السكان، مثل أولئك الموجودين في أوروبا، هدفاً لتخفيضات كبرى في الإنفاق.
يقول دوغ بانداو في النهاية، إن الهجوم الروسي على أوكرانيا يمثل تذكرة قاسية بأنَّ واشنطن يجب أن تتوقف عن توزيع الضمانات الأمنية كما لو أنَّها توزع الحلوى على الأطفال. لم يضم الحلفاء كييف إلى الناتو لأنه لم يكن هنالك ما يدعوهم للدفاع عنها والمخاطرة بنشوب حرب، لاسيما حرب يمكن أن تتحول إلى حرب نووية. والمنطق نفسه ينطبق على فنلندا والسويد. وعلى واشنطن أن تنهي توسيع الناتو، بدءاً بهاتين الدولتين.