للأطراف المتنازعة في أي قضية اختيار ما تريده كأهداف كبيرة ومطلقة قد لا يمكن تحقيقها في المستقبل المنظور، ولذلك يجب على أطراف أي نزاع تحديد أهداف قابلة للتحقيق في المستقبل المنظور، ووضع خططها بناءً على ذلك. بالنسبة للحرب القائمة في أوكرانيا؛ فقد حدد الروس أهدافاً عامة تتعلق بمنع انضمام أوكرانيا للناتو، وإضعاف البنية التحتية العسكرية في أوكرانيا، واجتثاث النازية، وحددوا هدفاً واضحاً وتفصيلياً للمرحلة الثانية من هجومهم العسكري، يتعلق بـ"تحرير دونباس"، والتركيز على جبهة الشرق.
في المقابل؛ يرغب الغرب بشكل عام في أن ينتهي "الغزو" الروسي لأوكرانيا، وألا تعود روسيا للتدخل في شؤون جيرانها، والسماح للشعب الأوكراني بتقرير مصيره في بلده، ولكن الغرب حتى الآن لا يوضح الأهداف التفصيلية التي يريدها من دعمه للحكومة الأوكرانية.
فالغرب الآن يركز فقط على حجم ونوعية السلاح المقدم للأوكرانيين، وطبيعة العقوبات المفروضة على موسكو، بالإضافة إلى مناقشة بعض المسائل التي لم يوافق عليها جميعاً؛ مثل فرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، أو تقديم طائرات حربية للأوكرانيين، وغيرها من النقاشات، دون تحديد ما الذي يرغب الغرب في أن يصل إليه من هذه المساعدات أو العقوبات، باستثناء الحديث عن ضرورة إنهاء الحرب وقتل المدنيين.
من الطبيعي أن تحديد هذه الأهداف من قبل أوكرانيا والغرب مهم جداً في الحرب، فمن المستحيل أن تستطيع القوات الأوكرانية إبادة القوات الروسية مثلاً؛ ولا بد في النهاية من انتهاء الحرب عن طريق جلوس الطرفين على طاولة المفاوضات، وستُفرض حينها شروط الحرب بناءً على عوامل عدة؛ أهمها الوقائع العسكرية على الأرض، ومدى القدرة على استكمال القتال في المستقبل.
وقد يكون الاحتمال الآخر لانتهاء الصراع هو معرفة الطرفين بعدم القدرة على الاستكمال وتحقيق الأهداف التي يريدون تحقيقها، وينتهي الصراع بناءً على هذا الواقع الذي يضمن مصالح الطرفين المتمثلة في انتهاء الصراع بوصفه أمراً واقعاً، ولو لم يكن ذلك باتفاق بينهما، ولكن مثل هذا الواقع في الغالب يحتاج وقتاً للتحقق على الأرض.
ضرورة تحديد الأهداف لتحقيقها
بحسب Foreign Affairs الأمريكية؛ فإن وجهة النظر الغربية تقضي بضرورة إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، وبشروط تقبلها الحكومة الأوكرانية المنتخبة ديمقراطياً، دون أن تعرّف هذه الشروط.
تسيطر روسيا اليوم على 80% من شواطئ أوكرانيا، وبالتالي على أغلب موانئها، كما أنها أمَّنت خطاً برياً بين شبه جزيرة القرم ودونباس، بالإضافة إلى السيطرة على مناطق أخرى في الجنوب والشرق، وقد تسعى مستقبلاً للسيطرة على أوديسا أيضاً؛ مانعة أوكرانيا من أي منفذ بحري، وتحويلها لبلد محاصر من كل مكان بالوجود الروسي ما عدا من جهة الغرب.
فماذا لو كانت الشروط التي تقبل بها أوكرانيا هي استعادة هذه الأراضي بشكل كامل؟ رغم كل الحديث عن المقاومة الأوكرانية؛ فإن مثل هذا الهدف قد لا يكون ممكن التحقيق بأي شكل من الأشكال؛ فهناك فرق كبير بين أن تستطيع الصمود في المنطقة التي تقاتل فيها، وبين أن تخسر أرضاً وتحاول استردادها من جديد من جيش أضخم وأكثر قوة بكثير منك.
حتى الآن؛ لم تستطع القوات الأوكرانية تحقيق تقدم عسكري ملحوظ في أي منطقة مسيطر عليها من قبل الجيش الروسي، ما لم يقم الجيش الروسي بالانسحاب منها أولاً، مثل ما حصل في الشمال الأوكراني، تحديداً حول كييف وتشيرنيغيف.
بل قد تصل الشروط الأوكرانية التي تقبلها الحكومة ضرورة انسحاب روسيا من القرم وأراضي دونباس المسيطر عليها عام 2014، وبقاء قدرتها على الانضمام لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وهي كلها أسباب قيام الحرب من الأساس، وطرح هذه الشروط منافٍ للمبدأ الأساسي للغرب بضرورة إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، فلا يمكن لروسيا قبول هذه الشروط، والواضح أن موسكو عازمة على استكمال الحرب لتحقيق جميع أهدافها؛ رغم حجم الخسائر التي تكبدتها.
بل ورغم الإعلان الغربي عن أنه يريد انتهاء الحرب في أقرب وقت بشروط أوكرانيا نفسها؛ فقد يكون للغرب أهداف أوسع من أهداف أوكرانيا من هذه الحرب، وقد يعني ذلك تعقّد المشهد أكثر وأكثر؛ خصوصاً أن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، هي الراعي الأساسي لأوكرانيا اليوم، وهي من تزودها بالسلاح الذي يسمح لها بالاستمرار في القتال.
ليس هذا فحسب؛ بل إن العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا بسبب الحرب قد تشكل عائقاً أمام الموافقة الروسية على توقيع اتفاق لإنهاء الحرب؛ فالغرب هو من يفرض هذه العقوبات، وقد تشترط روسيا، من جهتها، ضرورة رفع العقوبات ضمن شروطها لإنهاء الحرب، وعندها هل سيكون ذلك من مصلحة الغرب؟ وهل ستستطيع أوكرانيا فرض ذلك على الغرب؟ كلا الأمرين مشكوك به طبعاً.
لذلك فمن الضروري من جهة الغرب بدء تحديد أهدافه في أوكرانيا، بالتشاور مع حكومتها طبعاً، ومعرفة ما يمكن الاتفاق عليه مع روسيا بوصفه حلاً واقعياً، إذا كان إنهاء الحرب في أقرب وقت مبدأً غريباً حقاً.
سيناريوهات انتهاء الحرب
يمكن القول: إن هنالك أربعة سيناريوهات أساسية لنتيجة الحرب ونهايتها في أوكرانيا؛ ثلاثة منها تذكرها مقالة Foreign Affairs الأمريكية، ولكن هناك سيناريو رابع قد يطيل أمد الحرب لسنوات، وقد يكون من صالح أيّ من الطرفين؛ اعتماداً على الطريقة التي يديران بها الصراع.
أما السيناريو الأول؛ فهو السيناريو الذي يعطي روسيا الأفضلية في النتيجة والمحصلة النهائية، والذي ينتج عنه السيطرة على كامل دونباس، بالإضافة إلى إقامة الخط البري مع القرم، والإبقاء على هذه النتائج التي تحقق جزء منها بالفعل، وقد يكون بمقدور الروس حينها القول: إنهم انتصروا في الحرب، وبإمكانهم حينها إيقاف العمليات العسكرية الكبرى فيها.
من المنطقي افتراض أن أوكرانيا لن تقبل بمثل هذا الحل، فهو يعني انتهاء السيادة الأوكرانية بكل معنى ممكن، ووضع سابقة خطيرة تمكن روسيا من العودة إلى أخذ أراضٍ جديدة من أوكرانيا مستقبلاً، بل وقد تستطيع فعل ذلك بخسائر أقل بعد أن تعيد حساباتها وتصلح جيشها بما يتناسب مع حرب أخرى في أوكرانيا.
كما أن السابقة التاريخية في أخذ أراضي دولة أخرى ذات سيادة لن يكون مقبولاً بالنسبة للغرب؛ والذي دخل بشكل مباشر في حرب سابقة في بداية التسعينيات؛ عندما قرر الرئيس العراقي السابق صدام حسين أخذ الكويت بالقوة، وقد تعطي هذه السابقة لروسيا وغيرها من الدول إمكانية إعادة الكرّة مرات أخرى بسهولة.
ينصب التخوف الأساسي في ذلك على إمكانية أن تغزو الصين تايوان وتضمها إليها، بناءً على نتائج الحرب الحالية في أوكرانيا، ومدى نجاح العملية العسكرية الروسية فيها، والتي قد تشجع الصين على اتخاذ الخطوة نفسها في حال نجاح العملية في أوكرانيا، فحتى لو قبلت أوكرانيا بمثل هذا الحل بوصفه أمراً واقعاً لا يمكن تغييره؛ فالمرجح أن الغرب لن يستطيع القبول بذلك مطلقاً، ولكن السؤال يبقى عن خيارات الغرب في هذه الحالة.
كما أن هذا السيناريو لن ينهي الحرب على الأغلب؛ بل سيجعلها ترجع إلى حالة الحرب التي دارت خلال 8 سنوات بعد عام 2014، والتي لم تشهد تقدماً من أي طرف على حساب الآخر، بل "حرب خنادق" طويلة الأمد، دون أن يتكلف أي من الطرفين الكثير نتيجة لذلك.
أما السيناريو الثاني فهو حالة الجمود العسكري نتيجة الوصول لحالة معينة لا يستطيع أحد الطرفين تغييرها، ولكن الأوكرانيين لن يقبلوا بتعريف الوضع بأنه على هذا السيناريو ما لم تعد روسيا إلى حالة شبيهة بما كانت عليه الأمور قبل عام 2022، بسيطرة روسية على القرم وأجزاء من دونباس عن طريق الانفصاليين الموالين لها.
لكن هذا السيناريو يتطلب حصول أحد أمرين؛ إما أن تستطيع أوكرانيا استرجاع هذه الأراضي بالقوة، وهو ما لا يبدو ممكناً اليوم، أو أن تقرر روسيا الانسحاب من هذه الأراضي، وهو أقل احتمالية حتى، فهل تقرر روسيا أن تنسحب من الأراضي التي اكتسبتها بكل التكلفة التي دفعت في الحرب؟
والسيناريو الأخير هو أن تستطيع أوكرانيا تحقيق انتصار بالقوة، واسترجاع سيادتها على كامل أراضيها وحدودها، ويشمل هذا السيناريو إعادة القرم ودونباس بشكل كامل، وهو السيناريو الذي سيعني انتهاء الحرب فعلياً بشكل مؤكد، سواء عن طريق فرض الأمر الواقع من قبل أوكرانيا، أم عن طريق اتفاق مع الروس، يُجبرهم عليه تورطهم في تكلفة كبيرة في الحرب.
ففي حال استطاع الأوكرانيون دحر القوات الروسية بالقوة؛ فلن يبقى أمام روسيا خيارات كثيرة للاستمرار في المعارك، إلا لو تحولت الحرب إلى تبادل للقصف والاعتداء على أراضي الدولتين، وهو ما لن يكون في مصلحة كليهما، وقد يحصل الأمر بعد اعتراف روسيا بتكبدها خسائر كبيرة بشكل مستمر في أوكرانيا، وبحيث يصبح استمرار الحرب والسيطرة على الأراضي الأوكرانية غير مجد، وبالتالي تقرر الانسحاب.
وهذا أقل السيناريوهات احتمالاً في المستقبل المنظور، فمن المحتمل أن الأوكرانيين قد صمدوا بالصورة نفسها التي ينقلها الإعلام الغربي، وقد تكون روسيا قد خسرت أكثر من 20 ألفاً من جنودها في شهرين من القتال، ولكن روسيا هي من تحقق حتى الآن المكاسب على الأرض من خلال القتال، ومن المستبعد أن تقرر الانسحاب بالضبط بسبب الكلفة التي دفعتها لتستطيع التقدم.
سيناريو "الفخ الفيتنامي" لروسيا
والسيناريو الأخير هو أن لا تنتهي الحرب في أي وقت قريب، بل تستمر باستنزاف القوة الروسية على يد الأوكرانيين، وهو ما سيكون ذا فائدة كبرى للغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، في حال كانت الخسائر الروسية بالحجم الذي يقوله الغرب، فإذا كانت روسيا تمثل خطراً بالفعل على أوروبا، وعلى العالم حتى؛ فلماذا تنتهي الحرب وتُعطى روسيا فرصة استعادة قوتها لاحقاً؟
من الأفضل أن يقاتل الغرب روسيا عن طريق أوكرانيا والأوكرانيين، وربما حتى لآخر جندي أوكراني، لتصبح النتيجة عجزاً روسياً عن خوض حروب أخرى في المستقبل، وهذا قد يكون أفضل نتيجة بالنسبة للغرب.
وهو ليس سيناريو جديداً أو مستغرباً؛ فالغرب قد دفع الاتحاد السوفييتي لحرب طويلة الأمد في أفغانستان، وقاتل الاتحاد السوفييتي وأضعفه بأيدي غيره وعلى حساب أرواحهم وحياتهم، وقد يحاول إعادة الكرّة في أوكرانيا، لضمان شلل روسيا وعدم قدرتها على إقامة حروب أخرى، حتى لو كان ذلك على حساب ضحايا أوكرانيين، وحساب سيادة أوكرانيا وقدرتها على الاستمرار بوصفها دولة، واستمرار عجلة الاقتصاد فيها.
يضمن هذا السيناريو ألا تنتهي الحرب في أي وقت قريب، وألا تتجمد الجهود العسكرية الكبرى، مع استمرارها على نطاق ضيق، بل اضطرار روسيا للاستمرار في قتال عنيف قد يمتد لسنوات، ويبتلع معه عدداً كبيراً من الجنود والميزانية الحكومية، وقد يؤدي ذلك إلى انهيار الدولة حتى، خصوصاً مع بقاء العقوبات الغربية على روسيا وتعميقها.
لكن ما ترجحه التحليلات الغربية أن الغرب لم يحدد لنفسه هدفاً واضحاً في أوكرانيا، بل قد لا يكون من الممكن للغرب تحديد هدف مشترك تتفق عليه أمريكا مع دول الاتحاد الأوروبي مثلاً، وهذا الضعف في تحديد الأهداف يعني ضعفاً استراتيجياً في المجهود الغربي، فلا يمكن الاستمرار في جهد عسكري ما لم يكن هناك هدف سياسي واضح لها.