بعد نحو شهرين من القتال الضاري والقصف المدمر الذي حوّل المدينة الساحلية لأرض محروقة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس 21 أبريل/نيسان 2022، أن الجيش الروسي سيطر على مدينة ماريوبول الاستراتيجية شرق أوكرانيا بنجاح، مشيراً إلى وجود مقاتلين أوكرانيين في منشأة "آزوف ستال" الصناعية، وآمراً قواته بإلغاء اقتحامها لها، بل "استمرار حصارها فقط بشكل آمن بدلاً من ذلك". فماذا يعني نجاح موسكو في السيطرة على ماريوبول استراتيجياً وعسكرياً وسياسياً؟
ما أهمية مدينة ماريوبول الساحلية؟
قبل الهجوم الروسي، كانت مدينة ماريوبول الأوكرانية ميناءً مزدهراً على بحر آزوف، يسكنها ما يقرب من نصف مليون مواطن أوكراني، وهي ثاني أهم مدن منطقة دونيتسك بإقليم دونباس، التي أعلنها الانفصاليون "جمهورية شعبية" عام 2014.
وبعد أن حاصرت القوات الروسية المدينة، نهاية فبراير/شباط الماضي، شهدت المدينة أشد المعارك ضراوة منذ بدء الحرب، حيث فرضت القوات الروسية حصاراً مشدداً على المدينة، وعزلتها بالكامل تقريباً عن العالم الخارجي.
بعد عدة أسابيع من القصف العنيف، بما في ذلك الهجمات على المشافي والمسرح، حيث كان مئات المدنيين يبحثون عن مأوى، لجأ الجيب الأخير للقوات الأوكرانية إلى مصنع "آزوف ستال" للحديد والصلب، وهو مجمع مترامي الأطراف يغطي مساحة 10 كم مربع مملوك لشركة Metinvest، المجموعة التي يسيطر عليها رينات أحمدوف، الملياردير وأغنى رجل في أوكرانيا. ويقدر المسؤولون الأوكرانيون أن حوالي 100 ألف مدني ما زالوا في المدينة، كما حذر ديفيد بيسلي، رئيس برنامج الغذاء العالمي من أنهم "يموتون جوعاً".
وتكمن أهمية ماريوبول بأنها تعد أحد أكبر مراكز صناعة الحديد والصلب في أوروبا والعالم، بالإضافة إلى صناعة الماكينات الثقيلة، وإصلاح السفن، وبالتالي فإن خسارة ماريوبول تعني خسارة من 30 إلى 40% من صناعة التعدين في أوكرانيا لصالح روسيا.
كذلك تستضيف ماريوبول أكبر ميناء تجاري في بحر آزوف، فمن هناك تصدّر أوكرانيا الحبوب والحديد والصلب والآلات الثقيلة، وهو يعد أكبر موانئ بحر آزوف، وكان معبراً رئيسياً للصادرات الأوكرانية إلى دول العالم، بعد ميناء مدينة أوديسا على البحر الأسود.
وقد عانى المرفأ بعد بداية الحرب في دونباس، بعد أن فقد مرور الشحنات التي تعبر قادمة من الأسواق السابقة، بما فيها روسيا. بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، شيدت موسكو جسراً يربط شبه الجزيرة بالبر الرئيسي لروسيا، وفرضت بصورة أحادية قيوداً على السفن التي تعبر مضيق كيرتش.
واستراتيجياً، تعد ماريوبول نافذة أوكرانيا الأبرز على بحر آزوف، وخسارتها تعني تحول البحر إلى بحيرة روسية، لا سيما بعد سيطرة روسيا على ميناء بيرديانسك الأوكراني في منطقة زابوريجيا المجاورة.
ماذا يعني سقوط مدينة ماريوبول؟
يعتبر سقوط مدينة ماريوبول صفعة اقتصادية كبيرة توجهها روسيا إلى أوكرانيا، وانتصاراً دعائياً كبيراً لصالح بوتين. في حديث سابق مع صحيفة The Guardian البريطانية، قال أندري يانيتسكي، رئيس مركز التميز في الصحافة الاقتصادية في كلية كييف للاقتصاد، إن "ماريوبول تحمل أهمية عملية ورمزية لروسيا، فهي مدينة مرفئية كبيرة، وقاعدة للقوات المسلحة الأوكرانية، ولذلك إذا أراد الروس أن يمتلكوا ممراً برياً (من دونباس) إلى القرم، فإنهم بحاجة إلى السيطرة على المدينة".
ومنذ عام 2014، فصلت مسافة أقل من 30 كيلومتراً بين ماريوبول وبين أراضي الانفصاليين التي تسيطر عليها روسيا في دونباس، حيث صمدت ماريوبول، ثاني أكبر مدينة في منطقة دونيتسك، أمام "احتلال" لوقت قصير عن طريق القوات الموالية لروسيا. وبعد أن فقدت أوكرانيا السيطرة على العاصمة الإقليمية دونيتسك استضافت ماريوبول أكبر عدد من النازحين داخلياً من المناطق المحتلة في دونباس، وقد تجاوز عددهم 96 ألف شخص حتى عام 2019.
وكانت ماريوبول آخر مدينة تقف في طريق ممر بري روسي يمتد من المدن الروسية على الحدود الأوكرانية مباشرة إلى شبه جزيرة القرم. يقول خبراء لمجلة foreign policy الأمريكية، إن هذا الجسر البري -الذي يمثل رمزاً تاريخياً للروس باعتباره جزءاً من منطقة نوفوروسيا– سيكلف الأوكرانيين جزءاً كبيراً من أراضيهم، ويفرض انتكاسة مدمرة لاقتصادهم، والذي يعتمد إلى حد كبير على التجارة التي تتم عبر موانئ المنطقة على البحر الأسود. فيما من المرجح أن الروس سيكافحون للاحتفاظ بهذه المناطق على المدى الطويل في مواجهة المقاومة الأوكرانية.
ووفق خبراء، تفتح السيطرة على ماريوبول أمام روسيا آفاقاً أوسع من الناحية العسكرية، توجه بموجبها ضربة قوية لأوكرانيا، وتزيد من التهديدات لها، حيث تعتبر مدينتا ماريوبول وكراماتوسك مركزين رئيسيين لقيادة القوات الأوكرانية في عملياتها ضد القوات الانفصالية بمنطقة دونيتسك منذ 2014، وسقوطهما يعني خسارة أبرز المواقع وأحصنها في المنطقة.
بعد شهرين من الحرب، اضطرت روسيا بالفعل إلى تغيير أهدافها الحربية بشكل جذري بعد الجهود الأولية للاستيلاء على كييف، العاصمة الأوكرانية، في هجوم أعاقه سوء التخطيط والمقاومة الأوكرانية الشرسة، كما تقول مجلة "فورين بوليسي".
وبعد انسحابها من منطقة كييف، تركز موسكو جهودها على شرق أوكرانيا، التي شهدت تصعيداً كبيراً في الضربات الروسية في الأيام الأخيرة، إيذاناً ببداية هجوم جديد في دونباس. استولت القوات الروسية بالفعل على مساحات شاسعة من منطقة لوغانسك وجزء كبير من الساحل الجنوبي على طول بحر آزوف.
وسقوط ماريوبول الآن يمنح موسكو أول انتصار كبير لها في الحرب، وإن كان مكلفاً. ويعتقد بعض المسؤولين الغربيين أن موسكو كانت تسابق الزمن للحصول على "انتصار دعائي" بحلول 9 مايو/أيار، "عيد النصر" الروسي، الذي تحتفل فيه البلاد بالانتصار على النازية بنهاية الحرب العالمية الثانية.
ما التداعيات العسكرية لسقوط ماريوبول بيد روسيا؟
سيكون للسيطرة الكاملة على ماريوبول تداعيات عميقة على المجهود الحربي الروسي والأهداف الاستراتيجية الأوسع، حيث تقدر وزارة الدفاع الأمريكية أن الانتهاء من المعركة بالمدينة يعني تفرغ 12 كتيبة، أي ما يقرب من 8000 جندي أو أكثر، للمعارك في جبهات أخرى غير محسومة بعد شرق وجنوب البلاد.
ونظراً لأن موسكو تكافح من معدلات استنزاف عالية، يمكن إعادة انتشار هذه القوات كجزء من التصعيد المتوقع للقتال في دونباس والشريط الساحلي بالكامل، وربما خاركيف، كما يقول محللون غربيون.
كما ستمنح ماريوبول موسكو موطئ قدم استراتيجياً على بحر آزوف، يمكن من خلاله التقدم شمالاً في محاولة للربط مع القوات الروسية الآتية من خاركيف. ويقول صموئيل تشراب، كبير المحللين السياسيين في مؤسسة راند لمجلة فورين بوليسي الأمريكية: "عليهم المرور عبر ماريوبول من أجل الذهاب إلى الشمال، حيث يسمح سقوط المدينة لموسكو بربط محورين رئيسيين للهجوم: من شبه جزيرة القرم ودونباس".
قبل الحرب بوقت قصير، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده ستعترف باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين في مدينتي دونيتسك ولوغانسك، التي استولى عليها وكلاء موسكو في عام 2014. وقد تجاوزت الأراضي التي اعترف بها بوتين جيوب الأرض في أقصى شرق أوكرانيا. تحت سيطرة الانفصاليين المدعومين من روسيا، وتوسعت بدلاً من ذلك لتشمل محافظات دونيتسك ولوغانسك بأكملها.
وستمنح السيطرة على المنطقة بأكملها موسكو ورقة مساومة كبيرة في محادثات السلام، وشيئاً يمكن إظهاره على أنه انتصار رغم الاضطرار إلى تقليص طموحات الحرب الأولية بشكل كبير.
كيف تبدو مدينة ماريوبول الآن وما مصير من تبقى فيها؟
أبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الرئيس الروسي بوتين الخميس، بسيطرة قواته على ماريوبول، مشيراً إلى أنه "ما زال هناك مقاتلون أوكرانيون في مصنع آزوفستال بماريوبول، فيما استسلم 1478 بالفعل". واعتبر وزير الدفاع شويغو أن "الوضع في مدينة ماريوبول هادئ، ويسمح بعودة المدنيين".
وقال بوتين إنه أمر القوات الروسية بإلغاء اقتحام منشأة "آزوف ستال"، موضحاً أن "روسيا تضمن عدم التعرض والتعامل باحترام مع القوات الأوكرانية التي تغادر منشأة آزوف ستال"، مؤكداً أنه "لا يريد اقتحام المصنع، بل يتم استمرار حصاره فقط بشكل آمن بدلاً من ذلك".
من جهته، كتب الرائد سيرهي فولينا، قائد اللواء 36 مشاة البحرية الأوكراني، والذي لا يزال محاصراً في المدينة، في رسالة مفتوحة إلى البابا فرانسيس يوم الإثنين، 18 مارس/آذار 2022، "إن الوضع في المدينة يبدو كالجحيم على الأرض"، مضيفاً: "لدي القليل من الوقت لوصف كل الفظائع التي أراها هنا كل يوم، تعيش النساء اللواتي لديهن أطفال في مخابئ مصنع آزوف ستال، فهم يعانون من الجوع والبرد".
وكانت شركة Metinvest التي تملك منشأة "آزوف ستال" للتعدين، وأكبر مصنع للصلب في أوكرانيا، قد تعهدت في 16 إبريل/نيسان بأنها لن تعمل أبداً في ظل الاحتلال الروسي لمدينة ماريوبول، بحسب ما ذكر موقع business insider الأمريكي. وقالت الشركة في بيان لها: "نحن نؤمن بانتصار أوكرانيا ونخطط لاستئناف الإنتاج بعد انتهاء الأعمال العدائية الروسية، ولن تعمل شركات ميتانفيست للصلب أبدا تحت الاحتلال الروسي". مشيرة في الوقت نفسه، إن أكثر من ثلث طاقة إنتاج المعادن في أوكرانيا أصبح خارج الخدمة بسبب معارك ماريوبول.
وعلى مدار الأسابيع الماضية، رفضت القوات الأوكرانية سلسلة من الإنذارات من الروس للاستسلام رغم تحذيرات موسكو بأن أي قوات متبقية "سيتم القضاء عليها"، وتقول السلطات المحلية إن 80% من البنية التحتية الخاصة بالمدينة دُمرت، وبعضها لا يمكن إصلاحه، كانت المدينة بلا مياه ولا كهرباء ولا تدفئة، ومن المستحيل إحصاء أعداد الوفيات.
ورغم أن المدينة صمدت لفترة أطول بكثير مما كان متوقعاً، فإنها سقطت في النهاية بيد الجيش الروسي، ما يمنح موسكو أكبر فوز لها في الحرب حتى الآن.