كيف تمكنت أوكرانيا من حرمان الجيش الروسي القوي من انتصار سريع وحاسم؟ كشفت تقارير غربية عن دور الناتو الحاسم في تجهيز الجيش الأوكراني على مدى سنوات، فما أسرار الصمود الأوكراني؟
نشرت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية تقريراً عنوانه "سر نجاح الجيش الأوكراني: سنوات من تدريب الناتو"، رصد ما وصفته ببرامج التدريب والمساعدة التي وفرها الحلف العسكري الغربي لأوكرانيا وسر نجاحها هناك عكس ما حدث في أفغانستان والعراق من قبل.
ومع اقتراب الهجوم الروسي على أوكرانيا من نهايته، تكثف موسكو من تجهيزاتها العسكرية في الشرق بهدف الانقضاض على ما تبقى من قوات أوكرانية في إقليم دونباس ومدينة ماريوبول الساحلية الجنوبية، بينما تتحدث كييف عن المعركة الأخيرة ويطالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي الغرب بتزويده بالأسلحة اللازمة لهزيمة روسيا.
وقالت وزارة الدفاع الروسية الأسبوع الماضي إن روسيا ستنتقل إلى "المرحلة النهائية" من العملية بعد "إنجاز جميع المهام الرئيسية" في شمال أوكرانيا، وأضافت أن القوات تنسحب من كييف لـ"تحرير" إقليم دونباس في الشرق.
تدريبات الناتو "السرية" في أوكرانيا
كشف تقرير "وول ستريت جورنال" بعضاً من تفاصيل التدريبات العسكرية التي أجراها الناتو مع القوات الأوكرانية على مدى السنوات الماضية، والتي نتج عنها تحويل الجيش الأوكراني من جيش تقليدي تعود تقاليده وأساليبه إلى الحقبة السوفييتية إلى جيش عصري خفيف الحركة يعتمد على التكنولوجيا الحديثة ومدرّب بشكل خاص ومحدد على حرب العصابات وحرب الشوارع.
آندري كوليش الليفتنانت في الجيش الأوكراني وقائد أحد سرايا الحرس الوطني، واحد من هؤلاء الذين تلقوا تدريباً مكثفاً على كيفية نصب "كمائن" للقوات الروسية على الطرق وفي الشوارع، وقال للصحيفة الأمريكية إنه يدين بالفضل لضباط الجيش الكندي، الذين تولوا تدريبه هو وزملاءه.
وقد درّب الكنديون كتيبة كليش من القوات الخاصة على حروب المدن وأساليب حرب الشوارع والطب العسكري، وكان ذلك خلال الصيف الماضي. كان ذلك التدريب، في غرب أوكرانيا، واحداً من تدريبات كثيرة متعددة شاركت فيها، خلال السنوات الأخيرة، قوات من كندا ومن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ورومانيا.
لكن تلك التدريبات كانت مجرد جزء بسيط من مجهود منظم وممتد على مدى سنوات شاركت فيه الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونجحت تلك الجهود في تحديث الجيش الأوكراني بشكل كامل، بداية من المجندين لضباط الصف والضباط وقادة الأفرع الرئيسية للجيش ولوزارة الدفاع نفسها، وصولاً إلى اللجان العسكرية في البرلمان، وكانت تلك الجهود تتسم بالسرية في مجملها، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
ويعتبر هذا العمل "السري" الذي تم بإشراف "الناتو" أحد أهم الأسباب التي جعلت القوات الأوكرانية قادرة على الصمود في مواجهة الآلة العسكرية الروسية الأقوى والأكثر تجهيزاً وإمكانيات، بل وتمكنت القوات الأوكرانية من إيقاع خسائر ضخمة في صفوف القوات المهاجمة.
وشارك في التدريبات العسكرية المتنوعة على الأقل 10 آلاف عسكري سنوياً على مدى أكثر من 8 سنوات، ما جعل قوات الناتو تساعد في تحويل القوات العسكرية الأوكرانية من أساليب الحقبة السوفييتية إلى المعايير العسكرية الغربية التي تسمح للجنود وضباط الصف والضباط بالتفكير والتأقلم على المواقف المفاجئة في ساحة المعركة.
وقال اللفتنانت كوليش لـ"وول ستريت جورنال" إنه ورفاقه "يطبقون الإجراءات التي تعلموها خلال التدريب مع الناتو" أثناء مواجهتهم للقوات الروسية.
لماذا نجح الناتو في أوكرانيا؟
وعلى الرغم من أن المساعدات الغربية لأوكرانيا ليست سراً في حد ذاتها، فإن الجانب الأكبر من التدريبات والمساعدات العسكرية خلال السنوات الماضية، وقبل أن تندلع الحرب كان يتم في السر لتجنب إثارة روسيا، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
الجدير بالذكر أن الأزمة الأوكرانية في الأساس أزمة جيوسياسية، إذ يريد الرئيس الروسي أن يُرغم حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً؛ ولأن موسكو لا تثق بقدرة الدول الأوروبية على التحرك دون موافقة واشنطن، فقد قرر الرئيس الروسي أن يطلب ضمانات قانونية مكتوبة من نظيره الأمريكي بايدن تنص على أن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً. لكن بايدن والغرب رفضوا تقديم تلك الضمانات، واندلعت الحرب في نهاية المطاف.
لكن التدريبات والمساعدات العسكرية التي وفرها الناتو لأوكرانيا على مدى السنوات الماضية، وبالتحديد من أزمة 2014 عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم، كانت أيضاً تتسم بالسرية لأسباب أخرى تتعلق بكونها "مصدراً هاماً للاستخبارات الأمريكية والغربية"، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
فالحرب في أوكرانيا لم تتوقف فعلياً على مدى السنوات الماضية، وإن كانت متقطعة وتشهد فترات صعود وهبوط. تلك الحرب كانت تدور بالأساس في إقليم دونباس في الشرق، حيث لوغانسك ودونيتسك، وهما منطقتان انفصاليتان تدعمهما موسكو، وهو ما يعني أن أوكرانيا يوجد بها بعض أكثر الجنود الأوروبيين من ناحية الخبرة القتالية الفعلية.
وفي ضوء هذه المعادلة، كانت القوات الأوكرانية على خطوط التماس في الأقاليم الشرقية تمثل فرصة مزدوجة للناتو، فتلك القوات أكثر استعداداً لفهم وتطبيق الأساليب القتالية الخاصة بحرب المدن وحرب العصابات من ناحية، كما أن تلك التدريبات وفرت لقوات الناتو فرصة ذهبية لاستيعاب الأساليب القتالية الروسية والاستعداد عملياً لأي مواجهة مباشرة مع القوات الروسية، بحسب ما قاله ضباط الناتو المشاركون في تلك التدريبات في أوكرانيا.
وخلال الأشهر التي سبقت بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" ويصفه الغرب بأنه "غزو"، تم تكثيف التدريبات العسكرية للقوات الأوكرانية بإشراف الناتو، مع زيادة متصاعدة في توسيع نطاق التدريبات واعتمادها أكثر على كوادر أوكرانية من الدفعات التي خضعت للتدريب من قبل.
وتعليقاً على ذلك، قال الأمين العام لحلف الناتو يانس ستولتنبرغ: "الدرس المستفاد هنا هو أن الدعم والمساعدة على مدى سنوات كثيرة كان لها تأثير هام للغاية".
ومن الطبيعي أن يطرح هذا الحديث تساؤلات بشأن أسباب نجاح الناتو في أوكرانيا بينما فشل فشلاً ذريعاً في العراق وأفغانستان، وهو ما قال مستشارون وخبراء لصحيفة وول ستريت جورنال إن له أسباباً متعددة أولها طبيعة أوكرانيا كدولة أوروبية تديرها حكومة مركزية واحدة وتوجد فيها نظم إدارية مستقرة، حتى وإن كانت عديمة الكفاءة وفاسدة، إلا أنها عكست دولة موحدة.
أما السبب الأكثر وضوحاً فهو أن أوكرانيا كانت تستعد لمواجهة عدو خارجي منذ عام 2014، وهو روسيا التي ضمت إقليم شبه جزيرة القرم، وبالتالي فإن ذلك ساعد القوات الأوكرانية على الاستفادة من التدريب والمساعدات العسكرية الغربية لمواجهة "العدو الخارجي".
التكتيكات العسكرية الغربية في أوكرانيا
تعتبر وحدات العمليات الخاصة في الجيش الأوكراني رأس الحربة في المؤسسة العسكرية التي أعاد الناتو تأسيسها من الصفر تقريباً، حيث أدخل الناتو الأساليب الغربية في إدارة القوات كأن يسيطر المدنيون على القرار الاستراتيجي، وأن يكون للفنيين والمتخصصين في المراقبة اليد العليا في التخطيط، وهذه كلها أمور مختلفة تماماً عن النظام السوفييتي الصارم الذي كان الجيش الأوكراني يتبعه قبل 2014.
وتم التخلي عن الاعتماد على الأعداد الكبيرة من الجنود والمعدات الثقيلة واستبدال ذلك بمفهوم بناء القدرات على أساس تقديرات المهام المحددة، فالضباط يحددون ما يريدونه من أسلحة للدفاع عن منطقة محددة أو للهجوم المضاد على كتيبة مدرعة، ويتم توفير ذلك بناء على معلومات استخباراتية دقيقة عن الهدف تحدد نوع السلاح الأفضل والعدد الأمثل من القوات لتنفيذ المهمة.
والخطوة الأخرى التي اتخذها الناتو هي ترقية الجنود أصحاب الخبرة القتالية لرتبة ضباط ميدان مهمتهم الأساسية الربط بين القوات في الميدان والقيادات العسكرية التي تصدر الأوامر، وساعد الناتو الأوكرانيين على إدخال مفهوم "قائد المهمة" وهو ما يعني أن كل المشاركين في المهمة تكون لديهم حرية اتخاذ القرار حسب الظروف الميدانية في مرحلة ما.
أما الأسلوب السوفييتي الذي فلا تزال روسيا تطبقه إلى حد كبير، فيعتمد بالأساس على قيام الضباط الأعلى رتبة بإصدار الأوامر ولا يكون لدى ضباط الصف والجنود وحتى الضباط الأصغر رتبة مساحة لتغيير تلك الأوامر إذا ما استدعت ضرورات الميدان ذلك.
وعن ذلك يقول وزير الدفاع الأوكراني السابق آندري زاجورودونييك: "لقد حقق ذلك اختلافاً كبيراً جداً. إدخال مفاهيم الضابط الميداني وقائد المهمة رفع كفاءة القوات مرات كثيرة جداً".
ويضيف كوليش أن التدريب المستمر مع الناتو تضاعفت الفائدة منه؛ لأن الأوكرانيين يعرفون كيف تفكر الجيوش السوفييتية عموماً: "الروس يستخدمون تكتيكاتهم المعتادة التي لم تتغير كثيراً منذ أيام ستالين (الزعيم الذي حكم الاتحاد السوفييتي السابق خلال الحرب الباردة). فهم أولاً يرشون مواقعنا بالمدفعية بكثافة، ثم يدفعون بجنود المشاة للسيطرة على مواقعنا. أما نحن (الأوكرانيون) فلا نتبع تكتيكاً واحداً، بل نعمل بطريقة تبدو عشوائية، فنصيب صفوفهم بالفوضى".
متى بدأ الناتو الاستعداد لحرب روسيا؟
لكن ربما تكون النقطة الهامة في التقارير التي تتحدث عن استعداد الناتو لمواجهة روسيا على الأراضي الأوكرانية لا تشير إلى أن ذلك الجهد بدأ فقط بعد عام 2014، إذ كشف تقرير "وول ستريت جورنال" أن العمل على تطوير القوات الأوكرانية بدأ فعلياً منذ عام 2008.
ففي ذلك العام كانت القوات الروسية قد دخلت إلى مناطق انفصالية في جورجيا، وقدم الناتو دعوة غامضة لجورجيا وأوكرانيا للانضمام للحلف العسكري الغربي.
ووضع الناتو خطة عمل من 70 ورقة تحدد "المسار الاستراتيجي للاندماج الأوروبي الأطلنطي، وهي في جوهرها خارطة طريق تتمكن من خلالها كييف من تحقيق متطلبات الناتو الديمقراطية، بما فيها قوات مسلحة مهنية يسيطر عليها مدنيون. لكن تلك الخطوة لم تحقق الكثير من النجاح بسبب غياب الدعم الغربي الحقيقي وقوة المعارضة السوفييتية داخل الجيش الأوكراني.
لكن الموقف اختلف تماماً بعد 2014، عندما اجتاحت القوات الروسية شبه جزيرة القرم وضمتها دون مقاومة تذكر من جانب الجيش الأوكراني. ومنذ ذلك الوقت بدأ الناتو يركز على كيفية تجهيز الجيش الأوكراني بشكل حقيقي، وتم إرسال ضباط ومدربين من الحلف إلى منشأة تدريب عسكرية مساحتها 150 ميلاً مربعاً في مدينة يافوريف قرب الحدود الأوكرانية البولندية.
وفي منتصف مارس/آذار الماضي استهدفت روسيا ذلك المعسكر بضربة صاروخية وهجمات جوية، خصوصاً بعد أن تحول أيضا إلى بؤرة تجمع رئيسية للمرتزقة القادمين تلبية لدعوة زيلينسكي لتشكيل فيلق دولي من المتطوعين للدفاع عن أوكرانيا.
الخلاصة هنا أن حلف الناتو بدأ قبل سنوات تجهيز أوكرانيا للصمود أمام الهجوم الروسي، وكان الجزء الأكبر من ذلك التجهيز والتدريبات العسكرية يتم بشكل سري، ويبدو أنه الآن يمثل أحد أهم أسباب الصمود الأوكراني، لكن الاختبار الحقيقي سيكون في معركة ماريوبول ودونباس التي تستعد موسكو وكييف لها حالياً.