يوجه الغرب اتهامات متنوعة للقوات الروسية، من جرائم حرب لإبادة جماعية واستخدام محارق جثث متنقلة لإخفاء الأدلة، فما حقيقة استخدام روسيا أسلحة كيماوية في ماريوبول المحاصرة أو أي مكان آخر في أوكرانيا؟
ومع اقتراب الهجوم الروسي على أوكرانيا من مراحل الحسم، تكثف موسكو من تجهيزاتها العسكرية في الشرق بهدف الانقضاض على ما تبقى من قوات أوكرانية في إقليم دونباس ومدينة ماريوبول الساحلية الجنوبية، بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الاتهامات الغربية الموجهة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه كييف عن المعركة الأخيرة ويطالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي الغرب بتزويده بالأسلحة اللازمة لهزيمة روسيا، تبدو الحرب النفسية والدعائية عنصراً رئيسياً في الأزمة الأوكرانية قبل حتى أن تتفجر وتشتعل الحرب بالفعل.
ما قصة الأسلحة الكيماوية؟
صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تقريراً عنوانه "الخبراء متشكِّكون.. هل استخدمت روسيا أسلحةً كيماوية في أوكرانيا؟"، رصد إعلاناً صدر عن القوات الأوكرانية المتحصِّنة في مدينة ماريوبول المُحاصرة في وقتٍ متأخِّرٍ من الاثنين 11 أبريل/نيسان، يقول إن الروس استخدموا "مادةً سامة مجهولة المصدر".
لكن في الساعات الأربع والعشرين التالية، تبيَّن أن العثور على دليلٍ يثبت أنه هجومٌ بأسلحةٍ كيماوية كان مسألة صعبة، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية. ووصف تقريرٌ أوَّلي قصير، كان يُتداوَل على وسائل التواصل الاجتماعي، الضحايا بأنهم مصابون بـ"فشل تنفسي"، علاوة على تشخيصٍ محدَّد إلى حدٍّ ما لـ"متلازمة الدهليزي المخيخي"، وهو من الناحية الاسمية مشكلةٌ في الأذن الداخلية تؤدي إلى الدوار، وربما القيء، وارتعاش العين وفقدان التوازن.
وفي الوقت نفسه، أعربت منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية عن قلقها بشأن التقارير عن استخدام مواد كيمياوية في مدينة ماريوبول المحاصرة.
وعلى الفور، قالت ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، إن المملكة المتحدة تحقِّق على وجه السرعة (في التقرير بشأن الأسلحة الكيماوية)، في حين قال المتحدث باسم البنتاغون إن التقارير "إذا كانت صحيحةً، فهي مقلقةٌ للغاية".
الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قال خلال نفس الليلة، إن المزاعم تؤخَذ "بجدية قدر الإمكان". لكنه لم يعد إلى الحديث عن تلك التقارير الثلاثاء 12 أبريل/نيسان في خطاب أمام البرلمان الليتواني، على الرغم من الإشارة إلى جرائم حربٍ روسية أخرى.
لكن بعض المراقبين أعربوا عن شكوكهم في أن الأدلة المتاحة تشير إلى هجومٍ بالأسلحة الكيماوية، بحسب ما أورته صحيفة الغارديان البريطانية.
ما مصدر التقارير بشأن الأسلحة الكيماوية؟
نشرت كتيبة آزوف، وهي جماعةٌ قومية أوكرانية مرتبطة باليمين المتطرف وتقف وراء التقرير الأوَّلي بشأن تلك الأسلحة الكيماوية المزعومة لوسائل التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو الثلاثاء على تطبيق تليغرام. وصوَّرَ المقطع ثلاث ضحايا، لم تظهر عليهم إصاباتٌ خطيرة، في حادثةٍ بدا أنها محدودة النطاق.
الأول، وهو رجل في منتصف العمر، وصف رؤية "دخان أبيض" قادم من المصنع، وعلى الأرجح مصنع آزوفستال الكبير للصلب في شرق المدينة وواحد من موقعين تنتشر فيهما القوات الأوكرانية. قال لاحقاً إن الدخان أو الضباب كان لهما "طعم حلو".
وقال الرجل إنه شعر بالمرض في الحال، وإنه عانى من طنينٍ بالأذن، وعدم انتظامٍ في ضربات القلب، وسقط. وأضاف: "فقدت الأم وعيها وأُفيقَت ثلاث مرات". واشتكت امرأةٌ أكبر سناً، صُوِّرَت بعد ذلك وهي على سرير، من أنها لا تزال غير قادرة على المشي.
ووصف آخر، ضحيةٌ ثالثة، عانى من التهابٍ في العينين، الضباب بأنه "أشبه بالدخان" بعد الانفجار. وقال: "كان التنفس صعباً للغاية"، وذكر أنه شعر بالدوار وأن ساقيه كانتا ضعيفتين للغاية.
وخلُصَ قائدٌ عسكري أوكراني إلى أن "مواد سامة" قد استُخدِمَت، لكنه أقرَّ بأنه لا يمكن إجراء تحليل للسموم.
كتيبة آزوف، التي ترجع تسميتها إلى بحر آزوف الذي يربط ماريوبول بالبحر الأسود، تضم متطرفين يمينيين بينهم نازيون جدد، وتتهمهم موسكو بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الأقلية الروسية في شرق أوكرانيا عموما وفي ماريوبول بشكل خاص.
وبالتالي فإن القضاء على تلك الكتيبة وأسر عدد من أفرادها تحديداً سيكون له تأثير هام في الحرب النفسية؛ إذ سيؤكد بوتين للروس وللعالم أن الجار الأوكراني يسيطر عليه النازيون الجدد.
لذلك يرى الجنرال السير ريتشارد بارونز- القائد السابق لقيادة القوات المشتركة البريطانية- أن احتلال ماريوبول والسيطرة عليها أمر حيوي بالنسبة للمجهود الحربي الروسي، مؤكداً أنه "عندما يشعر الروس بأنهم قد انتصروا في هذه المعركة، فإنهم سيكونون قد أكملوا فتح جسر بري يصل روسيا بالقرم، وسينظرون إلى ذلك على أنه نصر استراتيجي كبير"، بحسب BBC.
كما أن السيطرة على ماريوبول تعني سيطرة روسيا على أكثر من 80% من الساحل الأوكراني على البحر الأسود؛ ما يمكنهم من قطع نشاط أوكرانيا التجاري البحري، وبالتالي زيادة عزلها عن العالم الخارجي.
هل كان هجوماً بأسلحةٍ كيماوية فعلاً؟
وبحسب خبراء غربيون تحدثوا إلى الغارديان، من السابق لأوانه الجزم بشكلٍ قاطع بشأن إذا ما كانت روسيا قد استهدفت ماريوبول بأسلحة كيماوية. حذَّرَ أحد خبراء الأسلحة الكيماوية، وهو كاسزيتا، من أن التشخيص عن بُعد كان دائماً صعباً، وتساءل عن سبب استخدام مثل هذه العبارة الطبية المحدَّدة مثل متلازمة الدهليزي في التقرير الأوَّلي.
وقال كاسزيتا إنه لم يتضح بعد ما إذا كانت مواد كيماوية قد استُخدِمَت في الأدلة المتاحة، مضيفاً أنه في الموقع الذي تعرض للهجوم، كان هناك "مجال كبير… للأسلحة التقليدية أو الحارقة يمكنها التسبُّب في مشاكل كيماوية، بسبب الحرائق والانفجارات".
وقال إليوت هيغينز، مؤسس وكالة بيلينغكات للصحافة الاستقصائية، إن الأعراض الموصوفة في مقطع الفيديو "تتعارض مع أي غاز أعصاب أعرفه، مع عدم وجود تقارير عن انقباض حدقة العين أو تمدُّدها أو تشنُّجها".
ومع ذلك، كان من الأهمية بمكان أن تحاول القوات الأوكرانية تجميع أي ذخيرة مستخدمة، وهو ما قد يكون ممكناً لأن قذائف الأسلحة الكيماوية مُصمَّمة لإطلاق محتوياتها وليس للانفجار.
الخلاصة هنا في آراء الخبراء هي أن تجميع الأدلة على استخدام الأسلحة الكيماوية بالتحديد ليس أمراً مستحيلاً، سواء من حيث القذائف المستخدمة لإطلاقها حيث لا تنفجر بل تكون مصممة لإطلاق محتوياتها، أو من خلال ضحاياها، وهو ما لم تقدمه القوات الأوكرانية، بخلاف التقرير ومقطع الفيديو ومصدرهما كتيبة آزوف، التي تتهمها موسكو بارتكاب جرائم حرب منذ 2014.
التحقيقات مستمرة.. في أمريكا وبريطانيا
وبحسب الغارديان، فإن التحقيقات بشأن مزاعم استخدام روسيا أسلحة كيماوية في ماريوبول مستمرة، لكن ليس في أوكرانيا، بل في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقال المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، إن الولايات المتحدة لديها مخاوف بشأن قدرة روسيا على استخدام "عوامل مكافحة الشغب، بما في ذلك الغاز المسيل للدموع الممزوج بمواد كيماوية". ويُعتَبَر الغاز المسيل للدموع سلاحاً كيماوياً محظوراً في الحروب، رغم استخدامه قانونياً لقوات الشرطة في جميع أنحاء العالم.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد حذر، بعد قمة الناتو الشهر الماضي مارس/آذار، من أن الغرب سيرد على أي استخدام روسي للأسلحة الكيماوية في أوكرانيا، مع "طبيعة الرد اعتماداً على طبيعة الاستخدام".
لكن تأثير الحادث- مع تصوير ثلاث ضحايا فقط- يبدو محدوداً، ومن الصعب أن يثير رداً عسكرياً كبيراً في هذه المرحلة. ومع محاصرة القوات الروسية لماريوبول وعدم إمكانية الوصول إليها من الخارج، لا يوجد أي احتمالٍ لإجراء تحقيق مستقل.
ويمكن لمزيدٍ من المعلومات أن تغيِّر الصورة، لكن قد لا تكون تلك الحادثة في الوقت الحالي بنفس الدرجة التي كان يُخشَى منها في البداية، وفي الوقت نفسه هناك تساؤلات حقيقية بشأن مدى مصداقية ذلك التقرير ومقطع الفيديو ومصدرهما كتيبة آزوف من داخل ماريوبول المحاصرة.
روسيا، من جانبها، تتهم الولايات المتحدة بالوقوف وراء مزاعم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والأسلحة الكيماوية بهدف شيطنة الكرملين ورئيسه فلاديمير بوتين، الذي كان بايدن قد دعا علناً إلى الإطاحة به، رغم سعي البيت الأبيض للتخفيف من تصريحات رئيسه.
وكانت روسيا أيضاً قد وجهت اتهامات للولايات المتحدة بإدارة معامل سرية وبرامج لإنتاج أسلحة بيولوجية على الأراضي الأوكرانية، ونفت واشنطن ذلك دون تقديم ما يدحض الاتهامات الروسية المقرونة بمستندات حصلوا عليها بعد السيطرة على تلك المواقع في بداية الهجوم على أوكرانيا، الذي بدأ يوم 24 فبراير/ شباط.
ويتوقع أن تزداد وتيرة الاتهامات الموجهة من الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة كلما اقتربت الحرب في أوكرانيا من الوصول إلى نهاية ما، قياساً على يحدث في الأزمة الأوكرانية وقبل حتى أن تندلع الحرب فعلياً.
الرئيس الأوكراني زيلينسكي نفسه، الذي تتهمه موسكو بأنه "دمية" يحركها الغرب، كان قد وجه اتهاماً لزعماء غربيين بأنهم يريدون إشعال الحرب في أوكرانيا لتحقيق مكاسب سياسية شخصية، ورغم أنه لم يذكر أسماء إلا أن حديثه كان يبدو موجهاً إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون.
حديث زيلينسكي كان موجهاً للصحفيين يوم 28 يناير/كانون الثاني، أي قبل أقل من شهر واحد من بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، وقال وقتها إن "أوكرانيا ليست تايتانيك!" منتقداً قرار إجلاء الدول الغربية دبلوماسييها من كييف، علماً بأن واشنطن كانت أول من اتخذ القرار وزعمت إدارة بايدن إنها نسقت مع الحكومة الأوكرانية، لكن أشارت انتقادات زيلينسكي إلى أن ذلك لم يكن صحيحاً.
ويرى كثير من المحللين أن الأزمة الأوكرانية المستمرة منذ عام 2014 قد اتخذت منحى تصعيدياً خطيراً مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض؛ إذ استقبل الرئيس الأمريكي زيلينسكي، وقدم له وعوداً بالدعم الأمريكي، لرغبة كييف الانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي، عكس ما كان الموقف عليه أثناء رئاسة دونالد ترامب.
الخلاصة هنا هي أنه لا توجد أي أدلة، حتى الآن، تثبت استخدام روسيا أسلحة كيماوية لا في ماريوبول ولا في أي مكان آخر في أوكرانيا، ويبدو أن الاتجاه لشيطنة بوتين هو الدافع الأساسي وراء ترديد مسؤولين أمريكيين وبريطانيين لتلك المزاعم، بحسب أغلب المراقبين.