انخفض الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي المصري بنسبة مقاربة لـ10%، وخلال شهر مارس/آذار فقط، وذلك "وفي ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية المضطربة والأزمة الروسية الأوكرانية"، بحسب ما نقلته قناة العربية.
ولكن لماذا تراكم مصر -وأي دولة أخرى- الاحتياطيات الأجنبية أساساً؟ وفيمَ تستخدم هذه الاحتياطيات؟ ولماذا يشكل انخفاضها بهذه الحدة خطراً على الاقتصاد ومستقبله؟
ما هي الاحتياطيات الأجنبية؟
تستطيع الدول طباعة عملتها المحلية؛ والبنوك المركزية هي السلطة المسؤولة بالشكل الأول عن هذه العملة، ومقدار عرضها في الاقتصاد، وعموم ما يتعلق بإدارتها ومراقبة المؤسسات المالية في الاقتصاد، بالإضافة إلى الأفراد والشركات التي تقوم بالتعاملات المالية بهذه العملة.
لكن البنوك المركزية تستطيع الاحتفاظ باحتياطيات بغير عملتها المحلية أيضاً، مثل مراكمة الذهب والعملات الأجنبية عند البنك المركزي؛ بالإضافة إلى غيرها من الأدوات المالية.
فالبنوك المركزية تستطيع أيضاً الاحتفاظ بسندات مقومة بعملة أخرى، مثل شراء الصين للكثير من سندات الدين الحكومية الأمريكية، إضافة إلى شهادات الإيداع في البنوك الأجنبية.
بالإضافة إلى كل ذلك؛ يمكن للبنك المركزي الاحتفاظ بما يسمى بـ"حقوق السحب المحفوظة Special Drawing Rights" والتي تم اختراعها من قِبَل صندوق النقد الدول؛ لتكون أصولاً مالية عالمية.
تمتلك الصين أكبر احتياطيات أجنبية في العالم، وبقيمة قدّرت عام 2020 بـ 3.3 تريليون دولار، تليها اليابان بأقل من نصف القيمة؛ حيث إنها تمتلك احتياطيات مقاربة لـ1.4 تريليون دولار، وسويسرا في المرتبة الرابعة بتريليون دولار.
ومن الملحوظ أن السعودية تقع ضمن قائمة أكبر 10 احتياطيات أجنبية في العالم، فهي تمتلك 472 مليار دولار، وفي المرتبة التاسعة على العالم، بينما لا تمتلك مصر -مثلاً- إلا 37 مليار دولار اليوم، بينما امتلكت مبلغ 38 مليار دولار عام 2020، وجعلها ذلك في المرتبة 48 على العالم.
يشكل الدولار أكثر هذه الاحتياطيات حول العالم، فهو مقارب لـ58% من إجمالي الاحتياطيات العالمية، يتلوه اليورو بنسبة 20% من إجمالي الاحتياطيات.
لماذا تستخدم الاحتياطيات الأجنبية؟
تستخدم البنوك المركزية احتياطياتها الأجنبية لتحقيق أهداف اقتصادية بالغة الأهمية، فهي تستخدم هذه الاحتياطيات الأجنبية والذهب وغيره لتحقيق الاستقرار، وضمان قوة العملة المحلية، وكضمانة للبنوك المركزية من الأزمات الاقتصادية، ووسيلة لدفع مستحقات الديون بالعملات الأجنبية، كما أنها تستخدم للتأثير في قيمة العملة.
ربما كان أحد أهم أهداف مراكمة هذه الاحتياطيات هو كونها ضماناً من تدهور قيمة العملة المحلية؛ ففي هذه الحالة يبقى بيد البنوك المركزية مبالغ بعملات أخرى؛ لم تنخفض قيمتها، وتستطيع استخدامها، لحماية الاقتصاد أو محاولة تحقيق التعافي فيه، خصوصاً في العلاقة الاقتصادية الخارجية.
لذلك فمن المنطقي أن كثيراً من الاقتصاديين ينصحون بمحاولة الاحتفاظ بالكثير من العملات الأجنبية غير المرتبطة بالعملة المحلية؛ لأنّه وفي حالة تثبيت العملة مثلا إلى الدولار، فذلك يعني أن رفع احتمالية تدهور العملة المحلية، لأن انخفاض قيمة الدولار سيعني انخفاض العملة المحلية معه، وفي هذه الحالة سيكون من الأفضل امتلاك احتياطيات باليورو.
طبعاً هذه قاعدة افتراضية، لكن الدولار من العملات الصعبة والأهم في العالم، وتدهور قيمتها يعني أزمة اقتصادية عالمية بالغالب، وقد لا ينفع حينها امتلاك أي نوع من أنواع الاحتياطيات؛ إلا الذهب طبعاً، والاعتماد على الاقتصاد المحلي، وعلى السلع الاستراتيجية التي يستطيع إنجازها.
كما أن البنوك المركزية تستخدم هذه الاحتياطيات لتغطية قيمة المستوردات الخارجية، فالمستوردون المحليون لا يملكون عادة مبالغ كبيرة بالعملات الأجنبية، ويحتاجون لتحويل ما لديهم من جنيهات -مثلاً- إلى الدولار، ليستطيعوا الشراء من الخارج، لأن المصدرين في أوروبا -مثلاً- لن يقبلوا تسلّم ثمن بضاعتهم بالجنيه، ولكنهم سيقبلون ذلك بالدولار.
لذلك يحتفظ البنك المركزي باحتياطيات أجنبية تمكنه من ملاقاة الطلب على المستوردات من المواطنين المحليين، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بسلع استراتيجية لا بد من توفيرها من الخارج.
أيضاً، يحتاج البنك المركزي لتوفير سيولة بالعملة الأجنبية لسداد أقساط الديون، وتحديدا الديون قصيرة الأجل؛ لأن مثل هذه الديون لها فترة سماح قصيرة نسبياً بعد موعد الاستحقاق، إذا لم يتمكن البلد من تسديد ما عليه خلال هذه الفترة يعتبر بلداً متعثراً، وهذا سيؤثر على متانة اقتصاده، وتصنيفه الائتماني، وأسعار الفائدة التي ستفرض عليه في المستقبل.
وقد اعتمد الاقتصاديون قاعدة معينة لتحديد الاحتياطي المناسب توفيره في بلد ما، بحيث إن هذه الاحتياطيات يجب ألا تقل عن تغطية 3 أشهر من المستوردات، أو 100% من قيمة الديون قصيرة الأجل.
كما أن البنك المركزي يستطيع استخدام احتياطياته الأجنبية لشراء العملة المحلية في السوق، وذلك في حالة انخفاض سعر العملة المحلية تحت قيمة مقبولة ما، فيزيد البنك المركزي الطلب على العملة بنفسه، رافعاً بذلك قيمتها.
كيف يراكم البنك المركزي الاحتياطيات الأجنبية؟
كما أن المصدرين يتجهون للبنك المركزي لتحصيل الدولار لدفع أثمان ما يريدون استيراده؛ فالمصدرون من جهة أخرى يحصلون على الدولارات من تصدير بضائعهم للخارج، لكنهم لا يستخدمون كل هذه الدولارات، فجزء منها على الأقل يجب تحويله إلى العملة المحلية، لاستخدامها في المشتريات المحلية، وفي دفع رواتب العاملين، وغيرها من التكاليف.
لذلك يحصل البنك المركزي على جزء من احتياطياته عن طريق تحويل الدولارات في يد المصدرين إلى العملة المحلية.
وهناك طبعاً عوامل أخرى؛ منها عوائد السياحة؛ لأن السياح يأتون بعملات أجنبية إلى البلاد، وتحويلات العاملين في الخارج، بالإضافة إلى استثمارات البنوك المركزية في أصول مالية أجنبية، قد تستطيع تحقيق أرباح، بالإضافة إلى قدرة الاقتصاد على جذب رؤوس الأموال الأجنبية من الخارج على شكل استثمارات.
بالمجمل؛ كلما استطاعت البلاد أن تمتلك ميزاناً تجارياً موجباً وأكبر حجماً (الصادرات أكبر من المستوردات)، فذلك يعني أن البنوك المركزية ستُراكم احتياطيات أكبر، عنى ذلك أن وضع البلد من حيث الاحتياطيات ستكون أفضل، وكذلك بالمجمل الوضع المالي الخارجي للدولة.
لماذا تحصل الانخفاضات الحادة في الاحتياطي؟
تحصل هذه الانخفاضات الحادة عند الأزمات الاقتصادية، وخصوصاً التي تنطلق بسبب عوامل خارجية، تؤثر على الميزان التجاري، وعلى قيمة العملة في السوق أيضاً.
فبسبب ظرف اقتصادي ما؛ قد تبدأ رؤوس الأموال الأجنبية داخل بلد بالخروج منه، لأن الظرف الحالي يعني أن احتمالات الربح أصبحت أقل من الاستثمار في هذا البلد، أو أن احتمالات الخسارة قد ارتفعت حتى.
وكذلك يعني انخفاض الاستقرار السياسي في بلد ما التأثير على إيرادات السياحة فيه، فالأوضاع غير المستقرة؛ خصوصاً إذا تضمنت عمليات عنف في البلاد، أن الجاذبية السياحية ستتأثر كثيراً.
أما تحويلات العاملين في الخارج؛ فهو موضوع أعقد لأنها لا تتعلق بالظرف السياسي أو الاقتصادي الداخلي، بل تتعلق بالدرجة الأولى بظرف سياسي واقتصادي في بلد آخر، فعندما تقرر دول الخليج تقليل اعتمادها على العمال الأجانب، وبدء تسريحهم، لتوطين أحد القطاعات، فهذا يعني انخفاض تحويلات العاملين إلى بلدان عربية كثيرة.
لكن العامل الأهم، والأكثر أساسية هو العجز المزمن في الميزان التجاري لبلد ما، لأنه المورد الأساسي للعملة الصعبة من حيث الصادرات، وهو الباب الأساسي لاستهلاكها أيضاً من حيث المستوردات.
وبسبب كل هذه العوامل وغيرها، يرتفع الطلب أو ينخفض على عملة ما، مسببة بذلك ارتفاع قيمة العملة أو انخفاضها، وبالتالي يحدد ارتفاع الاحتياطي أو انخفاضه، بناء على مدى حاجة المركزي لاستخدام احتياطياته في شراء العملة المحلية.
مصر وروسيا.. مثالان حيان على أهمية الاحتياطي الأجنبي
تحقق روسيا فائضاً في ميزانها التجاري بشكل سنوي، والفضل في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى صادرات روسيا من الطاقة، ولذلك فالبلد لا يعاني من أزمة في ميزانها التجاري.
كما أن روسيا تمكنت من مراكمة احتياطيات ضخمة حتى بدء الحرب، تقدر بـ 630 مليار دولار، هي جزء من استعدادات روسيا لأي حزمة عقوبات في حالة الوصول لتصعيد مشابه لما حصل منذ بدء الهجوم على أوكرانيا.
لكن تجميد هذه الاحتياطيات كان جزءاً من العقوبات الغربية على روسيا، وأحد أسباب الخوف من انهيار سعر الروبل، وبالتالي انسحاب كثير من المستثمرين، وبيع الروبل بشكل ضخم في السوق، حتى تسبب ذلك بانخفاض قيمته بشكل حاد جدا وخلال أيام.
لكن الصادرات الروسية من الطاقة، والتي لم تتوقف رغم العقوبات تمكنت من أن تساهم في إعادة سعر الروبل إلى قيم ما قبل الحرب.
في المقابل؛ تعاني مصر اليوم من مجموعة من العوامل المتشابكة؛ والتي تضغط على احتياطياتها وأدت إلى انخفاض هذه الاحتياطيات بنسبة 10% تقريباً في شهر واحد، أو ما قيمته 4 مليارات دولار تقريباً.
فالميزان التجاري المصري سالب (المستوردات أكبر من الصادرات) منذ عقود طويلة؛ بل إن مصر لم تكد ترَ عاماً واحداً في تاريخها كانت صادراتها فيه أكبر من مستورداتها، كما يبين ذلك الحساب الجاري لمصر.
كما أن السياحة ما زالت متضررة من أزمة كورونا، وعدم عودة الاقتصاد والحياة الطبيعية إلى ما كانت عليه قبلها، أضف إلى ذلك تضرر السياحة في مصر من الأزمة الأوكرانية، لأن جزءاً مهماً من السياح القادمين إلى البلاد، يأتون من البلدين.
لكن العامل الأهم والراهن اليوم، هو أن الاقتصاد المصري تلقى ضربة موجعة بسبب الأزمة الأوكرانية، من حيث انسحاب رؤوس الأموال من مصر، بسبب الخوف من تداعيات الأزمة على الاقتصاد لاحقاً.
ما زالت الاحتياطيات المصرية تغطي 5 أشهر من المستوردات، وهو أكثر من كافٍ بحسب القاعدة المعتمدة، لكن الانخفاض الحاد في شهر واحد يشير إلى هشاشة وضع هذه الاحتياطيات، وإمكانية انخفاضها إلى ما دون الوضع الآمن بشكل سريع، خصوصاً إذا ما استمرت الظروف الاقتصادية التي تؤدي إلى ذلك.