جاء تأهل المرشحة اليمينية المتطرفة، ماريان لوبان للجولة الثانية بالانتخابات الرئاسية الفرنسية وزيادة نسبة التصويت لها ليكون بمثابة خبر سعيد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومقلق ليس فقط لمسلمي فرنسا، بل للإدارة الأمريكية أيضاً، وسط مخاوف أمريكية من حدوث تدخل روسي في انتخابات فرنسا.
وفاز الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بـ28.4% من الأصوات في الجولة الأولى وفقاً لنتائج أولية، محققاً تحسناً مقارنة بأدائه في الجولة الأولى في انتخابات 2017، حين حقق 24.01% من الأصوات، ولكن ليس هذا خبراً جيداً على الإطلاق بالنسبة لماكرون، لأن في انتخابات 2017 كان ماكرون مجرد مرشح شبه مغمور مقابل مرشحين أقوياء مثل اليميني فرانسو فيون مرشح حزب الجمهوريين، لكن في الانتخابات الحالية سُحِق اليمين الفرنسي تماماً في الانتخابات، حيث حصلت مرشحة اليمين التقليدي فاليرى بيكريس على 4.7% من الأصوات.
ولكن لم تكُن اليمينية المتطرفة ماريان لوبان هي فقط التي سجلت زيادة كبيرة في الأصوات التي نالتها بعد أن حصلت على 23.6% مقابل 21.3% في الجولة الأولى في عام 2017.
ولكن حصل المرشح اليميني الأكثر تطرفاً إريك زمور على 7% من الأصوات، أي أن اليمين المتطرف نال أكثر من 30% من الأصوات، وأصوات هذا المرشح المتطرف ستذهب بطبيعة الحال للوبان في الجولة الثانية.
وليست النتائج فقط هي ما يقلق، ولكن سياسة فرنسا في الأزمة الأوكرانية وطبيعة الجدل الذي دار خلال فترة الحملة الانتخابية.
فرنسا تتجاهل أزمة أوكرانيا وتواصل الحديث عن الحجاب
بدت أن فرنسا قد غرزت أقدامها في التطرف ولا تريد الخروج منه، بينما العالم منشغل بالأزمة الأوكرانية، ظل العداء للمسلمين والدعوة لتقييد حرياتهم محوراً للحملة وكأنه لم يكف المرشحين التضييقات التي فرضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عليهم، بل توعدت المرشحة اليمينية لوبان بفرض غرامات على المحجبات في الأماكن العامة.
كما أنه لم يكفِ الناخبين الموقف المتخاذل لماكرون تجاه روسيا في الأزمة الأوكرانية، وبدلاً من أن يكون هذا إحدى نقاط ضعفه وهو الرجل الذي كان يدافع عما يسمى السيادة الأوروبية، لكن الغريب أن نسبة كبيرة من مرشحي الانتخابات الفرنسية متعاطفون مع روسيا، بل يتبارون في إظهار تفهمهم لأسباب الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن بينهم مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون الحاصل على نحو 21.1%.
وبدا كل ذلك مؤشراً واضحاً على أن المزاج الفرنسي قريب من روسيا وأن باريس بمثابة طابور خامس في خاصرة الغرب لصالح روسيا، وهو أمر تسبب به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر وضعه استهداف المسلمين في صدارة أجندته السياسية بدءاً من استهداف المساجد والحجاب وصولاً إلى العداء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبدا واضحاً من زيادة نسبة التصويت للوبان رغم اتهامها بالإعجاب ببوتين، أن فرنسا تغرد خارج السرب الغربي تماماً فيما يتعلق بروسيا، وأن سياسة ماكرون التي انتقدت في الغرب مثل إصراره على التواصل مع بوتين، وضعف عملية تزويد باريس لأوكرانيا بالسلاح، وعدم الإعلان عنها ليس تعبيراً عن توجه ماكروني ولكنه مزاج فرنسي عام، أصبح مصراً على تصويب بوصلة العداء الغربي للمهاجرين المسلمين البسطاء، وتجاهل ما تمثله روسيا من خطر واضح على أوروبا التي يدعي الفرنسيون قيادتها.
والمرشحون المتعاطفون مع روسيا هم لوبان وزمور والمرشح اليساري الراديكالي ميلانشون حصلوا على نحو نصف الأصوات في الانتخابات، علماً بأن باقي المرشحين بما فيهم ماكرون لا يمكن وصفهم بالمعادين لروسيا، ولكنهم منتقدون لها بحكم الواجب أو بالحد الذي يرفع الحرج أمام بقية الغرب.
ومما يزيد من تأثير روسيا المحتمل في الانتخابات أن الموضوع الأول محل النقاش في الانتخابات كان مسألة غلاء المعيشة وتم ربطه بالحرب الروسية على أوكرانيا، وقدمت لوبان خطاباً يربط يرفض تعزيز العقوبات على روسيا بحجة أنها سوف تؤدي لتفاقم معاناة المواطن الفرنسي.
وجعلت لوبان محور حملتها الانتخابية بشأن الأزمة الأوكرانية، هو ضرورة دمج روسيا مجدداً داخل أوروبا، متجاهلة ما تمثله موسكو من خطر على دول الاتحاد الأوروبي لو تمكنت من ابتلاع أوكرانيا.
فوز لوبان قد يزعزع الموقف الغربي من أوكرانيا
في عام 2017، أعربت لوبان عن دعمها لغزو بوتين لشبه جزيرة القرم ومعارضتها لعقوبات الاتحاد الأوروبي رداً على الضم. وتعهدت في ذلك الوقت بأنها إذا فازت فسترفع رفع العقوبات على روسيا.
قبل أسبوعين فقط، قالت للتلفزيون الفرنسي إن بوتين "يمكن أن يصبح حليفاً لفرنسا مرة أخرى عندما تنتهي الحرب".
وأضافت: "روسيا لن تذهب إلى أي مكان، ولطالما قلت إن قوة عظمى يمكن أن تكون حليفة في عدد من المواقف".
وقد يؤدي فوز لوبان المحتمل، إلى زعزعة استقرار التحالف الغربي ضد موسكو، ويحتمل أن يضعف مواقف الدول الأوروبية داخل الناتو، وفقاً لما نقله موقع صحيفة Politico الأمريكية، عن ثلاثة من كبار المسؤولين بإدارة بايدن.
وفي محاولتها الثالثة لتولي منصب الرئاسة، صعدت لوبان خلال الأسبوعين الماضيين خطابها، حيث ركزت على قضايا غلاء المعيشة، حيث يكافح الملايين في فرنسا لتغطية نفقاتهم بعد ارتفاع أسعار الغاز بنسبة 35% خلال العام الماضي.
على الرغم من أن لوبان تصنف نفسها على أنها شعبوية حميدة، إلا أن برنامج حملتها حول الهجرة والإسلام لا يزال متطرفاً، مع وجود خطط لحظر الحجاب في جميع الأماكن العامة ومنع الأجانب من التمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطنون الفرنسيون.
اسم عائلتها مرادف للعنصرية وكراهية الأجانب- وهي الآن تتصدر حزب اليمين المتطرف المناهض للهجرة الذي أسسه والدها.
ولقد كانت معجبة بلا خجل ببوتين، الذي التقت به في موسكو في عام 2017. على الرغم من أنها نأت بنفسها إلى حد ما عن الرئيس الروسي منذ غزو أوكرانيا، ولكن تحدثت بتعاطف عن منطق بوتين للحرب ورفضت بعضاً من إجراءات التحالف الغربي المتشددة ضد روسيا.
وقالت لوبان: "هل نريد أن نموت؟ اقتصادياً، سنموت!".. عندما سئلت في مناظرة تلفزيونية حديثة عما إذا كان ينبغي على فرنسا قطع واردات النفط والغاز من روسيا. "علينا أن نفكر في شعبنا".
انتصار لوبان، الذي لم يكن من الممكن تصوره في يوم من الأيام، من شأنه أن يعرض الاتحاد الأوروبي لأكبر أزمة له منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مما قد يؤدي إلى اندلاع حشرجة الموت البطيئة للاتحاد وستهز بشدة التحالف الداعم لأوكرانيا الذي يمتد من وارسو إلى واشنطن.
السيناريو الأسوأ، وفقاً لمسؤولي البيت الأبيض، هو أن لوبان قد تفوز ثم تسحب فرنسا من التحالف الذي يقف حالياً إلى جانب كييف ضد موسكو. لقد قطعت حكومة ماكرون بالفعل خطاً دقيقاً مع موسكو، حيث حاول الرئيس الفرنسي لعب دور الوسيط في الأيام التي سبقت غزو بوتين. منذ ذلك الحين، دعمت فرنسا الأوكرانيين بالأسلحة والمساعدات، لكن الفرنسيين التزموا الصمت حيال ذلك، ورفضوا الإفصاح عن تفاصيل حول ما يرسلونه ومقدار إرساله.
تخشى واشنطن من أن يؤدي وجود لوبان في الإليزيه إلى الإخلال بهذا التوازن الدقيق. وقد يدفع فوزها بعد ذلك زعماء أوروبيين آخرين- بعضهم كان قلقاً بالفعل بشأن مواجهة روسيا إلى إضعاف التحالف أيضاً.
يعتقد بعض مساعدي بايدن أنه حتى لو تمكن ماكرون من الفوز بنسبة ضيقة، فلا يزال من الممكن أن يكون للانتخابات الفرنسية تأثير مخيف على القادة الأوروبيين الذين قد يقلقون بشأن مستقبلهم السياسي في نهاية المطاف ضد الشعبويين الأقل تطرفاً من لوبان.
قد يتفاقم هذا الخوف فقط إذا أصبحت الحرب بين روسيا وأوكرانيا صراعاً طويل الأمد يستمر لأشهر وأشهر، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة في جميع أنحاء أوروبا، وهي قارة تعتمد على موسكو للحصول على الغاز والنفط.
وقال بنجامين حداد، مدير مركز أوروبا في المجلس الأطلسي: "انتخاب لوبان سيكون كارثة بالنسبة لأوروبا والجبهة عبر الأطلسي لدعم أوكرانيا". إنها تعارض العقوبات وتسليم الأسلحة لأوكرانيا، وقد انحازت دائماً إلى فكرة الحديث إلى الكرملين بشأن أوكرانيا وخاصة مسألة انضمامها للناتو.
ويتضمن برنامج لوبان ترك القيادة العسكرية لحلف الناتو وسلسلة من إجراءات الحظر المناهضة للاتحاد الأوروبي والتي من شأنها أن تصل في الواقع إلى فريكسيت على الطريق مماثل للبريكسيت البريطاني، على الرغم من أنها أزالت فريكسيت من برنامجها هذه المرة حتى لا تخيف الناخبين.
ماكرون المتعالي على الشعب صديق لبوتين أيضاً
كان يُنظر إلى المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل ذات مرة على أنها مبعوث أوروبا لبوتين، وهو لقب حمله ماكرون.
وعشية الحرب الأوكرانية، جلس ماكرون على طاولة بوتين الطويلة الشهيرة في محاولة لتجنب الغزو. وتحدث الزعيمان عدة مرات عبر الهاتف منذ ذلك الحين. تعرض ماكرون لانتقادات بسبب انخراطه مع بوتين، لا سيما من الرئيس ورئيس الوزراء في بولندا.
ونما بعض الاستياء من أن ماكرون- الذي تغلب على لوبان في عام 2017 – كان أكثر تركيزاً على الدبلوماسية الدولية من المخاوف المحلية في بلد منهك بعد صراعه مع جائحة لمدة عامين.
دخل ماكرون في جدال مع من يسمون متظاهري "السترات الصفراء"، الذين اندلعت شرارتهم في البداية بضريبة الغاز ثم تحول الأمر إلى حركة أوسع في 2018-2019. كما أنه لم ينجح أبداً في التخلص من وصمة العار لكونه زعيم "باريس"- وليس فرنسا كلها- الذي فشل في التعامل مع المشاكل اليومية.
وكونه قفز إلى الحملة الرئاسية في وقت متأخر، واثقاً من أن العمل كرجل دولة دولي سيضمن فترة ولاية ثانية، هو مثال على ذلك بالنسبة لبعض الناخبين.
يعتقد معظم المحللين أن فوز لوبان يظل غير محتمل.
لكن إذا هُزم ماكرون أمام لوبان هذه المرة، فقد يحدث صدع كبير في الجدار عبر المحيط الأطلسي الذي بناه بايدن ونظراؤه الأوروبيون. بعد أربع سنوات مضطربة من حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أدت إلى توتر شديد في التحالفات التقليدية، قام بايدن بمهمة مركزية لطمأنة أوروبا بأنها يمكن أن تعتمد على الولايات المتحدة مرة أخرى. لقد قام بثلاث رحلات إلى أوروبا أثناء رئاسته- بما في ذلك الشهر الماضي إلى بروكسل وبولندا- لتأكيد تلك العلاقات، وأعاد التزام الولايات المتحدة بحلف الناتو المصمم ليكون حصناً لعدوان موسكو.
ولكن في المقابل، أغضبت سياسته في آسيا والمحيط الهادئ ماكرون خاصة بقيامه بإبرام صفقة غواصات أمريكية وبريطانية مع أستراليا بدلاً من صفقة الغواصات الفرنسية العملاقة.
احتمال حدوث تدخل الروسي في انتخابات فرنسا
هناك قلق متزايد داخل إدارة الرئيس جو بايدن بشأن الانتخابات الفرنسية وتأثيرها على وحدة الصف الغربي في الأزمة الأوكرانية.
وحسب صحيفة Politico "فلقد راقب كبار المسؤولين الأمريكيين بحذر عبر المحيط الأطلسي أي علامات على تدخل روسي محتمل في الجولة الأولى من الانتخابات، التي أجريت يوم الأحد".
ولكن أي تدخل روسي لصالح لوبان قد يكون أكثر فاعلية في الجولة الثانية الحاسمة، خاصة أن تأهل لوبان كان مضموناً في الجولة الأولى.
قال المسؤولون إن واشنطن كانت تراقب الانتخابات وتشارك المعلومات حول التدخل المحتمل في روسيا، من الروبوتات إلى الحسابات المزيفة، على الرغم من أن معظم جهود موسكو الإلكترونية في الوقت الحالي تركز على تبادل الدعاية لدعم المجهود الحربي في أوكرانيا.
وسبق أن أفادت تقارير بأن موقع حركة "إلى الأمام" المؤيدة لماكرون قد تعرض لحوالى 100 محاولة قرصنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 قبيل الانتخابات الفرنسية التي جرت في عام 2017 وزاد الأمر مع اقتراب الانتخابات في ذلك العام.
فوز لوبان سيكون فوزاً كبيراً لبوتين
لقد عمل الحلفاء الغربيون إلى حد كبير على قدم وساق في وضع عقوبات اقتصادية وتزويد أوكرانيا بالمعدات العسكرية اللازمة. واجه الغزو الروسي صعوبات جمة في الأيام الأخيرة، واضطر بوتين بالفعل إلى تقليص أهدافه الحربية بشكل كبير.
لكنه سيحصل على دعم كبير بفوز لوبان. هذه المرة، والتي ركزت بلا هوادة على القضايا الاقتصادية، ووعدت بخفض أسعار الغاز والكهرباء، وفرض ضريبة على توظيف الموظفين الأجانب لصالح المواطنين. ولكن في حين أنها خففت من حدة خطابها، واستفادت من وجود مرشح أكثر تطرفاً منها هو إريك زمور، إلا أنها لم تغير سوى القليل من برنامجها، بما في ذلك إجراءات مثل إزالة المزايا من العديد من المهاجرين، والتخلي عن أسبقية قانون الاتحاد الأوروبي وإغلاق الباب. على معظم طالبي اللجوء.
"تمثل لوبان تهديداً تاريخياً لواحدة من أهم الديمقراطيات في أوروبا". لقد أثنت على بوتين وتعتمد على الأموال الروسية، حسب لورين سبيرانزا، مديرة برنامج الدفاع والأمن عبر الأطلسي في مركز تحليل السياسة الأوروبية.
وتابعت إسبيرانزا: "إذا قادت فرنسا، فسيكون من الصعب للغاية الحفاظ على الوحدة النسبية التي أظهرها الناتو عبر الأطلسي حتى الآن في الحرب في أوكرانيا". إن انتخابها سيلعب مباشرة في هدف بوتين المتمثل في تفاقم التصدعات في حلف شمال الأطلسي.
ولا يمكنها التهرب من مدحها السابق لبوتين. وضغط ماكرون مراراً وتكراراً على هذه النقطة، حيث أخبر المراسلين هذا الأسبوع أنه ليس المرشح في السباق الذي أظهر "الرضا عن فلاديمير بوتين".
ولكن يبدو أن هذه الانتقادات بشأن علاقتها ببوتين لم تؤثر كثيراً عليها، وهو ما يظهر أن المشكلة ليست مع لوبان بل المزاج الفرنسي، الذي يريد أوروبا الموحدة تخدم تصوره لمصالحه، وليس المصالح الجمعية للقارة.