نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية تقريراً سلط الضوء على تراجع العلاقات الأمريكية مع العديد من الدول الصديقة أو الحليفة لها في الشرق الأوسط، وذلك بسبب تراجع الدور الأمريكي في المنطقة والتركيز على ملفات ومناطق أخرى، حتى أنها وصلت إلى التوتر بعد الفتور في منطقة الخليج العربي مؤخراً.
وتقول المجلة إن الولايات المتحدة نجحت في ضم مصر إلى فريقها قبل نحو 50 عاماً. وقد كان ذلك "انتصاراً كبيراً في الدبلوماسية الصفرية للحرب الباردة"، حين تسابقت القوتان العظميان أمريكا والاتحاد السوفييتي على جمع الوكلاء الإقليميين. وانضم المصريون آنذاك إلى نادٍ يجمعهم بالسعوديين، والأردنيين، والإسرائيليين، والدول الخليجية الصغيرة التي كانت تبحث عن حمايةٍ في أعقاب انسحاب البريطانيين من مواقعهم شرق قناة السويس عام 1971.
وعلى مدار العقد التالي، أصبحت الولايات المتحدة أكثر تورطاً بشكلٍ مباشر داخل الشرق الأوسط، حيث شكّلت الدول المذكورة اللبنة الأساسية لمجموعةٍ من الدول الصديقة لأمريكا، والتي سهّلت على واشنطن تحقيق أهدافها في المنطقة مثل حماية تدفق النفط من المنطقة، والمساعدة في ضمان الأمن الإسرائيلي، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، إلى جانب سلسلةٍ من السياسات الأخرى "مفرطة الطموح" كغزو العراق، كما تصفها المجلة الأمريكية
العلاقات الأمريكية الشرق أوسطية.. من الصداقة إلى الاحتضار
لكن اليوم، وصلت العلاقات إلى مستويات سيئة وأخذت صداقات واشنطن في الشرق الأوسط تحتضر، إذ لم يستجب السعوديون والإماراتيون لمطالبات إدارة بايدن بضخ المزيد من النفط، بالتزامن مع ارتفاع الأسعار العالمية نتيجة هجوم روسيا على أوكرانيا.
وبعد فترةٍ وجيزة من الهجوم، امتنعت الحكومة الإماراتية عن التصويت على مشروع قرار لإدانة الهجوم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وبينما كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يسعى لتوحيد العالم ضد روسيا؛ سنجد أنّ السعودية والإمارات لم تدعما العقوبات المفروضة ضد روسيا، شريكتهم في منظمة أوبك+.
وفي منتصف مارس/آذار الماضي، استضاف الإماراتيون رئيس النظام السوري بشار الأسد بدبي. ومن الصعب تخيل الرسالة التي أراد ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد أن يبعث بها حين استقبل شخصاً مسؤولاً عن جرائم واسعة النطاق ضد الإنسانية، لكن من الواضح أن الاستضافة تعكس اختلاف المواقف بينهم وبين الولايات المتحدة.
ويُمكن القول إن المشكلات كانت تتراكم ببطء في علاقة الولايات المتحدة مع السعوديين، لكن مزيج العوامل الإقليمية والدولية والسياسية التي تضافرت معاً في الأشهر الأخيرة كانت السبب وراء التدهور العلني الواضح في العلاقات. هل تذكرون آخر مرة رفض خلالها زعيمٌ شرق أوسطي الرد على مكالمةٍ هاتفية من رئيس الولايات المتحدة؟ لقد أصبحت لدينا الآن واقعتان حديثتان، كما تقول "فورين بوليسي".
فقدان الثقة بالولايات المتحدة الأمريكية
ولا يتعلق الأمر "بانتقامٍ شخصي" فقط هنا، إذ لا يبدو أن لدى السعوديين والإماراتيين أدنى ثقة في الإعلانات الأمريكية حول التزام واشنطن بحمايتهم. ولنرجع بالزمن إلى الوراء في أيام إدارة ترامب، ونتذكر القصف الإيراني لمنشآت نفطية سعودية في بقيق وخريص في سبتمبر/أيلول 2019. حيث اختار الرئيس الأمريكي حينها عدم الرد على تلك الهجمات. ما قوّض أربع عقود من السياسة الأمريكية التي كانت تستهدف الدفاع عن الحقول النفطية في الخليج ضد التهديدات المنبعثة من داخل وخارج المنطقة.
ولا يتعلق الأمر بالسعوديين والإماراتيين فقط كذلك. فربما كانت إسرائيل هادئةً في انتقاداتها للولايات المتحدة خلال عهد رئيس الوزراء نفتالي بينيت، لكنه كان واضحاً هو ووزير خارجيته يائير لبيد في قولهم إن الإسرائيليين لن يلتزموا بأي اتفاقٍ نووي جديد مع إيران.
كما ضغطوا على الإدارة من أجل إعادة إدراج الحوثيين على قوائم الإرهاب، ويُشاركون الإماراتيين والسعوديين مخاوفهم المتعلقة بالحرس الثوري الإيراني. ومن ناحيتهم، حصل المصريون على أسلحةٍ روسية متطورة في السنوات الأخيرة، ولا يزالون متحوطين بعلاقاتهم مع الصين، رافضين الاختيار بين واشنطن وبكين.
وقد سادت الابتسامات في "قمة النقب" التي أُقيمت مؤخراً، والتي جمعت وزراء خارجية إسرائيل ومصر والبحرين والإمارات والمغرب مع وزير الخارجية الأمريكي. لكن الواقع يقول إن سنوات العمل الرسمي الأمريكي لتكوين إجماعٍ إقليمي قد حققت النتيجة المرجوة، لكن الإجماع الآن أصبح لا يتضمن الولايات المتحدة.
ومع أخذ جميع الزوايا بعين الاعتبار، سنكتشف أن هذه القضايا جعلت "الرفاق" في واشنطن يتساءلون عما إذا كان شركاء واشنطن في الشرق الأوسط هم شركاء بالفعل أم لا. وفي الوقت ذاته يطرح مسؤولو عواصم الشرق الأوسط نفس التساؤلات حول الولايات المتحدة، وهو موقفٌ يزداد سوءاً بسبب الحديث عن "مغادرة المنطقة" والـ"الابتعاد عنها".
"حالة الانفصال" الحالية بدأت في الواقع منذ وقتٍ طويل
تقول "فورين بوليسي" إنه مما لا شك فيه أن "المشاعر الجامحة" من جميع الجوانب أمرٌ مفهوم، لكن قيامنا برفع أيدينا وإعلان فشل الشراكات الأمريكية لن يمنحنا أي رؤى تساعدنا على فهم سبب هذا الانحراف وما يمكن فعله حياله، إن كان هناك ما يمكن فعل. ومن المغري بالطبع أن نلوم مختلف الشخصيات المتورطة في الأمر حالياً، لكن "حالة الانفصال" الحالية بدأت في الواقع منذ وقتٍ طويل تغطي فترات ثلاثة رؤساء أمريكيين (أي 13 عاماً ولا يزال العد مستمراً).
ويُمكن القول إن سبب ذلك يرجع إلى كون هذه العلاقات تحمل الكثير من المفارقات التاريخية. حيث اكتُشِفَت، وطُوِّرت، وبُنِيَت لزمانٍ مضى منذ وقتٍ بعيد. وقد توطّدت هذه العلاقات بفضل "الحرب العالمية على الإرهاب"، لكن الأمريكيين بدأوا الآن في تقبُّل تداعيات إضفاء الطابع الأمني على سياستهم الخارجية خلال العقدين الماضيين، وأصبحوا يريدون التغيير.
وبالنظر من نطاقٍ أوسع، سنجد أن المصالح الأساسية التي كانت تُحرك الولايات المتحدة داخل الشرق الأوسط -مثل التدفق الحر للنفط وتأمين إسرائيل- لم تعُد طارئةً بالقدر نفسه. ولا شك أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يُسلّط الضوء على مدى أهمية النفط الشرق أوسطي في الوقت الراهن، فضلاً عن أن التحول للطاقة النظيفة لن يكون بالسلاسة التي تصورها البعض.
ولكن تسارع عملية التكيف مع بدائل النفط (بعد 2030 وفقاً لتقديرات مجتمع الاستخبارات الأمريكي) سيُقلّل من أهمية حقول النفط في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة. وقد أعرب المشرعون الأمريكيون بالفعل عن عدم رغبتهم في مواصلة الدفاع عن أمن الطاقة الشرق أوسطية والتضحية من أجلها.
حيث تُعتبر إسرائيل دولةً صناعية متكاملة لديها ناتجٌ محلي إجمالي يوازي حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، مع سجلٍ يزعم قدرتها أن تدافع عن نفسها. فضلاً عن أنها "بدأت تندمج مع جيرانها ببطء"، حيث يتمتع الإسرائيليون بعلاقات ممتازة مع اليونان وقبرص، فضلاً عن مساعي الحكومة التركية لإقامة علاقةٍ جديدة مع تل أبيب. علاوةً بالطبع عن شركائها الجدد في العالم العربي -البحرين والإمارات والمغرب- الذين انضموا إلى الأردن ومصر في اتفاقيات التطبيع.
"أعراضٌ مَرضية" تُبشّر بوفاة النظام الأمريكي الذي بُنِيَ في أعقاب الحرب العالمية الثانية
في النهاية، تقول المجلة الأمريكية إنه يبدو أن الولايات المتحدة وأصدقاءها في المنطقة قد وصلوا إلى منعطفٍ لا تتقابل فيه مصالحهم بعده. ويمكن بالطبع أن يُعيد المسؤولون في واشنطن وعواصم الشرق الأوسط تشكيل العلاقات القديمة بناءً على مجموعة أهدافٍ جديدة، لكن الأهداف التي تريدها الولايات المتحدة ليست مرغوبةً من أحد مثل مواجهة الصين وروسيا، أو حتى دمج إيران في المنطقة لتحقيق الاستقرار.
ونتيجةً لذلك شهدنا تطورات عجيبة مثل قيام شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بدعم روسيا سلبياً، وتعميق العلاقات مع الصين. وربما يكون المصطلح الأدق لوصف هذه التطورات هو أنها "أعراضٌ مرضية" تُبشّر بوفاة النظام الأمريكي الذي بُنِيَ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى جانب حالةٍ من عدم اليقين حول ما سيحدث لاحقاً.