"سوف تضع إدارتي قضايا حقوق الإنسان وحماية الديمقراطية في القلب من سياستنا الخارجية"، كان هذا ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل أن يتسلم منصبه رسمياً، لكن الأيام والأحداث كشفت أن "التصريحات" في وادٍ بينما الأفعال في وادٍ آخر وبينهما مسافات أبعد مما بين الأرض والسماء.
وقبل أكثر من 73 عاماً أصبح العاشر من ديسمبر/كانون الأول من كل عام يوماً للاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان، والفكرة أيضاً كانت غربية بقيادة أمريكية، وباتت حقوق الإنسان والاعتبارات الأخلاقية هي المعيار الأساسي الذي تقوم عليه "حضارتنا الغربية"، بحسب الساسة والزعماء وقادة الولايات المتحدة والدول الغربية بشكل عام، لكن "الكلام" أسهل كثيراً من الأفعال.
وكان تصريح بايدن الشهير: "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل" نموذجاً صارخاً على أن المصالح أهم كثيراً من المبادئ، فديكتاتور ترامب المفضل "الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي" لم يغير شيئاً من سجله السيئ في مجال حقوق الإنسان، ورغم ذلك استمرت "الشيكات على بياض" من إدارة بايدن كما كانت أيام إدارة ترامب.
وقبل أن يتولى منصبه وعد بايدن أن يجعل السعودية "دولة منبوذة" بسبب جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، والتي أشارت أصابع الاتهام الأمريكية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان نفسه في تلك الجريمة البشعة، لكن بعد أن أصبح رئيساً توقفت "التصريحات" وبدأت "الأفعال" وشتان بين هذه وتلك.
وبالنسبة لاضطهاد الصين لأقلية الإيغور المسلمة، والتي وعد بايدن بأن يجعلها قضية أساسية بعد أن وصلت الأمور إلى حد التطهير العرقي (توصيفات غربية)، لم يفعل بايدن شيئاً أيضاً.
ألمانيا وصفقات السلاح لمصر والسعودية
"لن يكون هناك استثناءات للسياسة التقييدية لصادرات الأسلحة الألمانية إلا في حالات فردية مُبررة، وعقب مراجعة دقيقة. وأوضاع حقوق الإنسان سيكون لها دور مهم في هذا الشأن"، أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية، كانت بهذا الوضوح خلال زيارتها الأولى إلى القاهرة، وكان نظيرها المصري سامح شكري بجوارها في مؤتمر صحفي مشترك.
والسبب في هذه التصريحات القوية والمباشرة هو أن مصر خلال السنوات الثلاث الماضية أصبحت على رأس قائمة الدول المستوردة للأسلحة الألمانية، وهو ما أثار انتقادات حادة من جانب المنظمات الحقوقية وسياسيين ألمان معارضين، فأرادت بيربوك أن تطمئن الجميع أنه من الآن وصاعداً سيكون "احترام حقوق الإنسان" شرطاً رئيسياً لإتمام مبيعات الأسلحة.
ورغم أن ألمانيا لم تكن من الدول المعروف عنها تصديرها للسلاح بصورة مؤثرة، أو على الأقل لا تقارن بالولايات المتحدة أو فرنسا أو الصين أو روسيا مثلاً، فإن مبيعات الأسلحة الألمانية مؤخراً ارتفعت إلى مستويات قياسية، وجاءت دول في الشرق الأوسط وعلى رأسها مصر والسعودية على رأس قائمة المشترين، وهو ما أثار انتقادات حادة في برلين وجهت نحو حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل ووضعت الحكومة الجديدة تحت دائرة الضوء.
ففي تقرير صادر عن وزارة الاقتصاد الألمانية منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، اتضح أن صادرات الأسلحة الألمانية تجاوزت قيمتها 9 مليارات يورو، وهو رقم غير مسبوق على الإطلاق. واشترت مصر وحدها أسلحة ألمانية بقيمة تجاوزت أكثر من 4.3 مليار يورو، أي تقريباً نصف ما صدرته ألمانيا، وتلتها السعودية في قائمة المشترين.
وأثارت هذه التقارير مطالب بوقف تصدير السلاح إلى مصر والسعودية فوراً، وقال أوميد نوربيبور، رئيس حزب الخضر بالشراكة، إنه "لا ينبغي أن تكون هناك صادرات أسلحة إلى مصر والسعودية نظراً للسياسات الإشكالية لكلا البلدين".
وقال نوربيبور في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية نقلها موقع دويتش فيله: "لا ينبغي أن تكون هناك صادرات أسلحة ألمانية إلى مصر والسعودية؛ نظراً للسياسات الإشكالية لكلا البلدين".
"في مصر هناك أكثر من 60 ألف سجين سياسي، وقد تم بناء عدد من السجون الجديدة لهم. في الصراع الليبي انتهكت مصر مراراً اتفاقيات المجتمع الدولي- بما في ذلك توريد أسلحة ولوجستيات عسكرية"، بحسب ما قاله نوريبور لوكالة الأنباء الألمانية.
أما بالنسبة للسعودية، فهناك حظر أسلحة صادر منذ عام 2018 عن البرلمان الألماني والبرلمان الأوروبي، وقرار الأخير ملزم لجميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، على خلفية قضية اغتيال خاشقجي والحرب في اليمن، مما يثير الاستغراب بشأن كيفية صدور تراخيص من حكومة ميركل بتلك المبيعات من الأسلحة للسعودية وأيضاً لمصر.
فمصر، مثل العديد من الدول العربية الأخرى، جزء من التحالف العسكري الذي تقوده السعودية لدعم الحكومة في اليمن ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، حتى وإن كانت مشاركة بعض الدول لا يتم تسليط الضوء عليها إعلامياً لأسباب متعددة.
وقد يرى البعض أن الحكومة الائتلافية الجديدة في ألمانيا سيكون لها موقف أكثر صرامة في مجال الدفاع عن "القيم الغربية" وتقديم الاعتبارات الأخلاقية على المصالح الاقتصادية، قياساً على تصريحات وزيرة الخارجية بيربوك الصادرة من القاهرة، لكن التصريحات الوردية بشأن حقوق الإنسان كانت أيضاً تتصدر المشهد طوال السنوات الماضية.
فخلال أول زيارة لعبد الفتاح السيسي بعد أن أصبح الرئيس المصري، وكان ذلك في مارس/آذار 2015، ألغى رئيس البرلمان الألماني نوربرت لامرت اجتماعاً مع السيسي كان مخططاً له من قبل، لكنه أكد لامرت أنه لم يعارض الدعوة التي وجهتها الحكومة الألمانية إلى السيسي لزيارة ألمانيا لسبب وجيه: "من المرغوب والضروري أن يكون هناك اتصال وثيق للحكومة الألمانية مع حكومة دولة مهمة في منطقة مهمة".
وخلال زيارة أخرى للسيسي إلى ألمانيا عام 2018، ناشدت منظمة العفو الدولية ميركل أن تمارس "ضغوطاً حقيقية" على الرئيس المصري بشأن عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين والاختفاء القسري لنشطاء وقوانين مكافحة الإرهاب المطاطة في صياغاتها والتي تستخدم لتكميم الأفواه وسجن المعارضين السياسيين أو حتى المواطنين الذين يعبرون عن سخطهم من قسوة الظروف الاقتصادية.
وصدرت بيانات رسمية تؤكد أن المستشارة الألمانية "ناقشت ملف حقوق الإنسان" مع الرئيس المصري وأعادت التأكيد على أن تطور العلاقات السياسية والاقتصادية بين القاهرة وبرلين مرتبط بشكل مباشر بملف حقوق الإنسان.
وها هي ميركل غادرت منصبها واتضح بعد أربع سنوات أن التصريحات الوردية بشأن حقوق الإنسان لم تتوقف يوماً، كما أن مبيعات الأسلحة والصفقات الاقتصادية لم تتوقف أيضاً، بل ازدادت لتصل إلى أرقام غير مسبوقة. وبالتالي فإن تصريحات وزيرة الخارجية الحالية من القاهرة قد لا تعني شيئاً أيضاً. وكما قال رئيس المعهد الأوروبي للقانون الدولي والعلاقات الدولية محمود رفعت لموقع دويتش فيله: "للأسف المصالح الاقتصادية تطغى على الاعتبارات الأخلاقية".