إما تحالف وثيق ضد الغرب، وإما شقاق جديد كما حدث في الستينيات، تبدو العلاقات بين الصين وروسيا بعد الأزمة الأوكرانية مرشحة للدخول في أي من هذين السيناريوهين المتناقضين تماماً.
إذا كنت مستغرباً من احتمال أن يؤدي الغزو الروسي لأوكرانيا إلى مشكلة في العلاقات بين الصين وروسيا، رغم أن بكين تقف على الحياد، بينما الغرب هو الذي يعارض روسيا فتذكّر أنه في نهاية الأربعينيات كانت الصين وروسيا حليفتين ضد الغرب، بل كانت روسيا تدعم الجيش الصيني في حربه ضد الجيش الأمريكي في كوريا، ولكن بعد سنوات ليست بكثيرة انقلبت الأمور، ووقع شقاق صيني روسي وصل إلى اشتباكات محدودة على الحدود بين البلدين.
والآن بصرف النظر عن مصير الحرب الأوكرانية وما ستؤول إليه، فإن العلاقة بين روسيا والصين هي التي ستحدد إذا كان العالم سيتجنب حرباً بين القوى العظمى نتيجة أزمة أوكرانيا أم لا، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
مستقبل العلاقات بين الصين وروسيا قد يشكل العالم
إذا استمرت الصين في دعم نظام بوتين في مساعيه إلى إخضاع جيرانه بالقوة، فإن الاحتمال الأقرب أن ينجرَّ العالم في مرحلةٍ ما إلى مواجهة بين روسيا من جهة وأوروبا بدعم من الولايات المتحدة من الجهة الأخرى.
أما إذا كبحت الصين جماح بوتين بالتحالف معه أو بالتخلي عنه تخلياً تاماً فقد يمكن العودة إلى منافسة تنطوي على قدر أكبر من التوازن بين القوى العظمى. بناء على ذلك قال خبراء كثيرون -منهم خبراء في الصين نفسها- إن هذه اللحظة قد تكون أبرز محطة للصين على الساحة الدولية، تستطيع فيها اغتنام الفرصة لفعل ما فيه النفع لنفسها ولبقية العالم.
الصين تتبنى خطاب بوتين في الأزمة
ومع ذلك، فإن الصين تقاعست حتى الآن عن اغتنام الفرصة، وبدلاً من أن تحاول منع العدوان على أوكرانيا، أباحت لبوتين الغزو، وكان أقصى مطالبها منه تأجيل الهجوم إلى ما بعد أولمبياد بكين. وظلت الصين حتى لحظة الغزو ببغاءَ يردد أكاذيب روسيا بوصف الحرب لها بأنها ليست إلا وهماً نسجه خيال الغرب المهووس. واتهم الصينيون الولايات المتحدة عشية الغزو بأنها هي مَن "تزيد حدة التوترات، وتنشر الذعر، وتتعمد تضخيم احتمالات وقوع الحرب".
وخرج المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ليشدد على أن "الجانب الروسي قال مرات عديدة إنه لا ينوي شنَّ حرب" على أوكرانيا.
وحين شنَّت روسيا غزوها بعد ساعات قليلة، تنحَّت الصين جانباً ولم تفعل شيئاً، واكتفت بتكرار الشعارات عن عدم التدخل لئلا تتفاقم الحرب، واتهام الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين بأنهم الملومون، فهم من دفعوا بوتين إلى ارتكاب ما فعله، وأخذ المسؤولون الصينيون يتحدثون عن "المخاوف الأمنية المشروعة لروسيا" و"التعقيدات التاريخية" للوضع بين روسيا وأوكرانيا.
وهدمت جسور الثقة مع أوروبا
وصمَ هذا الخطاب الصينَ، لا سيما في أوروبا، بوصمةِ الشريك الذي له نصيب من وزر القتل الجماعي الذي ترتكبه روسيا في أوكرانيا. ولم يكن امتناع بكين عن التصويت بإدانة روسيا في مجلس الأمن هو ما أفزع الأوروبيين، بل اللغة الخشنة التي استخدمها الدبلوماسيون الصينيون في الدفاع عن روسيا هي التي صعَقت الأوروبيين، فإذا كانت ما تصفه بكين بـ"مخاوف روسيا المشروعة" كافية لدفع الصين إلى التغاضي عن غزو دولةٍ لجارتها، التي كانت تربطها بها علاقات ودية حتى وقوع الهجوم، فمن ذا الذي يمكنه الوثوق بصداقة الصين بعد ذلك؟
كلما استمر هجوم بوتين على أوكرانيا ازدادت صورة الصين سوءاً في أوروبا والولايات المتحدة. وصحيحٌ أن صورتها كانت بالفعل في تدهورٍ قبل وقوع الغزو، وأن التوترات كانت في احتدام، إلا أن أزمة أوكرانيا كانت تبصرةً ليس لها نظير بعيوب الصين، لا سيما للأوروبيين، حسب التقرير.
ويدل على ذلك ما قالته صحيفة Die Zeit الألمانية البارزة، من أن "صمت الصين على الفظائع الروسية يفضح أموراً كثيرة"، وما تقوله الصين وتفعله بشأن أوكرانيا من الآن فصاعداً سيمتد تأثيره إلى العلاقات الصينية مع أوروبا ومع الدول الأخرى طوال العقد القادم على الأقل، إن لم يكن زمناً أطول من ذلك.
الصين تراهن على أن تؤدي الحرب لازدياد اعتماد موسكو عليها
هل من سبيل إلى أن تسحب الصين دعمها عن بوتين، أو على الأقل أن تسهم في مفاوضات حقيقية بين نظامه والأوكرانيين، بدايةً من الاعتراف بحق أوكرانيا في تقرير مصيرها؟ يبدو هذا مطلباً بعيداً في الوقت الحالي، فقد استدعى بوتين والزعيم الصيني، شي جين بينغ، في بيانهما المشترك قبل بدء الحرب مباشرة، ما وصفاه بـ"أهمية المساعي التي يبذلها الجانب الروسي لإقامة نظامٍ عادل متعدد الأقطاب في العلاقات الدولية".
وهناك احتمال ضعيف بأن يُحجِم الرئيس الصيني عن دعمه إذا دمَّر الروس مزيداً من المدن أو استخدموا أسلحة دمار شامل.
الأصل في تغاضي الصين عن حرب بوتين على أوكرانيا هو مصلحتها بطبيعة الحال، فهي تساند بوتين في انتهاكه أغلب مبادئ العلاقات الدولية، التي يقول الصينيون إنهم مؤمنون بها، طامعةً في أن يؤدي ذلك إلى زيادة اعتماد روسيا على الصين واحتياجها إليها زمناً طويلاً.
وقد يبدو في الظاهر أن معاناة بوتين العسكرية في أوكرانيا تصب في مصالح الصين على المدى الطويل، فهي ستجعل روسيا دائمة الاعتماد على الصين، ويشتد ذلك الاعتماد مع استمرار العقوبات الغربية.
هكذا يمكن أن تصل تداعيات أزمة أوكرانيا إلى حدود الصين
مع ذلك، فإن الصين عليها أن تحذر مما تتمنى، لأن دعمها لروسيا قد لا يكون مضمون النجاح كما يفترض شي، والراجح ألا يكون كذلك على المدى الطويل، لأن بوتين إذا نجح في إخضاع أوكرانيا فقد لا تتوقف مطامعه عند هذا الحد.
وإذا فشل، فإن التوتر والاضطرابات ستكون السمة الغالبة على الحدود الجنوبية لروسيا سنواتٍ آتية. وفي كلتا الحالتين ستكون روسيا قوة هوجاء، وليست شريكاً موثوقاً به لبكين، وصحيح أن روسيا لن تجد ملجأ آخر سوى الصين، إلا أن تبعية هذا النظام الضعيف، المتورط في خلافات دائمة مع جيرانه، قد لا تكون نافعة للصين كما يبدو، حتى وإن وقعت بكين في غواية ثروات روسيا من الطاقة والمعادن.
سبق أن انقلب تحالف موسكو وبكين إلى عداء مرير
يجدر بالصين وروسيا، وبالغرب أيضاً، أن يأخذوا العِبر من آخر مرة حاولت فيها بكين وموسكو التحالف في مواجهة الولايات المتحدة.
كان ذلك في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حينما اجتمع الزعيم الصيني ماو والسوفييتي ستالين على الأيديولوجية الشيوعية، والضرورات الأمنية. وكانت الصين هي أضعف الشريكين في ذلك الوقت، كما هو حال روسيا الآن، وما لبث أن أدَّى هذا التفاوت في القوة بين الشريكين إلى تصدع العلاقات بينهما.
لم يعد الانقسام الأيديولوجي سبباً محتملاً لتفكُّك التحالف الصيني الروسي اليوم، على غرار ما حدث في حقبة ما بعد ستالين، إلا أن ذلك لا يعني نقصاً في أسباب الصراع بينهما، بل هي كثيرة، وبعضها يتشابه تشابهاً ملحوظاً مع الأسباب ذاتها التي كانت حاضرة في أواخر الخمسينيات، حسب المجلة الأمريكية.
وأمريكا وأوروبا أهم للصين من روسيا
الواقع أن علاقة الصين بالولايات المتحدة وأوروبا ستكون دائماً أشد أهمية لها من علاقاتها بروسيا. ولن يلبث الروس أن يشتبهوا في أن شريكتهم تتفاوض مع واشنطن أو بروكسل أو برلين من وراء ظهورهم، وستنال منهم الربية ويشتد استياؤهم عندما لا يحسب الصينيون حساباً لمصالح روسيا على الوجه الذي تريده موسكو.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الصين تحظى بمكانة راسخة في الاقتصاد العالمي، أما روسيا فلا. وتحوز الصين قدرة كبيرة على الإقراض، إلا أنها لن تُقبل بالضرورة على إقراض الاقتصاد الروسي إذا اشتد به التدهور، وحتى إن رُفعت العقوبات. علاوة على ذلك، فإن اختلاف الآراء بين البلدين حيال كثير من القضايا العالمية يخلق أسباباً وافرة للنزاع والحدة بينهما.
ومما يزيد الأمور تعقيداً بين البلدين العلاقات مع القوى الدولية الأخرى، وقد سبق أن وقع مثيل ذلك في خمسينيات القرن الماضي أيضاً، فالهند الآن صديقة لروسيا، لكنها في الوقت نفسه خصم ومنافس لدود للصين. ومن أشد ما عابه الصينيون على السوفييت في خمسينيات القرن الماضي تقارب موسكو المستمر مع الهند، حتى بعد النزاعات الحدودية الأولى بين الهند والصين في عام 1962. ولا يقتصر الأمر حالياً على الهند، فدولٌ أخرى مثل فيتنام ومنغوليا وآسيا الوسطى معرضة للوقوع تحت ضغوط متزايدة من الصين، ومن المتوقع أن تتطلع هذه الدول إلى روسيا لدعمها.
الروس قد يخيب أملهم إذا لم يتلقوا الدعم من الصين
وآخر الأسباب البارزة لتصدع التحالف بين موسكو وبكين هو نتيجة الحرب في أوكرانيا نفسها، إذ كما عوَّل الصينيون على السوفييت لدعمهم في الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، سيعوِّل زعماء روسيا اليوم على الصينيين لدعمهم في أوكرانيا، خاصة إذا استفحل سوء الأمور على الجيش الروسي. وإذا خسرت روسيا الحرب أو أُجبرت على العودة إلى ما كانت عليه الأحوال قبل الحرب، فإن سخطها سيشتد على شريكها الصيني الذي لم يدعمها عسكرياً بما يكفي للانتصار في الحرب.
ربما تكون العبرة الكبرى من التحالف الصيني الروسي الأخير في خمسينيات القرن الماضي: أن رسوخ العلاقة بين البلدين يعتمد اعتماداً كبيراً على ما يجري في البلدين نفسيهما، وعلى مسار العلاقة بينهما، أكثر من اعتمادها على شيء قد تفعله الولايات المتحدة أو تقوله. ومن ثم، فإن أحكَم تدبير قد تلجأ إليه الولايات المتحدة هو المراقبة والانتظار، وترقُّب انتهاز التصدعات الطارئة على التحالف بمجرد ظهورها. ويتضمن ذلك استمرار الغرب في فرض العقوبات على روسيا، ومواصلة التنافس مع الصين مع عرض ترتيبات منطقية عليها من أجل التفاوض معها، خاصة من الناحية الاقتصادية.
الخلاصة أن روسيا والصين ليستا شريكين قامت الشراكة بينهما بحكم الطبيعة، بل بحكم ضرورةٍ يرونها في هذا التحالف. وقد يزعم مثقفو السياسة الخارجية لبوتين اليوم أن روسيا عازمة على شراكة استراتيجية مع الصين اليوم وفي المستقبل، لكن أي أحد تحدث إليهم يستطيع أن يستشف مخاوفهم العديدة من هذا الخيار، فالتحالف الروسي مع الصين قائم بسبب الحاجة إلى نكاية الغرب، وليس لأي تآلف طبيعي بين القوتين.
هناك اختلافات كبيرة بين نظامَي البلدين
على النقيض من ذلك، يطرح بعض الخبراء رأياً مخالفاً لمن يقول بضعف التحالف بين روسيا والصين، ويرون أن هذا التحالف يرتكز على تآلف طويل المدى بين القوتين أكثر مما يبدو في الظاهر. ويذهب خبراء إلى أن الحرب الحالية في أوكرانيا إنما هي أول طلقة في حربٍ باردة جديدة، وأنها وضعت كتلتي القوى العظمى في مواجهة بعضهما بعضاً. وكما كان الحال في الحرب الباردة فالكتلتان تفصل بينهما انقسامات أيديولوجية، واختلافات في النظم الاقتصادية. ومن ثم فإن المعركة الجديدة لهذه الحرب الباردة هي معركة بين الديمقراطية والاستبداد، وبين اقتصاد يوجهه السوق واقتصاد تتحكم فيه الدولة ويتمركز حولها.
إلا أن واقع الأمر أن النظام السياسي للصين اليوم يختلف بشدة عن النظام الروسي، واقتصاد الصين يتباين عن اقتصاد روسيا. فالصين دولة شيوعية يحكمها حزبٌ يزعم أنه قائم على نظام الجدارة وبالنيابة عن الشعب، أما روسيا فهي دولة ديكتاتورية يحكمها تحالف من نخب فاسدة متداخلة بالسلطة السياسية بقناعٍ ديمقراطي.
وإذا كان كلا الاقتصادين، الروسي والصيني، يخضعان لسيطرة الحكومة، فإن هذا لا يوجب تماثُلهما، بل إن الحرب الباردة أظهرت أن الاقتصادات الموجَّهة من الدولة عادة ما تكون أشد تنازعاً مع بعضها من الاقتصادات الرأسمالية القائمة على مصالح السوق. كما أن الطابع السياسي غالباً ما يكسو كل شيء في الاقتصادات التي تسيطر عليها الحكومة، ومن ثم تكون العلاقات أقرب إلى التأزم دوماً، وفي الحالة الروسية الصينية فإن الاختلافات الثقافية العميقة حاضرة أيضاً.
تقول المجلة الأمريكية في ختام تقريرها "إن مناشدة النوازع الأخلاقية لدى الصين لن تجدي نفعاً، وحتى الإحراج الدولي الكبير الذي يطارد الصين، مع استمرار مآسي الحرب الأوكرانية، لن ينال من دعم الصين لروسيا".
وتضيف قائلة "الحل الذي يراه خبراء كثيرون هو تكثيف الضغط على روسيا، وتحذير الصين من أن ارتباطها الوثيق بالرئيس الروسي وأفعاله يُضعف العلاقات الصينية الأمريكية والعلاقات الصينية الأوروبية".
وقد لا يكفي هذا لإنقاذ أوكرانيا من استمرار الدمار الواقع بها، إلا أنه أجدر بأن يُبعد احتمالات الحرب بين القوى العظمى، وإقناع بعض صانعي السياسة الصينيين باختلاف المصالح بينهم وبين بوتين، على خلاف ما يظن كلا الطرفين الآن.