واحدة من أكبر المشكلات التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية في محاولتها الحالية لحصار روسيا، هي ميل حلفاء أمريكا بالشرق الأوسط لموسكو في هذه الأزمة، حتى ولو بشكل غير فج.
ودفع هذا الوضع وزيرَ الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، للقيام بجولة ضرورية إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأسبوع الماضي.
وبعد اجتماع عقده بلينكن في وارسو مع نظيره الأوكراني، توجَّه فوراً في رحلة قطع خلالها أكثر من 3219 كيلومتراً إلى الجنوب، للاجتماع بشركاء مهمين سيكون لبلدانهم دور في رسم ملامح الصراع ومآلاته. كانت أولى رحلاته إلى إسرائيل، وشبّك فيها الأيادي مع وزير خارجية إسرائيل والمغرب ومصر والبحرين والإمارات في صحراء النقب، ثم انتقل بلينكن إلى الرباط، وبعدها إلى قصر محمد بن زايد، الحاكم الفعلي للإمارات.
جاءت جولة بلينكن في الشرق الأوسط دليلاً على تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا في سياسات المنطقة، ومع ذلك فإن حلفاء أمريكا بالشرق الأوسط، على النقيض من حلفائها في أوروبا وآسيا، كانوا قد جنحوا إلى موقف محايد من الحرب، إن لم يكن منحازاً بشكل غير فج لموسكو، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
مظاهر ميل حلفاء أمريكا بالشرق الأوسط لروسيا
فلم ينضم أي من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى العقوبات المفروضة على روسيا. وأغضبت الإمارات، العضو غير الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الدبلوماسيين الغربيين، في فبراير/شباط، عندما امتنعت عن التصويت بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. كما رفضت دول الخليج زيادة إمداداتها من النفط للمساعدة في الحدِّ من الارتفاع الكبير في أسعار النفط.
جنوح دول الخليج إلى موقف محايد من الحرب يستند إلى أسباب وجيهة، تمنعها من الإقدام على شيء قد يُغضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن الموقف هذا ينطوي في الوقت نفسه على إرادة ضمنية منهم بإرسال رسالة معينة إلى الولايات المتحدة، مفادها أنها لم تعد شريكاً موثوقاً به. ولا شك في أن المراوحة بين الجانبين تزداد صعوبة على دول الخليج مع استمرار الحرب، ومعها تتزايد ضغوط الولايات المتحدة على شركائها للانحياز إلى جانبها، إلا أن كل ذلك قد لا يكون كافياً لصرف هذه الدول عن تمسكها بالحياد وعدم الانحياز إلى أي من الطرفين.
انقسم الشرق الأوسط، مثل كثير من مناطق العالم الأخرى، خلال الحرب الباردة، بين دول منحازة إلى الولايات المتحدة، وأخرى انحازت إلى الاتحاد السوفييتي. وكانت معظم ممالك الخليج مناصرة لأمريكا، في حين تحالفت جمهوريات عديدة في المنطقة مع السوفييت، ثم تحولت الولايات المتحدة إلى القوة الرئيسية في المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتعهدت بحماية دول الخليج من أي اعتداء عليها، ومنحت إسرائيل الدعم الدبلوماسي والأسلحة المتطورة.
يشعرون بالغضب من ضعف موقفها من الحوثيين وإيران
لكل طرف الآن في التحالف الأمريكي الخليجي الإسرائيلي سببٌ يدعوه لمعاتبة الطرف الآخر. وإذا كانت الولايات المتحدة ناقمة على شركائها تقاعسهم عن الوقوف إلى جانبها في وجه الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن شركاءها ينقمون عليها مظالم يرونها أشد وطأة وأطول عهداً؛ بدأت مع سخط إسرائيل ودول الخليج على اتفاق باراك أوباما النووي مع إيران، وتحسين العلاقات معها.
ثم استبشارهم بانتخاب دونالد ترامب، قبل أن يتبيَّن أنه أيضاً شريك غير جدير بالثقة به، فحين قصف الحوثيون بصواريخ وطائرات مسيَّرة إيرانية منشأتين نفطيتين عملاقتين بالسعودية في عام 2019، لم تُحرك أمريكا ساكناً.
ولم تتحسن الأمور في عهد جو بايدن، الذي يرفض حتى التحدث إلى محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي. كما أن حديث بايدن عن "تحول تركيز الولايات المتحدة إلى آسيا" أوقع بدول الشرق الأوسط الخوفَ من تركهم مضطرين إلى تدبير أمورهم بأنفسهم.
روسيا استغلت الفرصة
أفسح كل ذلك المجالَ لروسيا، لتستعيد مكانة لنفسها في المنطقة، وتجلَّى ذلك في سوريا، بما اضطلعت به قواتها الجوية من دور حاسم في إبقاء نظام بشار الأسد في سدة الحكم، وزاد على ذلك تقربها إلى الدول المتحالفة تقليدياً مع الغرب في المنطقة.
زار الملك سلمان موسكو زيارةً استمرت أربعة أيام في عام 2017، وكانت أول زيارة لملك سعودي إلى البلاد. وأبرمت مصر، ثالث أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية الأمريكية، صفقات طائرات وأنظمة دفاع جوي روسية. واستخدم بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، صداقته الوثيقة مع بوتين سبباً يدعو إلى التصويت له في حملات إعادة انتخابه الأخيرة قبل إزاحته من المنصب.
حتى إسرائيل تحتاجها في سوريا
لم تصبح روسيا شريكاً تجارياً أكبر لإسرائيل من الولايات المتحدة أو مورِّداً أبرز للأسلحة من المورد الأمريكي، إلا أنها تقدم أشياءَ لا تستطيع أمريكا تقديمها، فإسرائيل تشن غاراتها الجوية المتكررة في سوريا وتستهدف إيران ووكلاءها، بالتنسيق مع موسكو. ولذلك عندما سُئل المسؤولون الإسرائيليون عن موقفهم المتهاون من استنكار الغزو الروسي لأوكرانيا، ردُّوا بأن إغضاب بوتين قد يدفعه إلى إبعادهم عن سوريا، وتعزيز الدفاعات الجوية للأسد على سبيل المثال.
أما دول الخليج، فإن النفط عامل رئيسي في سياق الموقف من موسكو، فالسعودية وروسيا هما الفاعلان الرئيسيان في تحالف "أوبك بلس"، الذي يضم كبار منتجي النفط في العالم. وفي آخر مرة تنازعت فيها الرياض مع موسكو حول حصص إنتاج النفط في عام 2020، انهارت الأسعار، ومن ثم فالطرفان حريصان على عدم تكرار ذلك.
وإذا كان القادة الغربيون يرون في ارتفاع أسعار النفط بسبب الحرب أزمةً سياسية واقتصادية، فإن منتجي النفط في الشرق الأوسط يرونه مكاسب أتتهم من دون حسبان سابق، ومليارات من الأموال التي ستتدفق في خزائنهم.
الاستبداد يجمعهما
وعكس فترة الحرب الباردة حينما كانت دول الخليج من أكثر الدول توجساً من الاتحاد السوفييتي ذي النظام الاشتراكي المعادي للملكية والرأسمالية، فإن كثيراً من دول الخليج أصبح يجمعها مع روسيا تأييد الاستبداد، وتشابه في المواقف المتعلقة بالعداء للديمقراطية، خاصة في الشرق الأوسط.
الجديد أن العلاقات الروسية-السعودية أصبحت جيدة، ووصلت إلى التنسيق لضبط أسعار النفط، مثلما حدث في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عندما ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير إثر خروج العالم من ركود كورونا.
معادلة بن سلمان وبايدن وترامب.. التحالف مع الجمهوريين وليس أمريكا
وبات هناك شعور بأن العلاقة بين السعودية وأمريكا قد تغيرت في طبيعتها.
فهي لم تعد تحالفاً بين أمريكا والسعودية كدولتين، بقدر ما هي تحالف بين الرياض بقيادة الأمير محمد بن سلمان، والجمهوريين بقيادة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
مقابل عداء بين ولي العهد السعودي والديمقراطيين الذين أصبحوا مع تزايد قوة الجناح اليساري في أوساطهم أكثر صراحة في انتقاد السعودية دون مراعاة المصالح المشتركة بين البلدين كما كان يفعل حكام أمريكا عادة.
كما يبدو من أزمة ارتفاع الأسعار التي حدثت العام الماضي، والأزمة الحالية، أن السياسة السعودية لا تتحرك فقط من منطلق مصالح المملكة، بل تدفعها روح انتقامية من الديمقراطيين وبايدن، ومحاولة لتقوية موقف منافسيهم الجمهوريين، وهو ما يتأكد من سخرية الجمهوريين من بايدن في تعليقهم على التقارير بشأن رفض الأمير محمد إجراء اتصال معه.
بالإضافة إلى ذلك، قد تجني بعض دول الخليج مكاسب أخرى من الحرب، فقد عقدت دبي، على سبيل المثال، عزمَها على أن تصبح مقصداً للأثرياء الروس الفارين من بلدهم المعزول اقتصادياً، وأخذ المصرفيون ووكلاء العقارات بالفعل في التواصل مع العملاء المحتملين.
هل يعني ذلك أنهم سيستبدلون أمريكا بروسيا؟
مع ذلك، فإن الدول العربية، وإن اشتد سخطها على الولايات المتحدة، فإنها تدرك أن روسيا ليست بديلاً كفؤاً لها، فالجيش الأمريكي تنتشر قواته بعشرات الآلاف من الجنود في الشرق الأوسط، وقواته البحرية تطوف دورياتها لتأمين الممرات المائية في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن روسيا لم تطمع قط في هذا الدور، فضلاً عن أن سوء أداء قواتها في أوكرانيا يشي بأنها ليست أهلاً لدور الحماية هذا على أي حال.
أمَّا تودُّد دول الخليج إلى موسكو فهدفه استجلاب بعض التنازلات من واشنطن، وأبرزها المساعدة الأمريكية في مواجهة مخاطر الصواريخ والطائرات المسيَّرة من الجماعات المدعومة من إيران، وخاصة الحوثيين في اليمن.
تستند الولايات المتحدة إلى أسباب منطقية في إعراضها عن الانجرار إلى حرب اليمن الكارثية، إلا أن دول الخليج تقول إن هذا الموقف الأمريكي ينزع عنها الحافز إلى الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة في وجه روسيا. ويقول مسؤول في السياسة الخارجية الخليجية: "لقد سئمنا كون أمريكا لا تتصل بنا إلا عندما تريد شيئاً ما".
إذا لم تستطع أمريكا ولا روسيا مساعدةَ دول المنطقة في حل أزمتها مع إيران، فقد تسعى تلك الدول إلى حل الأزمة بنفسها. ويدل على ذلك ما ورد من أن قمة النقب التي عُقدت الأسبوع الماضي ناقشت توثيق التعاون بين إسرائيل والدول العربية، والتعاون في سبيل تعزيز الدفاعات الصاروخية والتشارك في تدريبات عسكرية. كما أن الإمارات تظن في نفسها القدرة على إبعاد بشار الأسد عن إيران، فقررت استضافته الشهر الماضي في أول زيارة له إلى دولة عربية منذ عقد. وتعمل مصر وإسرائيل ودول الخليج على استعادة بعض الوصال في علاقاتها الفاترة مع تركيا.
لقد أمضى بوتين سنوات يحاول فيها اختراق الهيمنة الأمريكية أحادية القطب في الشرق الأوسط، وقد يؤدي غزوه أوكرانيا إلى تسريع الأمر، إلا أن ذلك لم يؤدِ بالضرورة لتقارب الدول العربية مع موسكو كبديل عن الولايات المتحدة، وإنما قد يدفعها إلى السير في طريق جديد خاص بها.