يبدو أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يقترب من مرحلته الأخيرة، فالمفاوضات تقترب من التوصل لاتفاق وتقارير أمريكية تحدد موعداً لإعلان النصر من جانب فلاديمير بوتين، فماذا يحدث على الأرض فعلاً؟
كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة هدفها منع عسكرة كييف، بينما يصفه الغرب بأنه غزو غير مبرر، قد بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي مثيراً عاصفة من العقوبات الغربية غير المسبوقة الهادفة إلى عزل روسيا.
وفي ظل حرب المعلومات المشتعلة بين الجانبين، من الصعب الوقوف على حقيقة ما يحدث بالفعل على الأرض، فالتقارير الغربية تحتفي بالمقاومة الأوكرانية تكتيكاتها الأقرب لحرب العصابات، بينما يقول الروس إن خططهم العسكرية تحقق أهدافها المرسومة لها منذ البداية.
حرب العصابات الأوكرانية
قالت أوكرانيا، السبت 2 أبريل/نيسان، إنها استعادت السيطرة على جميع المناطق المحيطة بمدينة كييف، وأعلنت السيطرة الكاملة على منطقة العاصمة للمرة الأولى منذ أن بدأ الهجوم الروسي. وقال أوليكسي أريستوفيتش، مستشار الرئيس الأوكراني، إن القوات الأوكرانية استعادت السيطرة على أكثر من 30 بلدة وقرية في المنطقة منذ أن أعلنت روسيا الأسبوع الماضي الانسحاب من المنطقة، بحسب رويترز.
ونشرت صحيفة Financial Times البريطانية تقريراً رصد كيف تستخدم أوكرانيا هجمات مضادة بأسلوب حرب العصابات وتبادر بالهجوم على روسيا، فإربين، على سبيل المثال، كان يفترض أن تكون جسراً سهلاً للروس يدخلون منه إلى كييف. لكن قرار أوكرانيا بتفجير الجسور في العاصمة عطّل تقدم الجنود الروس، مجبراً إياهم على اللجوء إلى الالتفاف وعرّضهم للقصف والأسلحة الغربية المضادة للدبابات.
ونجحت وحدات أوكرانية صغيرة مرتفعة الروح المعنوية في صد القوات الروسية والمدرعات، حيث استغلت تفوقها في جمع المعلومات الاستخبارية لتحديد مواقع تمركز جنود العدو.
وقال قائد عسكري أوكراني بارز، الخميس 31 مارس/آذار، للصحيفة البريطانية إن القوات الروسية سحبت قرابة 700 عربة عسكرية من مواقعها شمال كييف، بعد فشلها في اختراق العاصمة.
وإلى الشمال الغربي من كييف، أعاد الأوكرانيون فرض سيطرتهم على إربين وقالوا يوم الجمعة الأول من أبريل/نيسان إنهم استعادوا ضاحية بوتشا. واندلع قتال عنيف أيضاً حول مطار هوستوميل الذي يحتدم عليه القتال منذ بدأ الهجوم في واحدة من أكثر المعارك رمزية في الحرب.
وفي الجنوب، وخاصة حول ميكولايف، أعاقت الهجمات المضادة الناجحة التقدم الروسي في مدينة أوديسا الساحلية الاستراتيجية. وتزعم أوكرانيا أيضاً أنها حققت مكاسب حول مدينة تشيرنيهيف الشمالية، على بعد 100 كيلومتر فقط من الحدود الروسية. وحتى السيطرة على خيرسون، المدينة الكبيرة الوحيدة التي احتلتها القوات الروسية حتى الآن، موضع خلاف، وفقاً لتقارير الاستخبارات الأمريكية.
وزادت الهجمات المضادة من عزيمة المقاتلين الأوكرانيين وخرقت الهجوم الروسي عن طريق استغلال نقاط ضعفه: طرق الإمدادات اللوجستية الطويلة، والإمدادات المحدودة، والجهل بالمناطق المحلية، وانخفاض الروح المعنوية. وهذا ينطبق أكثر من غيره على المجندين الروس، الذين أشارت تقارير إلى أن عديداً منهم لم يعرفوا أنهم نُقلوا إلى الحدود الأوكرانية لمهاجمة البلاد، بحسب "فايننشال تايمز".
لكن ماذا عن الرواية الروسية؟
لكن على الجانب الآخر، تصف موسكو مسار الحرب بطريقة مختلفة تمام، إذ قالت وزارة الدفاع هذا الأسبوع إن روسيا ستنتقل إلى "المرحلة النهائية" من العملية بعد "إنجاز جميع المهام الرئيسية" في شمال أوكرانيا. وأضافت أن القوات تنسحب من كييف لـ"تحرير" إقليم دونباس في الشرق.
فالعملية العسكرية الخاصة التي بدأها بوتين تهدف، بحسب وجهة النظر الروسية، إلى حماية الأقلية الروسية في شرق البلاد، والتي يوجد فيها منطقتا لوجانسك ودونيتسك الانفصاليتان ضمن إقليم دونباس واعترف بوتين باستقلالهما يوم 21 فبراير/شباط الماضي.
وشدد مسؤولون ومحللون عسكريون غربيون على أن الهجمات الأوكرانية المضادة والتحول في التركيز العسكري الروسي لا يعني أن أوكرانيا على حافة النصر. وقال أحدهم: "لم يحدث تحول تام على الأرض. فلا نشهد تحولاً في المسار، وإن حققت القوات الأوكرانية نجاحاً في بعض المناطق".
ويتمثل أحد التحديات التي يواجهها الأوكرانيون في أن تركيز روسيا لجهودها على دونباس يجعلها أقدر على علاج مشكلات الخدمات اللوجستية والإمدادات التي أعاقت الهجوم الأول.
وقال المسؤول: "انسحابهم إلى مواقع دفاعية أكثر في الشمال سيقصّر خطوط الإمداد، وهذا سيساعدهم، وانسحاب القوات الروسية لا يعني بالضرورة تراجع التهديدات".
ويرى محللون أن مبدأ العقيدة العسكرية الروسية يؤكد أيضاً على فكرة "الدفاع الهجومي"، المبنيّ على هزيمة الخصم عن طريق كسب الوقت والحفاظ على القوات واستخدام القصف المدفعي والصاروخي لإضعاف العدو. ولفتوا إلى استمرار القصف في ضواحي كييف وأماكن أخرى في الأيام الأخيرة.
وتعمل روسيا على تشكيل ما لا يقل عن 10 كتائب تكتيكية جديدة، تضم عادة حوالي 700 جندي، ومدرعات ومدفعية، لإرسالها إلى دونباس، وفقاً للاستخبارات الغربية. وستحتاج أوكرانيا أيضاً إلى استمرار تدفق الأسلحة إذا أرادت مواصلة هجماتها المضادة. وقد زودها الغرب بمجموعة من الأسلحة، وخصوصاً الصواريخ المضادة للدبابات المحمولة على الكتف، لكن زيلينسكي طالبهم غير مرة بإرسال دبابات وطائرات وأنظمة مدفعية.
وبإمكان أوكرانيا استغلال أفضليتها بشن "هجوم دبلوماسي مضاد" في محادثات السلام مع روسيا. وكانت كييف قالت الأسبوع الماضي، أثناء المحادثات الدائرة في تركيا، إن موسكو لا تزال مصرة على مكاسب غير مقبولة على الأرض في دونباس وشبه جزيرة القرم المحتلة.
وقد أعرب مسؤولون أمريكيون وأوروبيون عن شكوكهم في صدق روسيا والتزامها بالمحادثات، وقالوا إن وقف إطلاق النار الكامل وانسحاب القوات وإعادة الأراضي التي استولت عليها روسيا قد يُطلق مناقشات بخصوص رفع العقوبات عن الاقتصاد الروسي.
يقول سيرجيو خاراميو، المسؤول العسكري الكولومبي السابق الذي رتب عملية السلام في البلاد مع قوات المتمردين ويعمل الآن مستشاراً في المعهد الأوروبي للسلام في بروكسل: "هذا هو الوقت المناسب للأوكرانيين لتحديد المشكلات التي يرغبون في تحديدها في ظل وجود هذا الزخم والوحدة والدعم الأوروبيين". وقال: "من الأفضل دائماً التفاوض حين تكون في أقوى حالاتك، وهكذا قد يكون حال الأوكرانيين الآن".
هل تضع الحرب أوزارها في مايو فعلاً؟
شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "روسيا تغير خطتها لإعلان الانتصار في شرق أوكرانيا أوائل مايو"، نقلت فيه عن عدة مسؤولين أمريكيين وصفتهم بالمطلعين على أحدث التقييمات الاستخباراتية الأمريكية بشأن الحرب في أوكرانيا.
وبحسب تلك المصادر، قرر الرئيس فلاديمير بوتين تحويل التركيز في هجومه على أوكرانيا على الأقاليم الشرقية وأهمها دونباس؛ حتى يتمكن من الإعلان عن الانتصار ووقف الحرب بالتزامن مع احتفالات يوم النصر في روسيا، أي يوم 9 مايو/أيار بالتحديد.
ويعتبر 9 مايو/أيار واحداً من أهم العطلات القومية في روسيا، حيث يتم الاحتفال بالانتصار على النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وقال المسؤولون الأمريكيون لـ"سي إن إن" إنهم يتوقعون أن يستغل بوتين تلك المناسبة الهامة وما ترمز إليه كي ينهي "مغامرته في أوكرانيا" معلناً الانتصار.
ولا يمكن بطبيعة الحال التأكد من مدى دقة التقارير الاستخباراتية الأمريكية في هذا الشأن، خصوصاً أن استراتيجية بوتين العسكرية المعلنة لم تكن تشمل من الأساس احتلال أوكرانيا بالكامل، بل منع عسكرة البلاد والقضاء على "النازيين القوميين"، في إشارة إلى الحكومة الأوكرانية برئاسة فولوديمير زيلينسكي على ما يبدو. لكن في كل الأحوال، تتبع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أسلوباً غير معتاد من التسريب المستمر لما تصفها بأنها "نوايا بوتين العسكرية"، لإجهاضها كما تقول واشنطن أو لتوريط بوتين كما يقول منتقدو إدارة بايدن.
سحب روسيا قواتها تدريجياً من غرب أوكرانيا والتركيز على إحكام السيطرة على الأقاليم الشرقية، وخصوصاً إقليم دونباس والشريط البري الرابط بينه وبين شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو عام 2014، يتم تصويره الآن من جانب التسريبات الاستخباراتية الأمريكية على أنه هزيمة لبوتين أو على الأقل فشل لخطته الأصلية، على الرغم من أن ذلك يعتبر انتصاراً ضخماً للكرملين بالطبع.
ماذا عن مسار المفاوضات؟
الحقيقة هنا هي أن الحرب لن تضع أوزارها ما لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق سلام من خلال مسار المفاوضات التي تستضيفها تركيا حالياً، وهو المسار الذي يبدو قريباً من الوصول إلى محطته النهائية في أي وقت، بحسب ما تشير إليه التصريحات الخاصة باحتمال عقد قمة بين بوتين وزيلينسكي في إسطنبول بضيافة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
صحيح أن روسيا قالت، الأحد 3 أبريل/نيسان، إن محادثات السلام لم تحرز تقدماً كافياً لعقد اجتماع على مستوى القادة وإن موقف موسكو بشأن وضع القرم ودونباس لم يتغير، إلا أن المؤشرات تصب في اتجاه احتمال الإعلان عن حدوث انفراجة بالفعل والتوصل لاتفاق في أي وقت.
زيلينسكي كان قد قال إن القوات الروسية تسعى للسيطرة على شرق وجنوب البلاد، واشتكى من أن الدول الغربية لم تزود كييف بما يكفي من الأنظمة المضادة للصواريخ. ووصف الجانبان المحادثات التي جرت الأسبوع الماضي في إسطنبول، وعبر رابط فيديو، بأنها "صعبة". لكن مفاوضاً أوكرانياً قال إن روسيا أشارت إلى إحراز تقدم في مسودات معاهدة السلام بما يكفي للسماح بإجراء محادثات مباشرة بين بوتين وزيلينسكي.
وقال المفاوض ديفيد أراكاميا للتلفزيون الأوكراني: "إنهم (الروس) أكدوا وجهة نظرنا بأن مسوّدات الوثائق تم العمل عليها بما يكفي للسماح بإجراء مشاورات مباشرة بين قادة البلدين".
ورد كبير المفاوضين الروس فلاديمير ميدينسكي عبر تطبيق تليجرام: "مسودة الاتفاق ليست جاهزة لتُقدم إلى اجتماع على المستويات العليا. أكرر مراراً وتكراراً.. موقف روسيا بشأن القرم ودونباس لم يتغير". لكنه أضاف أن أوكرانيا بدأت في إظهار نهج أكثر واقعية في محادثات السلام، حيث وافقت على أن تكون محايدة ولا تمتلك أسلحة نووية وألا تنضم إلى تكتل عسكري وأن ترفض استضافة قواعد عسكرية.
لكن تظل نقطة الخلاف الرئيسية بين ما يقوله ميدينسكي وما أعلنه أراكيما هي وضع شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، فالروس يريدون إغلاق ملف القرم رسميا، أي الاعتراف بأنها أصبحت جزءاً من الاتحاد الروسي منذ 2014، والأمر نفسه بالنسبة لإقليم دونباس الآن.
وبالتالي فإنه ربما يكون من المبكر الحديث عن أن روسيا قد قررت تركيز عملياتها العسكرية في الأقاليم الشرقية فقط من أوكرانيا، إذ أفاد مسؤولون أوكرانيون بوقوع ضربات صاروخية على أهداف في مختلف أنحاء البلاد.