رغم استمرار الحرب تتقدم المفاوضات الأوكرانية ببطء في تركيا، وسط مؤشرات على التوافق على مسألة حياد أوكرانيا، وخلاف على طلب موسكو اعتراف كييف بضمها لشبه جزيرة القرم، وانفصال إقليم دونباس، فيما أفادت تقارير بطرح اقتراحات غير عادية لمعالجة معضلة القرم بما فيها نموذج هونغ كونغ.
مع إحراز المبعوثين تقدماً في محادثات السلام يوم الثلاثاء، قدمت روسيا تنازلات تشير إلى مسار أكثر واقعية للحرب في أوكرانيا، ولكنها أشارت في الوقت ذاته إلى أنها ليست في عجلة من أمرها لإنهاء الصراع، وفقاً لما نقلته صحيفة The New York Times الأمريكية عن دبلوماسيين ومحللين.
زيلينسكي وتركيا يتحدثان عن تطورات غير مسبوقة
قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في وقت متأخر أمس الثلاثاء، إن الأخبار من المفاوضات كانت "إيجابية"، لكن كييف "ليس لديها سبب للثقة" بادعاء موسكو أنها ستحد من هجماتها. قال في خطابه الليلي بالفيديو: "هذه الإشارات لا تسكت انفجار القذائف الروسية".
وقال مولود تشاووش أوغلو، وزير الخارجية التركي، إن المناقشات ترقى إلى "التقدم الأكثر أهمية منذ بدء المفاوضات"، فيما وصف فلاديمير ميدينسك، كبير المفاوضين الروس، المحادثات بأنها "جوهرية"، مع ذلك ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال وقوع هجمات إضافية في شمالي البلاد.
ونقلت وكالة تاس الروسية للأنباء عن ميدينسكي قوله: "وقف التصعيد في اتجاهي كييف وتشرنيهيف لا يعني وقف إطلاق النار"، "لا يزال هناك طريق طويل لنقطعه لإعداد اتفاق بين روسيا وأوكرانيا بشروط مقبولة للطرفين، وسيطرح الاتحاد الروسي مبادرات مضادة بعد دراسة مقترحات أوكرانيا".
وقدم نائب وزير الدفاع الروسي، ألكسندر فومين، قرار "التقليص الحاد" للنشاط العسكري حول العاصمة الأوكرانية كييف، ومدينة تشيرنيهيف الشمالية، كبادرة "لزيادة الثقة المتبادلة من أجل المفاوضات المستقبلية".
وبالفعل توقف التقدم الروسي في شمال أوكرانيا، حيث اتخذت القوات حول كييف مواقع دفاعية في مواجهة الهجمات المضادة الأوكرانية، هناك وبالقرب من سومي، بعد أن واجهت روسيا مشكلة في تطويق الجيش الأوكراني الرئيسي شرق نهر دنيبر.
روسيا تهدّئ القتال لإنجاح التفاوض أم تعيد تموضع قواتها
لكن حذر آخرون من أن التقدم الذي تم إحرازه يوم الثلاثاء في المفاوضات الأوكرانية لا يعني أن روسيا مستعدة لإجراء مناقشات جادة بشأن إنهاء الحرب، إذ يرون أن وقف الحرب سيتطلب نتيجة أفضل في ساحات المعارك للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليبيعها في الداخل على أنها نصر.
قال لورانس فريدمان، الأستاذ الفخري لدراسات الحرب في كينجز كوليدج بلندن: "روسيا تعدل أهدافها مع الواقع، إنهم يركزون على دونباس، لأنه في الواقع هذا كل ما يمكنهم فعله في ظل الصعوبات التي يواجهونها في باقي المناطق"، حسبما نقل عنه تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وافق بعض كبار المسؤولين الغربيين على ذلك الرأي، قائلين إن الروس يعانون من نقص شديد في قذائف المدفعية والذخيرة الأخرى، ويحتاجون إلى إعادة الإمداد.
وقال المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، إن تحرك القوات الروسية بعيداً عن كييف يبدو ضئيلاً، وسمع دوي انفجارات عديدة في المدينة، ليلة الثلاثاء، لسنا مقتنعين بأن التهديد للعاصمة قد تضاءل بشكل جذري، معتبراً أن روسيا تقوم بإعادة تموضع وليس "انسحاباً حقيقياً".
وقال فرانسوا هايسبورغ، محلل الدفاع الفرنسي في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية: "الروس لا يتفاوضون بجدية، بل يحاولون إيجاد فرصة لتوحيد صفوفهم وإعادة تجميعها، وإخراج أنفسهم من أماكن بعيدة عن متناولهم لوجستياً، حيث نفد بالفعل الطعام والذخيرة".
وقال روبن نيبليت، مدير مؤسسة تشاتام هاوس البحثية بلندن، "بوتين لم ينس كييف، ولكن روسيا يمكن أن تركز على الشرق، وستجد أوكرانيا صعوبة في الانتقال من دفاعها السريع الحالي إلى الهجمات المضادة الروسية الخطيرة".
ماذا يدور في المفاوضات الأوكرانية؟
أوكرانيا تقدم مقترحاً للحياد مع اشتراطها ضمانات أمنية
محور اقتراح كييف في المفاوضات هو التعهد بأن تتخلى البلاد عن محاولتها للانضمام إلى الناتو، مقابل نظام أمني يضمنه الشركاء الدوليون، بما في ذلك الولايات المتحدة وتركيا وغيرهما.
وقال المفاوضون الأوكرانيون في تركيا، أمس الثلاثاء، إنهم عرضوا اقتراح سلام مفصلاً لنظرائهم الروس، مبادلين إعلان التزامهم بالحياد العسكري مقابل ضمانات أمنية من قبل دول خارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وتركيا، والصين، وبولندا، حسبما ورد في تقرير نشر بصحيفة The Guardian البريطانية.
شبّه المفاوضون الأوكرانيون العرض بالمادة 5 من ميثاق الناتو، التي تضمن الدفاع الجماعي للحلف.
وقال المفاوضون إن الأطراف الضامنة -بما في ذلك الدول الأوروبية وكندا وإسرائيل- ستقدم لأوكرانيا المساعدة العسكرية والأسلحة إذا تعرضت للهجوم، بدورها ستتعهد كييف ببقائها "غير منحازة وغير نووية"، على الرغم من أنها ستحتفظ بالحق في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وتريد في المقابل قبولاً روسياً بانضمامها للاتحاد الأوروبي
ودعت كييف موسكو إلى إسقاط اعتراضها على عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي.
وكانت روسيا قد لمّحت إلى احتمال قبولها لانضمام كييف بالفعل للمجلس الأوروبي، والاتحاد الأوروبي.
وصف كبير مستشاري الرئاسة الأوكرانية ميخايلو بودولياك اقتراح كييف بشأن الحياد المضمون بأنه "أداة فعالة لحماية أراضينا وسيادتنا"، على أن تصبح الجيوش الرائدة في العالم، حسب وصفه، ضامنة وتتحمل التزامات قانونية محددة" للتدخل في حالة حدوث عدوان.
ماذا عن القرم؟
لمّح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى صيغة ترفض بموجبها رسمياً كييف السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم من حيث المبدأ، لكنها تشير إلى القبول في الممارسة العملية.
وفي وقت لاحق قالت أوكرانيا إنها مستعدة للموافقة على فترة مشاورات ومفاوضات مدتها 15 عاماً حول وضع شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا في عام 2014، مع اتفاق كلا البلدين على عدم استخدام جيشهما لحل المشكلة في غضون ذلك.
قال بودولياك إن الاقتراح المتعلق بشبه جزيرة القرم كان أيضاً "ثورياً"، ليس فقط لأنه يعني "عودة موضوع القرم إلى جدول أعمال المفاوضات"، ولكن لأنه "سيسمح لنا بالحفاظ على التفسيرات القانونية الحالية لشبه جزيرة القرم، التي تؤكد أنها جزء من أوكرانيا".
اقتراح بتطبيق نموذج هونغ كونغ على القرم ودونباس
وذكرت صحيفة The Times البريطانية أن "أحد الخيارات التي هي قيد الدراسة هو الوصول إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف".
وأوضحت الصحيفة أنه بموجب هذه الصفقة تحتفظ أوكرانيا رسميّاً بالسيادة على أراضيها، بينما تتنازل عن بعض المناطق "تجاريّاً".
وأشارت إلى أن تركيا، وهي إحدى الدول التي تتوسط في محادثات السلام، قد اقترحت أن شبه جزيرة القرم ودونباس يمكن "تأجيرهما" إلى موسكو بالطريقة ذاتها، التي استأجرت بها بريطانيا جزءاً من هونغ كونغ من الصين لمدة قرن تقريباً بدءاً من عام 1898.
من جانبهم، قال الأوكرانيون إن السيطرة على منطقة دونباس يمكن مناقشتها في اجتماعات بين بوتين والرئيس الأوكراني. وقالت روسيا إنها لن تحدد لقاء بين الرئيسين إلا بعد أن تصبح مسودة اتفاق سلام جاهزة.
روسيا تريد السيطرة على بعض المدن الجنوبية
يقول بعض المحللين إن مثل هذا الاتفاق يجب، على الأقل، أن يمنح روسيا السيطرة على ماريوبول، المدينة الساحلية المحاصرة في أوكرانيا والتي لا تزال صامدة بطريقة ما، لإنشاء طريق بري آمن بين المنطقتين التي تحتلهما روسيا منذ عام 2014، وهي شبه جزيرة القرم إلى الجنوب، ودونباس إلى الشرق.
وأشار الكرملين إلى أنه سيواصل القتال من أجل ماريوبول، قائلاً إنه ما لم يتوقف "المسلحون القوميون الأوكرانيون" عن المقاومة وألقوا أسلحتهم، فسيكون من الصعب "حل الوضع الإنساني الحاد" هناك.
كما تمثل مدينة ميكولايف الجنوبية محوراً للخطط الروسية على ما يبدو، ولقد تعرضت لهجوم صاروخي في أكبر هجوم روسي على وسط المدينة منذ بداية الحرب، وقد أخّر صمود الجيش الأوكراني هناك أي خطط لميناء أوديسا الاستراتيجي.
هل يمكن تنظيم استفتاء نزيه في القرم لإعطاء شعبها حق تقرير المصير؟
يرى محللون أن ترك قضية شبه جزيرة القرم دون حل سياسي سيساعد أوكرانيا على حفظ ماء الوجه، لأنه لن يعني اعترافاً منها بضم روسيا للقرم، لكن هذا الوضع لن يفعل الكثير لمنع القضية أن تصبح سبباً محتملاً للحرب في المستقبل. فقد ترى روسيا أي إعادة تسليح أوكرانية على أنها استعداد لمحاولة استعادة شبه الجزيرة، ما يؤدي إلى ردود فعل يمكن أن تتحول إلى حرب أخرى.
كما أن أي صفقة تنطوي على الاعتراف بادعاء روسيا السيادة على الأراضي التي تم الاستيلاء عليها من خلال الحرب تبدو غير مقبولة بالنسبة للغرب وأوكرانيا، وذلك بسبب الالتزامات بالقانون الدولي والمخاوف من تشجيع المزيد من العدوان في أماكن أخرى. وفي الوقت نفسه، فإن فكرة "القرم ملكنا" عميقة في المجتمع الروسي، حتى إن أبرز معارضي بوتين الروس أليكسي نافالني الذي يقدم في الغرب على أنه بطل أشار إلى أنه سيعارض إعادة شبه الجزيرة إلى أوكرانيا.
وإضافة إلى نموذج التأجير كما حدث في هونغ كونغ، يقترح البعض إعطاء سكان القرم الحق في تقرير مصيرهم.
وسبق أجرت روسيا بالفعل استفتاء لسكان شبه جزيرة القرم بشأن وضعها القومي بعد فترة وجيزة من احتلالها للمنطقة في عام 2014، لتعزيز مطالبتها، لكن لم يتم الاعتراف بنتيجة الاستفتاء الذي ضمت موسكو القرم بموجبه دولياً. يرى البعض إمكانية إجراء استفتاء وانتخابات أخرى تصممها وتشرف عليها الأمم المتحدة مع الالتزام بالمعايير المعترف بها دولياً، مع تعهدات من أوكرانيا وروسيا والمجتمع الدولي باحترام النتيجة.
ومع ذلك، فإن الحكومات التي تواجه تهديدات انفصالية متعددة (كما يحدث مع أوكرانيا) كانت تاريخياً رافضة لفكرة حق تقرير المصير للأقاليم المضطربة، خوفاً من تشجيع الحركات الانفصالية الأخرى، خاصة أن هناك مؤشرات على أن نسبة كبيرة من سكان القرم، خاصة من الناطقين بالروسية، مؤيدون للانضمام بموسكو بالفعل.
الحل الأيرلندي قد يكون مناسباً للطرفين
ولذا قد يكون الخيار الثالث الواعد هو خطوة رمزية للإشارة إلى قبول ادعاءات متداخلة بشأن السيادة على القرم وإقليم دونباس، مستوحى من نموذج أيرلندا الشمالية.
فالوضع الإقليمي لأيرلندا الشمالية، الذي تشكل في عملية بدأت رسمياً في اتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998، هي صيغة "الموافقة على الاختلاف" والتي خلقت طريقة لتفسيرات مختلفة للصفقة من قبل لندن وجمهورية أيرلندا.
بالنسبة للموالين للندن في أيرلندا الشمالية والمواطنين في البر الرئيسي لبريطانيا، تم تفسير الصفقة عموماً على أنها ضمنت مكاناً لأيرلندا الشمالية داخل المملكة المتحدة مع إنهاء عنف الجيش الجمهوري الأيرلندي.
لكن بالنسبة للقوميين الأيرلنديين في أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، يمكن التركيز بشكل أكبر على جوانب الصفقة التي اقترحت شكلاً من أشكال السيادة المتداخلة بين أيرلندا والمملكة المتحدة على أيرلندا الشمالية، وشمل ذلك السماح لسكان أيرلندا الشمالية بالحرية الكاملة ليصبحوا مواطنين أيرلنديين إذا رغبوا في التصويت في الانتخابات الأيرلندية، مع استخدام حرية الحركة والتجارة والقواعد الجمركية للاتحاد الأوروبي، لإنشاء حدود مفتوحة بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية.
وتعهَّدت الاتفاقية أيضاً بإنهاء الحكم المباشر من لندن وإعادة إنشاء برلمان بلفاست، مع ترتيب لتقاسم السلطة بين الموالين البريطانيين والقوميين الأيرلنديين شرطاً لهذه الاستعادة.
قد يعني هذا الخيار قبول روسيا أن أوكرانيا لها الحق في إرسال وفد كمراقب دائم إلى عملية مفاوضات داخل القرم، بشأن نظام جديد للحكومة المحلية لشبه الجزيرة، وقد يكون الغرض من هذه العملية هو تأمين حقوق غير المتحدثين بالروسية، وتعزيز الحماية لتتار القرم.
يمكن أن تسمح مثل هذه الصيغ لكلا الجانبين بإعلان اعتراف أكبر بمطالبتهما بما كان موجوداً قبل الاتفاقية، مع ترك مبادئ ومطالبات الأطراف بالسيادة على الإقليم كما هي. قد يكون من الحكمة تحقيق بداية صغيرة كهذه، ولكن مع التركيز على تطلعات أكبر لاحقة.