"قرب نهاية الهيمنة الغربية" يبدو أن هذا واحد من أهم المؤشرات التي تكشفها مواقف العديد من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، تجاه أزمة أوكرانيا، فلقد رفضوا الانصياع للضغط الأمريكي بمقاطعة روسيا والانحياز لأوكرانيا.
في أواخر التسعينيات، في وقت كانت الهيمنة العالمية للولايات المتحدة لا تزال لا تقهر، أثار الدبلوماسي والأكاديمي السنغافوري كيشور محبوباني تساؤلات حول ما إذا كان صعود آسيا قد يحبط الهيمنة الأمريكية في المستقبل القريب.
وبعد بضعة عقود، كشفت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كيف كان محبوباني على حق. على الرغم من ضغوط السياسيين الأمريكيين للانحياز إلى جانب كييف في الصراع، اتبع عدد متزايد من البلدان الآسيوية والإفريقية ودول أمريكا اللاتينية مساراً محايداً، حسبما ورد في تقرير لموقع The Intercept الأمريكي.
دول مؤثرة فضلت الحياد في الأزمة وشركاتها لم تغادر موسكو
وظلت الصين، والهند، والبرازيل، وتركيا، وإندونيسيا، وجنوب إفريقيا، وحتى المكسيك بمعزل عن غيرها، وقاومت الدعوات لعزل روسيا دبلوماسياً أو الانضمام إلى حملة معاقبة اقتصادها.
إضافة إلى ذلك، بقيت الشركات الآسيوية في روسيا، حتى برغم مغادرة نظيراتها الغربية بأعداد كبيرة.
وفي غضون ذلك، امتنعت مجموعة من الدول الإفريقية، أبرزها جنوب إفريقيا، في الأمم المتحدة، عن قرارات تهدف إلى نبذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب العملية العسكرية.
إنه مؤشر على قرب نهاية الهيمنة الغربية التي استمرت لقرون
من الواضح أنَّ الموقف المحايد لهذه الدول كان بمثابة صدمة للعديد من النُّخب الغربية، التي اعتادت منذ فترة طويلة على توجيه الدول الأخرى بشأن المواقف الجيوسياسية التي يجب اتخاذها.
بعبارة أخرى، الطريقة التي يحشد بها الغرب الدعم لأوكرانيا باعتباره القوة العظمى الوحيدة أثناء وبعد الحرب الباردة، لم تعد فعالة، حسب تقرير موقع The Intercept.
وتقدم الهند أفضل مثال على مدى تأثير هذا الموقف من الحياد القائم على المصلحة الذاتية في إثارة النخب الأمريكية على حين غرة. فقد شجب ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وهو نموذج لمؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، الهند لموقفها الحيادي. وقال هاس، وهو غير واعٍ على ما يبدو بأنَّ لهجته متعالية، إنَّ رفض الهند الوقوف ضد روسيا أثبت أنَّ الدولة التي يبلغ تعداد سكانها 1.2 مليار نسمة "لا تزال غير مستعدة لتحمل مسؤوليات القوة الكبرى، أو أن تكون شريكاً يمكن الاعتماد عليه".
لطالما تطلع القادة الأمريكيون إلى أن تكون الهند على استعداد للعمل شريكة مع واشنطن لمساعدتها في احتواء الصين ودعم النظام الليبرالي المدعوم من الولايات المتحدة.
لكن كما اتضح فإنَّ للهند مصالحها الخاصة التي يتعين عليها السعي وراءها، وبينما هي حليف مرجح للولايات المتحدة ضد الصين، إلا أن موقفها من موسكو مختلف
فالهند عميل رئيسي للأسلحة والطاقة الروسية، وتتمتع بعلاقة طويلة مع موسكو تعود إلى الحرب الباردة. وبغض النظر عن الأخلاق، هناك أسباب مادية ملموسة تجعل الهنود لا يريدون التضحية بهذه الروابط لمجرد كسب الثناء في واشنطن.
17 دولة إفريقية تمتنع عن إدانة روسيا في الجمعية العامة
في تطور أثار غضب الدبلوماسيين الأمريكيين بوضوح، اختار عدد كبير من الدول الإفريقية أيضاً الوقوف على الهامش. بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أدان العملية العسكرية الروسية.
فقد امتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت، وانتقدت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد الدول بسبب فشلها المزعوم في فهم خطورة الوضع، دون أن تعير المسؤولة الأمريكية اهتماماً لأعمال هذه الدول التجارية أو العلاقات الأمنية مع روسيا، بل إن واشنطن تطالبها فعلياً باتخاذ موقف يتبع الموقف الأمريكي.
وعلى غرار الهند، فإنَّ الدول الإفريقية لها بالطبع مصالحها الخاصة في الصراع، منفصلة عن مصالح الولايات المتحدة، إذ يتمتع العديد منها بعلاقات جيدة مع روسيا، وقد أسست علاقات اقتصادية وسياسية مهمة مع حكومة بوتين. وروسيا هي مزود رئيسي للمواد الخام مثل القمح، وتتمتع أيضاً بشعبية حقيقية بأنها بديل للغرب في مجال الاستثمار والدعم الأمني، وليس لها إرث استعماري في القارة مماثل للدول الأوروبية.
الدول الأوروبية تعامل اللاجئين الأفارقة القادمين الفارين بشكل سيئ
بينما تعهدت العديد من الدول الغربية باستقبال اللاجئين الأوكرانيين، خلال الشهر الماضي، عانى الأفارقة الذين يعيشون في أوروبا من العنصرية عند المعابر الحدودية أثناء محاولتهم الفرار من الصراع الأوكراني بأنفسهم، وهو الأمر الذي أصبح مصدر قلق كبير لكثير من الأفارقة، بمن فيهم الدبلوماسيون، لكن السفيرة ليندا توماس غرينفيلد تجاهلت كل ذلك في تعليقاتها التي دعت الدول الإفريقية إلى الوقوف في طابور الموقف المُدِين لروسيا.
وفي مقال ينتقد تصريحات السفيرة الأمريكية، أشار الباحث الإفريقي إيبينيزر أوباداري إلى أنَّ ليندا توماس غرينفيلد قد عاملت الأفارقة على أنهم "مراهقون أخلاقيون يحتاجون إلى إشراف غربي لفهم وفعل ما هو صواب"، مطالبة بدعمهم لموقف الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا، بينما تفشل في الأخذ في الاعتبار مصالحها أو وجهات نظرها. وقال الباحث الإفريقي إنه لا يزال هناك متسع من الوقت للمسؤولين الأمريكيين لتجربة نهج جديد. ومع ذلك من غير الواضح ما إذا كان الدبلوماسيون من قوة عظمى معتادة على الحصول على ما تريده حول العالم سيكونون قادرين على اتباع نهج أكثر مراعاة للفروق ودقة.
المفارقة أن أمريكا موقفها الأخلاقي سليم في هذه الأزمة على غير عادتها
والمفارقة في ظهور نظام عالمي مستقل وغير منحاز في هذه اللحظة يقوم على مقاومة الولايات المتحدة، هي أنَّ الموقف الأمريكي من العملية العسكرية في أوكرانيا مبني على قضية أخلاقية قوية، (عكس مواقف أمريكا في العديد من الأزمات).
قادة الولايات المتحدة محقون في انتقاد روسيا لهجومها الوحشي غير المبرر على دولة ذات سيادة. فاستخدام القوة المكشوفة لإكراه دولة ديمقراطية على التضحية باستقلالها هو تطور خطير تستوجب إدانته. ومع ذلك، بعد عقود من العدوان والانتهاكات التي ارتكبتها الولايات المتحدة نفسها، يبدو أنَّ معظم العالم قد استنتج أنَّ مصداقية الولايات المتحدة قد نفدت في مثل هذه الأمور.
وبدلاً من الاصطفاف مع كتلة أو أخرى، مثلما أُجبِرَت هذه الدول على ذلك في الحرب الباردة، نشهد الآن ظهور عالم ما بعد هيمنة أمريكا. فالعديد من الدول التي تتجاهل الآن الولايات المتحدة، بما في ذلك القوى العظمى الطموحة مثل الهند والصين، مذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ومع ذلك، فمن المستبعد أنها ستعود إلى أدوارها السابقة كمتوسلين أو أتباع للغرب.
وسواء في أفضل السيناريوهات أو أسوأها، كل ما سيأتي بعد ذلك سيكون انفصالاً تاماً عن القرون العديدة الماضية للهيمنة الغربية، ليس فقط في السياسة، لكن في الثقافة والأفكار أيضاً.