"عليك شراء أي شيء الليلة قبل ارتفاع الأسعار"، هكذا كان حال كثير من المصريين ليلة 21 مارس/آذار 2022، بعدما علموا بالقرارات الاقتصادية التي اتخذها البنك المركزي والتي أدت إلى تراجع حاد للعملة الوطنية، فهل نحن أمام التعويم الثاني للجنيه المصري أم مجرد تصحيح لسعر العملة كما قال محافظ البنك المركزي.
كانت مصر قد شهدت خلال الفترة الماضية، نقصاً في الدولار، وتراجعاً تدريجياً في سعر الجنيه المصري، مع ظهور السوق السوداء للعملة الأجنبية مرة أخرى، جراء تداعيات الحرب الأوكرانية على اقتصاد البلاد.
وبينما كانت وسائل الإعلام وأجهزة الدولة تطمئن المواطنين لسلامة الاقتصاد الوطني، سارع البنك المركزي في يوم عيد الأم الموافق 21 مارس/آذار 2022 لعقد اجتماع لمجلسه قبل موعده بثلاثة أيام وأصدر فيه قراراً بزيادة الفائدة بمعدل 100 نقطة، وترك حرية تحديد سعر الصرف الجنيه أمام الدولار، للبنوك وفقاً للعرض والطلب.
ونتيجة لذلك انخفضت قيمة الجنيه بنحو 15% حيث بلغ أمام الدولار عقب القرار بين 18.15 و18.29، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، بدلاً من 15.74 جنيهاً. وتزامن ذلك مع رفع سعر الفائدة بنسبة 1%.
وقال طارق عامر محافظ البنك المركزي، في مؤتمر صحفي من مجلس الوزراء، اليوم الإثنين، إن القرارات كانت حتمية "لحماية موارد البلاد، ونرجو أن تتحسن الأمور على المستوى الدولي"، مُعتبراً أنه جزء من "حركة تصحيح" في سوق النقد الأجنبي، وواصفاً القرارات بالجريئة.
وأضاف: "لازم الناس تعرف أننا في ظروف صعبة جداً"، وأن الأزمة الحالية أشد وطأة من كورونا، التي نجحت خلالها مصر في تحقيق نجاح اقتصادي.
وأشار إلى أن الدولة تقوم حالياً باستخدام الاحتياطي النقدي لضبط الأسعار في السوق.
وقال عامر إن البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي قام بسحب السيولة من الأسواق منذ النصف الثاني من 2021، ما أدى إلى بدء خروج السيولة من الأسواق الناشئة، ومن بينها مصر.
ذكريات التعويم المريرة تجدد
وتسببت الخطوة في ارتفاع حاد في الأسعار وارتباك في الأسواق، بالنظر لأن الجنيه واصل تراجعه في اليوم الثاني للقرار، وزاد ذلك من صعوبة قدرة المستوردين والتجار على تحديد قيمة الجنيه، ومقدار الزيادة في تكلفة السلع.
وقبل قرار التعويم الثاني للجنيه المصري، بلغ معدل التضخم في المناطق الحضرية في مصر 8.8% في فبراير/شباط 2022، وهو أعلى مستوى منذ منتصف 2019.
وتضاعف القلق جراء أن ذكريات انهيارات العملة والتعويم الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 ما زالت ماثلة في أذهان المصريين، إذ لم يمر عليها سوى ست سنوات، وهو القرار الذي تم بدعم من برنامج صندوق النقد الدولي الذي أقرض القاهرة 12 مليار دولار.
إنه التعويم الثاني للجنيه المصري
ورغم وصفه القرارات الأخيرة بالجريئة إلا أن محافظ البنك المركزي المصري لم يشر إلى أنها بمثابة التعويم الثاني للجنيه المصري، لأن ذلك فيه إشارة إلى حقيقة أن الجنيه لم يكن حراً أو معوماً خلال السنوات الماضية، وأن تحديد سعره كان يتم عبر البنك المركزي الذي تدخل وقام بتقوية الجنيه وفرض شكلاً من أشكال ثبات سعر الصرف بشكل غير رسمي.
ولقد أدت سرعة اتخاذ القرار وحجم التراجع الكبير في قيمة الجنيه لتساؤلات حول سر لجوء الدولة المصرية لهذا القرار، ولماذا يجب أن يخوض المواطن تجربة التعويم الثاني للجنيه، الأليمة، رغم أنه سبق أن قدم تضحيات كبيرة من دخله ومدخراته عام 2016، وكان صانع القرار يخبره آنذاك بضرورة الصبر على هذه التضحية الضرورية التي ستعقبها مرحلة من الرخاء وازدياد قوة الاقتصاد.
وبينما اعتبر القرارات بمثابة تصحيح لسعر الجنيه المصري، لم يقل من المسؤول عن الخطأ في تسعير العملة المصرية خلال الفترة الماضية.
مصر واحدة من أكثر دول العالم تضرراً من أزمة أوكرانيا
وتعد مصر واحدة من أكثر دول العالم تضرراً اقتصادياً من الأزمة الأوكرانية، لأسباب عدة: الأول أنها كانت تعتمد بشكل كبير على السياحة الروسية والأوكرانية، حيث يشكّل البلدان في السابق حوالي ثلث إجمالي عدد السياح الوافدين.
ومع أن هذه السياحة سبق أن توقفت سواء بسبب إسقاط الطائرة الروسية في سيناء أو بسبب جائحة كورونا، إلا أن هذه المرة فإن معين السياحة الروسية والأوكرانية يبدو أنه سينضب لفترة طويلة، لأنه حتى لو انتهت الحرب، فإن التدمير الذي أصاب أوكرانيا والعزلة التي تتعرض لها روسيا يعنيان أن دخول مواطني البلدين ستتراجع وبالتالي لا مجال لتصور أن بلداً مدمراً وآخر محاصراً سوف يرسلان مواطنيهما للاستمتاع بشمس شرم الشيخ وإنفاق الدولارات في مصر.
الأمر الثاني أن مصر أكبر مستورد في العالم للقمح الذي شهد ارتفاعاً كبيراً في أسعاره هو وأغلب المواد الغذائية وكذلك النفط، مما يشكل ضغطاً كبيراً على ميزان المدفوعات المصرية.
والأموال الساخنة تهرب
أما النقطة الثالثة فهي أن مصر إضافة للسياحة وقناة السويس فإن أحد مصادر العملة الصعبة الرئيسية لديها هو تدفق الأموال الساخنة على أوراقها المالية، ومن هنا فإن التوتر الذي أحدثته الحرب وميل الغرب للعزلة الذي أججته الحرب، ورفع أسعار الفائدة الأمريكية معناه هروب الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة للدول المتقدمة، وبما أن مصر كانت من أكثر الدول جذباً لهذه الأموال فإنها كانت الأكثر تأثراً بهروبها.
وقالت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني إن الأزمة ستزيد من ضعف مصر أمام بيع الأجانب للسندات.
ورغم أن مصر سبق أن تعرضت لأزمة مشابهة خلال جائحة كورونا، لكنها لم تقم بخطوة تخفيض الجنيه بهذا الشكل.
لماذا لجأت مصر للتعويم الثاني للجنيه؟
من الواضح أن مصر سارعت لاتخاذ هذه الخطوات بما في ذلك السماح بارتفاع الدولار بهذا الشكل أمام الدولار لسببين:
الأول: استباق السوق السوداء التي ظهر من خلال التجارب السابقة أنه في حال وجود سعر رسمي دولار أدنى من السوق السوداء، فإن ذلك يؤدي إلى استنزاف احتياطات البلاد الدولارية، حيث تتسرب غالباً الدولارات الرسمية إلى السوق السوداء (يمكن أن يقوم بعض المستوردين بالحصول على الدولارات بالسعر الرسمي المنخفض لشراء سلع ضرورية ثم بيع جزء منها في السوق السوداء).
كما أن عائدات الصادرات والتحويلات تذهب إلى السوق السوداء وليس البنوك، مما يفاقم الأزمة.
ولذا قرر البنك المركزي عرض سعر صرف أعلى مما هو مطروح في السوق السوداء، على أمل جذب الدولارات القليلة المتبقية في جيوب المصريين.
وقد يكون هناك سبب آخر، مرتبط برغبة مصر في الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي الذي سيشترط هذه المرة قيام مصر بترك الجنيه يصل إلى قيمته الحقيقية، ولذا كان لافتاً أن قيمة الجنيه بعد قرارات البنك المركزي وصلت إلى مستوى أعلى حتى من تقييمات المؤسسات الدولية، مما يشير إلى رغبة القاهرة في أن تبلغ رسالة لهذه المؤسسات بأن قيمة الجنيه الحالية مغرية وبالتالي جديرة بالاستثمار في أدواته المالية، وفي الوقت ذاته تفوت الفرصة على مستثمري الأموال الساخنة لتحقيق مزيد من المكاسب عبر بيع الجنيه بأعلى من قيمته الحقيقية، وهو التوجه الذي يؤدي في النهاية لمزيد من التدهور له ومزيد من فقدان الاحتياطات النقدية.
وكتب دانييل ريتشاردز، خبير اقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في بنك الإمارات دبي الوطني في مذكرة، أن خطوة البنك المركزي ستزيد من احتمالية الموافقة على برنامج جديد لصندوق النقد الدولي في الأسابيع المقبلة. ويرجع ذلك إلى أن "بعض المتطلبات الأساسية المحتملة للدعم المالي المتجدد من الصندوق- رفع سعر الفائدة بشكل كبير وعملة أرخص- قد تم الوفاء بها الآن". وتوقع المزيد من الارتفاعات في أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس في المجموع هذا العام، حسبما نقلت عنه وكالة Bloomberg.
لماذا يخوض هذا الجيل من المصريين تجربة التعويم مجدداً؟
ولكن كل ذلك لا يجيب عن السؤال لماذا يضطر نفس الجيل من المصريين أن يخوض تجربة التعويم الأليمة للمرة الثانية، بعد أن ابتلع التعويم الأول مدخراته قبل ستة أعوام، وتسبب في انهيار شركات، وفشل مشروعات كانت أسعارها مقومة بجنيه ما قبل التعويم.
الخطأ أن مصر عومت الجنيه المصري في عام 2016، ثم أعادت السيطرة عليه، لأسباب غير اقتصادية في الواقع، يفترض أن تكون تجربة التعويم تجربة واحدة أليمة تصبح بعدها العملة حرة، يتحدد سعرها وفقاً لحالة الاقتصاد وقوانين العرض والطلب.
وفي حال دولة مثل مصر، بل حتى في حال الدول الأفضل اقتصادياً منها من الدول الصاعدة أو الاقتصادات الناشئة، فإن الوضع الطبيعي بعد التعويم هو ثبات نسبي لسعر العملة أو تراجع طفيف لسعرها أمام الدولار، باعتبار أن العملة تعكس قوة الاقتصاد، واقتصاد دولة مثل مصر، يعاني من عجز شبه دائم في موارد العملات الأجنبية.
وبعد التراجع الذي يؤدي له التعويم فإن ثبات سعر العملة عند المستوى المنخفض الجديد أو تسجيلها انخفاضات محدودة، غير مثير للجزع من شأنه تحقيق الفائدة الوحيدة من التعويم وهي انخفاض تدفق الواردات بسبب ارتفاع أسعارها وتشجيع زيادة الصادرات لانخفاض تكلفتها.
ولكن هذا لم يحدث في مصر.
الخطأ الذي ارتكبه قادة البلاد بعد التعويم الأول
في التعويم الأول قفز السعر الرسمي للدولار أمام الجنيه بين ليلة وضحاها من أقل من تسعة جنيهات لكل دولار إلى 13 ثم إلى أكثر من 18 جنيهاً، واستمر سعر الجنيه عند مستوى أعلى من 18 لما يقرب من تسعة أشهر، ثم بدأ يصل إلى مستوى 17 جنيهاً، بعد نحو عام من التعويم.
ثم واصل الجنيه الارتفاع ليصل إلى مستوى 15.60 جنيه لكل دولار قبيل الأزمة الحالية.
كان يبدو هذا خبراً جيداً للمصريين وسبباً لفخر ومباهاة أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي وقد يكون الرئيس نفسه، الجنيه، يهزم الدولار. ولكن الحقيقة كان هذا خطأ كارثياً..
ولم يكن ارتفاع الجنيه يتم نتيجة تداول حر له، بل عبر التدخل بأدوات عدة منها سعر فائدة مرتفع للغاية قيل إنه الأعلى عالمياً، أدى ذلك لتدفق الأموال الساخنة التي اشترت الجنيه المصري بسعر يبلغ أكثر من 18 جنيهاً للدولار ثم باعته بسعر 15.60 أي حققت فيه ربحاً يقرب من 15% إلى جانب فائدة سنوية تقارب نفس النسبة، يعني ذلك أن أياً من مستثمري الأموال الساخنة لو احتفظ بالجنيه المصري لمدة ثلاث سنوات من 2017 إلى 2019، قد يحقق ربحاً يفوق 60% بالدولار، وهي نسبة ربح تفوق أي مشروع شرعي في العالم غالباً.
وبطبيعة الحال عند أول أزمة ومع شعورهم بأن الجنيه بات مقوماً عندى مستوى أكبر من قيمته بشكل فج، ومع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية سارع هؤلاء بجني الأرباح والهرب بعيداً.
ولكن لم تكن هذه المشكلة الوحيدة.
أصعب تأثيرات التعويم هي الغلاء الفاحش الذي يسببه وهو غلاء يحدث بسرعة شديدة، كما بدأ المواطنون يلاحظون في التعويم الثاني للجنيه.
وهذا ما حدث بشكل أشد في التعويم الأول للجنيه عام 2016، حيث قفزت الأسعار بنسب هائلة متسببة في سحق المواطنين.
المشكلة أنه عندما يعود الجنيه للارتفاع وينخفض الدولار لا تنخفض الأسعار بنفس النسبة ولا بنفس السرعة.
بالأخص في أسعار الخدمات فإنها لا تتراجع مع تراجع سعر الدولار، فعلى سبيل المثال لو صاحب مقهى يبيع كوب الشاي بخمسة جنيهات عندما كان الدولار يساوي 10 جنيهات، فعندما يرتفع سعر الدولار إلى 20 جنيهاً، سيرتفع سعر الشاي المستورد من سريلانكا، وقد يرفع سعر كوب الشاي إلى 10 جنيهات، علماً بأن ثمن كوب الشاي يشمل تكلفة العمالة وإيجار المكان وأرباحه.
وعندما ينخفض الدولار إلى 15 جنيهاً فإنه لن يخفض سعر كوب الشاي إلى 7.5 جنيه ونصف لأن الشاي هنا ليس سلعة فقط بل ضمن خدمة أوسع أسعارها لا تتراجع عادة.
وهذا ما حدث في مصر، زادت قيمة الجنيه المصري نحو 20% خلال السنوات الماضية، ولكن الأسعار لم تنخفض بنفس المقدار أو حتى مقدار قريب، بل واصلت الارتفاع في أغلب الأحيان.
وبالتالي لم يكسب المصريون شيئاً يذكر من عودة الجنيه لسعر 15.60، ولكن في المقابل خسر الاقتصاد الميزة الوحيدة للتعويم وهي تنافسية تكلفة الإنتاج التي تتيح فرصة لتعزيز المنتج المحلي أمام المستورد والأهم إمكانية توسيع التصدير، لحل مشكلة العملة الصعبة المزمنة بدلاً من المراهنة على الأموال الساخنة لتوفيرها.
إهمال لافت للاستثمار الصناعي وتركيز على العقارات
وتزامن مع ذلك إهمال لافت، للحكومة لمسألة الاستثمار المحلي أو الأجنبي في ظل توسع مؤسسات الجيش بدلاً من القطاعين الأجنبي والمحلي، وهو توسع مال لقضم حصة القطاع الخاص وليس زيادة حجم السوق، وتركز جزء كبير من الاستثمار في القطاع العقاري الذي لا يقدم قيمة مضافة للاقتصاد، وهو قطاع أصابه التشبع أصلاً.
ففي مقابل مئات المشروعات العقارية الحكومية، كثير منها في العاصمة الإدارية التي لم تسكن بعد، فإنه نادراً ما سمعنا عن مصنع جديد، كما أن الصادرات حققت بعض الزيادة، ولكن ظل هناك عدم اهتمام مركزي بها، بينما العديد من الدول المشابهة لمصر تعطي أولوية كبيرة لهذا الملف.
سيطرة الجيش على الاقتصاد تضر بالتصدير
وعزز من ضعف ملف التصدير حقيقة أن سيطرة الجيش على الاقتصاد، تصعب من عملية التصدير، بالنظر إلى أن مواصفات التصدير الصعبة والدقيقة أمر يصعب أن تحققه المؤسسة العسكرية التي تتعامل مع العميل المصري على أنها لها اليد العليا، كما أن عملية التصدير تحتاج إلى مرونة لا تتصف بها إلا أنواع معينة من الشركات الخاصة المنفتحة على الخارج وهو أمر يصعب أن يتوفر للمؤسسة العسكرية، فضلاً عن أن المستورد الغربي خاصة يصعب أن يتخيل أن الطرف الثاني في صفقة التصدير التي يبرمها ضابط بنسرين على كتفيه.
من المعروف أن الميزة الرئيسية لتجربة التعويم أو انخفاض العملة تكون في زيادة الصادرات مثلما يحدث في بلد مثل تركيا، وهو أمر على المدى البعيد يؤدي إلى تدفق حقيقي ودائم للعملات الصعبة من مصادر واقعية وليست أموالاً ساخنة مغامرة، مما يؤدي إلى تصحيح ميزان المدفوعات والحساب الجاري، ويحل مشكلة العملة المزمنة.
ولكن الشعب المصري دفع في تجربة التعويم الأولى ثمناً دون أن يجني ثمار التعويم المفترضة، والآن على هذا الشعب أن يخوض مكرهاً تجربة التعويم الثاني للجنيه المصري دون أي ضمانة أن نفس الأخطاء لن تتكرر مرة أخرى.