أعلنت الولايات المتحدة رسمياً أن القمع الذي ارتكبه قادة الانقلاب في ميانمار (بورما) بحق أقلية الروهينغا المسلمة يرقى إلى الإبادة الجماعية، فماذا يعني ذلك بالتحديد؟
كان الجيش في ميانمار (بورما سابقاً) يحكم البلاد بقبضة من نار منذ انقلاب عام 1962، ويواجه قادته اتهامات بشن حرب إبادة جماعية بحق الأقلية المسلمة من الروهينغا، وكانت البلاد تتعرض لعقوبات أممية وأمريكية، ووضعها يشبه إلى حد كبير وضع كوريا الشمالية كدولة منبوذة دولياً.
لكن الوضع السياسي في البلاد تغيّر منذ عام 2008، عندما توصلت الزعيمة أون سان سوتشي وقادة الجيش إلى اتفاق لتقاسم السلطة في البلاد، وتم إقرار دستور جديد في هذا الإطار، وفي عام 2015 فازت سوتشي وحزبها في الانتخابات البرلمانية، وتولت منصب رئيسة الوزراء، وأصبحت تلقب بالسيدة الزعيمة، وتم رفع العقوبات عن ميانمار، وسارعت الشركات الأمريكية والدولية لفتح مقار لها في البلاد.
لكن اضطهاد الروهينغا ظل مستمراً، بل وقفت سوتشي أمام محكمة العدل الدولية عام 202 مدافعة بشراسة عن قادة الجيش، وأصرّت دون بادرة اعتذار على أنه في حين "لا يمكن استبعاد احتمالية الاستخدام غير المتناسب للقوة" ضد الروهينغا، فإن استنتاج نية الإبادة الجماعية من طرف المحكمة يستند إلى "صورة منقوصة ومضللة للوقائع" التي جرت.
ومطلع فبراير/شباط 2021، انقلب قادة الجيش في ميانمار على سوتشي وحزبها، واعتقلوا القادة المدنيين، وواصلوا حملتهم المحمومة في اضطهاد الروهينغا، فماذا يعني إعلان واشنطن الآن تصنيف فظائع جيش ميانمار بحق الأقلية المسلمة على أنها "إبادة جماعية؟
بلينكن يعلن تصنيف الإبادة الجماعية
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، قال الإثنين 21 مارس/آذار، إن الولايات المتحدة قررت رسمياً اعتبار أن جيش ميانمار ارتكب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في عنفه ضد أقلية الروهينغا، محذراً من أنه ما دام المجلس العسكري في السلطة فلن يكون أحد في البلاد في مأمن، بحسب تقرير لرويترز.
وأضاف بلينكن لدى إعلان القرار، الذي كانت رويترز أول من أورده الأحد، أن الهجمات ضد الروهينغا كانت "واسعة النطاق ومنهجية"، وأن الأدلة تشير إلى نية واضحة للقضاء على الأقلية المسلمة بالأساس.
وفي كلمة في متحف ذكرى المحرقة النازية (الهولوكوست) في واشنطن، تلا بلينكن روايات مأساوية تقشعر لها الأبدان، عن ضحايا أطلق الرصاص على رؤوسهم أو تعرضوا للاغتصاب والتعذيب.
وشنت القوات المسلحة في ميانمار عملية عسكرية في عام 2017، أجبرت ما لا يقل عن 730 ألفاً من الروهينغا على مغادرة منازلهم إلى بنغلاديش المجاورة، وذلك في ظل حكومة سوتشي المدنية، قبل انقلاب 2021 الذي استولى الجيش على السلطة من خلاله.
وقال بلينكن "منذ الانقلاب رأينا الجيش البورمي (الولايات المتحدة لا تزال تعتمد الاسم القديم بورما) يستخدم الكثير من الأساليب نفسها. يستهدف الجيش الآن فقط أي شخص في بورما يرى أنه يعارض أو يقوض حكمه القمعي. بالنسبة لمن لم يدركوا ذلك قبل الانقلاب، فإن العنف الوحشي الذي أطلق الجيش له العنان منذ فبراير/شباط 2021، أوضح أنه لن يكون أحد في بورما في مأمن من الفظائع ما دام في السلطة".
ماذا يعني هذا التصنيف بالنسبة للروهينغا؟
يعتقد المسؤولون الأمريكيون أن القرار يمكن أن يدعم الجهود الرامية لمحاسبة القادة العسكريين في ميانمار، ويساعد في منع وقوع المزيد من الفظائع. ورحب نشطاء بالخطوة، لكنهم طالبوا باتخاذ إجراءات ملموسة مثل تشديد العقوبات على المجلس العسكري.
قال تون خين، وهو ناشط من الروهينغا يرأس منظمة الروهينغا البورميين في المملكة المتحدة، وحضر كلمة بلينكن: "لا شك في أن السماح للجيش بالإفلات من العقاب على الإبادة الجماعية للروهينغا شجعه على الاعتقاد أن بوسعه أن يفلت بعد الانقلاب أيضاً".
وأضاف لرويترز "المحاسبة على الإبادة الجماعية للروهينغا لن تساعد في حماية الروهينغا فحسب، بل ستساعد أيضاً في حماية جميع سكان بورما".
وقال جون سيفتون، مدير المناصرة في قسم آسيا بمنظمة هيومن رايتس ووتش، إن على واشنطن العمل من خلال هيئات الأمم المتحدة للضغط في سبيل مساءلة المجلس العسكري، مع توسيع العقوبات، لتستهدف احتياطيات العملات الأجنبية التي يجمعها في ميانمار من عائدات النفط والغاز.
وأضاف لرويترز سيفتون "سيواصل جيش ميانمار ارتكاب الفظائع ما دامت الحكومات الأخرى لم تتخذ إجراءات لمحاسبته".
وينفي جيش ميانمار ارتكاب إبادة جماعية ضد الروهينغا، الذين حُرموا كذلك من حمل جنسية ميانمار، ويقول إنه نفذ عملية ضد الإرهابيين في عام 2017. لكن بعثة لتقصي الحقائق تابعة للأمم المتحدة كانت قد خلصت في عام 2018 إلى أن حملة الجيش تضمنت "أعمال إبادة جماعية"، لكن واشنطن أشارت في ذلك الوقت إلى الفظائع على أنها "تطهير عرقي"، وهو مصطلح ليس له تعريف قانوني بموجب القانون الجنائي الدولي.
وأقلية الروهينغا المسلمة، البالغ عدد أفرادها المليون قبل تعرضها للهجمات، هي واحدة من الأقليات التي تعيش في إقليم راخين. وترفض حكومة ميانمار، حيث أغلبية السكان من البوذيين، منحهم الجنسية، واستثنتهم من الإحصاء السكاني الذي أجري عام 2014، رافضة اعتبارهم أقلية قومية.
ولا يؤدي الاتهام بالإبادة إلى أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات بالضرورة، ولكن يؤمل أن يشكل هذا ضغطاً على العسكر في بورما، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
لماذا تأخرت إدارة بايدن حتى الآن؟
حين وصل الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى السلطة، في يناير/كانون الثاني 2021، وعد وزير خارجيته بمراجعة الوضع في بورما، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن توقيت التصنيف، الذي تأخر نحو 14 شهراً.
يقول مؤيدو إعلان الإثنين، الذي لا يطلق العنان تلقائياً لأي إجراءات عقابية، ولكنه يحمل وزناً سياسياً، إنه يمكن أن يساعد الجهود القضائية في جميع أنحاء العالم، الرامية لمحاسبة المجلس العسكري، ولكن يتعين القيام بالمزيد. إذ أعلن بلينكين أيضاً عن تخصيص مليون دولار في تمويل جديد لتحقيق الأمم المتحدة حول ميانمار.
وكان مسؤولون أمريكيون وشركة محاماة خارجية قد جمعوا أدلة، في محاولة لسرعة الإقرار بخطورة تلك الفظائع، لكن وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو رفض اتخاذ قرار.
وقال مسؤولون أمريكيون لرويترز، شريطة عدم الكشف عن هوياتهم، إن بلينكن أمر بإجراء "تحليل قانوني وتحليل للوقائع" خاص به، وهو ما خلص إلى أن جيش ميانمار ارتكب إبادة جماعية، وتعتقد واشنطن أن القرار الرسمي سيزيد من الضغط الدولي لمحاسبة المجلس العسكري.
وقال مسؤول رفيع في وزارة الخارجية "سيجعل ذلك من الصعب عليهم ارتكاب المزيد من الانتهاكات"، ولم يرد مسؤولون في سفارة ميانمار في واشنطن والمتحدث باسم المجلس العسكري حتى الآن على رسائل من رويترز تطلب التعليق.
"الإعلان الأمريكي الرسمي بوقوع إبادة جماعية بحق الروهينغا دليل على الاعتراف بمدى ووحشية العنف الذي مارسته وتمارسه الطغمة العسكرية في ميانمار"، بحسب ما قاله كياو وين، المدير التنفيذي لشبكة حقوق الإنسان في بورما لصحيفة الغارديان البريطانية.
وأضاف وين: "لا بد أن يتبع هذا الإعلان إجراءات عملية أخرى، فالجيش الذي يرتكب إبادة جماعية ويقوم بانقلاب للإطاحة بحكومة منتخبة ديمقراطياً لا يوجد له مكان في العالم المتحضر".
الخلاصة هنا هي أن الاعتراف الأمريكي الرسمي بأن الفظائع التي ارتكبها ويرتكبها قادة الجيش في ميانمار بحق مسلمي الروهينغا هي إبادة جماعية، لا يعني من الناحية العملية الشيء الكثير بالنسبة للجلاد ولا للضحية، لكنها خطوة أولى من المفترض أن يتم البناء عليها لتحقيق غايتين أساسيتين، الأولى هي إجبار قادة الانقلاب على التوقف فوراً عن تلك الفظائع، والثانية معاقبتهم على ما ارتكبوه بالفعل، لكن هل هذا ما تسعى واشنطن إلى تحقيقه فعلاً؟ هذا ما ستجيب عنه الأحداث التالية.