مصادر ووسائل إعلام أمريكية تؤكد "وجود مختبرات أسلحة بيولوجية سرية تديرها أمريكا في أوكرانيا"، تبدو هذه إحدى المفارقات المرتبطة بنظرية المختبرات البيولوجية الأوكرانية التي تحاول موسكو اتخاذها كذريعة جديدة لحربها على كييف.
فلقد بدأ الحديث عن المختبرات البيولوجية الأوكرانية السرية التي تديرها أمريكا في أوساط اليمين المتطرف الأمريكي ثم انتقل إلى قناة "فوكس نيوز" ودونالد ترامب جونيور، النجل الأكبر للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
روسيا تطالب إعلامها ببث أجزاء من برنامج مذيع أمريكي شهير
بدأت نظرية المختبرات البيولوجية من المنصات التابعة لحركة "كيو أنون" الأمريكية اليمينية المروّجة لنظريات المؤامرة.
والآن، تنخرط آلة الدعاية الروسية حالياً في نشر معلومات مضللة لتبرير غزوها لأوكرانيا حتى إنَّها طلبت من التلفزيون الروسي أن يبث أجزاء من برنامج المذيع الأمريكي الشهير تاكر كارلسون، أحد أكبر المؤيدين لنظرية وجود مثل هذه المختبرات البيولوجية.
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد اتهمت، الإثنين 7 مارس/آذار 2022، الولايات المتحدة الأمريكية بإقامة 30 مختبراً بيولوجياً في أوكرانيا، تشمل فيروسات تسبب أمراضاً خطيرة، مشيرة إلى أنها قد قامت بتدمير بعضها.
وقدمت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الأربعاء 9 مارس/آذار، ما قالت إنها أدلة وتفاصيل على وجود تلك البرامج البيولوجية العسكرية، فما قصة تلك المعامل، التي أقرت واشنطن بوجودها بالفعل مع تقديم تفسير مختلف بالطبع عما تقوله الرواية الروسية.
انضمت الصين لركب الاتهامات الروسية، إذ قال متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية يوم الثلاثاء 8 مارس/آذار 2022 إن بكين تحث الولايات المتحدة على الكشف عن تفاصيل حول المختبرات البيولوجية التي تمولها الولايات المتحدة في أوكرانيا.
المتحدث باسم الخارجية الصينية قال كذلك في بيان رسمي له إن الولايات المتحدة تمول مختبرات بيولوجية، مطالباً بالكشف عما تحتويه هذه المختبرات الموجودة في أوكرانيا من أنواع فيروسات مخزنة، فضلاً عن كافة التفاصيل التي تخص إجراء البحوث داخل هذه المختبرات.
كما دعا جميع الأطراف إلى ضمان سلامة هذه المعامل في ظل الوضع الحالي.
كيف بدأت نظرية المختبرات البيولوجية الأوكرانية في الأوساط الأمريكية اليمينية؟
انطلقت نظرية مؤامرة مختبرات الأسلحة البيولوجية الأوكرانية في الساعات التي أعقبت شن روسيا قصفها الجوي ضد أوكرانيا بعدما أشار حساب على موقع تويتر لأحد المتابعين القدامى لحركة "كيو أنون"، التي تتبنى نظريات مؤامرة هامشية، إلى وجود ما يقرب من 30 مختبراً بيولوجياً منتشرة في جميع أنحاء أوكرانيا.
كتب المستخدم الذي يحمل حسابه اسم "WarClandestine" تغريدة يقول فيها إنَّ "الصين وروسيا ألقتا باللوم بشكل غير مباشر على الولايات المتحدة في تفشي فيروس كوفيد-19 -وهذا صحيح- ويخشون من أن يكون لدى الولايات المتحدة أو حلفائها المزيد من الفيروسات لينشروها"، مفترضاً أنَّ "الغزو الروسي لأوكرانيا كان يهدف أساساً إلى تدمير تلك المنشآت البيولوجية وما تحتويه من فيروسات".
في الواقع، كانت هذه النظرية مجرد نسخة مُعدّلة لادّعاء قدمته موسكو منذ سنوات يتهم الولايات المتحدة بإدارة برنامج سري للأسلحة البيولوجية، غالباً في أوروبا الشرقية. زعم مستشار مُقرّب من الرئيس فلاديمير بوتين العام الماضي أنَّ واشنطن "تسبَّبت عمداً" في انتشار جائحة فيروس كورونا، مشيراً بأصابع الاتهام إلى معامل تموّلها الولايات المتحدة بالقرب من الحدود الروسية والصينية.
وفي يناير/كانون الثاني، نشرت الصحفية البلغارية، ديليانا غايتاندجييفا، تحقيقاً مثيراً تتهم فيه الولايات المتحدة بإجراء تجارب بيولوجية على جنود أوكرانيين وجورجيين. كانت ديليانا قد نشرت في وقتٍ سابق معلومات روسية مضللة وسلطت القنوات الموالية لروسيا الضوء على تقاريرها، حسب الصحيفة البريطانية.
ضابط أمريكي سابق ينشر نظرية مماثلة ومذيع شهير يتبناها
في نفس الوقت تقريباً، بدأ جون مارك دوغان- وهو ضابط أمريكي سابق متهم بالتنصت على المكالمات الهاتفية والابتزاز في فلوريدا ويعيش حالياً في موسكو- ينشر نظرية مماثلة. حذَّر دوغان في مقطع فيديو نشره في ديسمبر/كانون الأول 2021 قائلاً: "تلعب واشنطن ومختبراتها المموّلة لعبة شديدة الخطورة بالفيروسات".
وضعت هذه المعلومات المضللة الأساس لنظرية المؤامرة المرتبطة بحركة "كيو أنون" بشأن المختبرات البيولوجية الأوكرانية في أواخر فبراير/شباط. وخلال أقل من 24 ساعة، نشر موقع "Infowars" الأمريكي اليميني المتطرف الذي يتبنى نظريات المؤامرة وأدَّى دوراً كبيراً في الترويج للحملة الرئاسية لدونالد ترامب والتشكيك في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020، تقريراً يستند إلى هذا الادعاء بعنوان: "الضربات الجوية الروسية تستهدف المختبرات البيولوجية التي تديرها الولايات المتحدة في أوكرانيا". من هنا، انتشرت هذه النظرية عبر مجموعة واسعة من المواقع والمنصات ووسائل الإعلام الأمريكية اليمينية المؤيدة لنظريات المؤامرة.
وصلت هذه النظرية الأسطورية إلى برنامج تاكر كارلسون "Tucker Carlson Tonight"، الذي يحظى بمتابعة أكثر من 3 ملايين مشاهد في الليلة على قناة "Fox News" الأمريكية. أصر كارلسون في برنامجه على أنَّ الولايات المتحدة "تموّل إنشاء مسببات الأمراض المميتة" وعرض مقاطع فيديو لمتحدثين باسم النظامين الروسي والصيني يتهمون واشنطن بإدارة برنامج للأسلحة البيولوجية في أوروبا.
نعم هناك مختبرات بيولوجية أمريكية، ولكن هذا هو الهدف منها
تجدر الإشارة إلى أنَّ جوهر القصة بشأن المختبرات البيولوجية الأوكرانية صحيح، حيث تموّل وزارة الدفاع الأمريكية الأبحاث البيولوجية والمختبرات في أوكرانيا وأماكن أخرى في أوروبا والقوقاز من أجل رصد الأمراض المعدية الناشئة وتأمين المرافق التي كانت تؤوي برنامجاً سوفييتياً للأسلحة البيولوجية. لكن واشنطن تؤكد أنَّها لا تمول أبحاثاً للأسلحة البيولوجية في أي مكان، وادعاء واشنطن تدعمه مجموعة من المنظمات الدولية ودعاة نزع السلاح وعدم الانتشار.
ويتم تمويل برنامج المختبرات الحيوية الأمريكي من قِبل وكالة DTRA العسكرية، بموجب برنامج تبلغ ميزانيته 2.1 مليار دولار، ويشمل برنامج التعاون البيولوجي المشترك، مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق (جورجيا وأوكرانيا) والشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا وإفريقيا. لكن البنتاغون رفض تلك الاتهامات ووصفها بالادعاءات، وقال إن التعاون مع تلك الدول أهدافه علمية بحتة.
ونشر موقع آخر متخصص في علوم الذرة عن مسؤول أمريكي، قوله إن "الغزو الروسي لأوكرانيا يهدد بانتشار فيروسات خطرة موجودة في معامل بأوكرانيا"، نافياً في الوقت نفسه أن تكون تلك الفيروسات أسلحة بيولوجية، لكنها في إطار تجارب علمية، وكان ذلك أيضاً في اليوم التالي لبدء الهجوم الروسي على أوكرانيا.
المسؤول الأمريكي هو روبرت بوب مسؤول برنامج تخفيض المخاطر التعاوني، وهو برنامجٌ عمره 30 عاماً تابع للبنتاغون، يقول الأمريكيون إنه ساعد في "تأمين وتدمير برامج أسلحة الدمار الشامل لدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وإعادة تأهيل منشآت وعلماء البرامج البيولوجية في تلك الدول للانخراط في أبحاث علمية لأغراض سلمية"، بحسب موقع The Bulletin العلمي.
وأكد بوب أن المعامل الأوكرانية ليست منشآت للأسلحة البيولوجية، وتصر الإدارة الأمريكية على أنها معامل عامة تعمل في مجال صحة الحيوانات، وتشغّلها وتشرف عليها الدولة المضيفة، ومثل هذه النوعية من المعامل التي تساهم واشنطن في تمويلها، توجد في عدد من الدول حول العالم.
لكن بوب لمَّح إلى أنه على الرغم من كذب الدعاية الروسية بشأن طبيعة تلك المعامل وحقيقة الدور الأمريكي فيها، فإن الحرب قد تجعل من عينات التجارب في تلك المعامل مصدر تهديد خطيراً للصحة العامة: "أؤكد من خلال عملنا مع الأوكرانيين، أنه طالما لم تنقطع الكهرباء في تلك المعامل وطالما تواجد مسؤولو الأمان المدربون من طرفنا على رأس عملهم، لا توجد خطورة من تسرُّب عينات البحث خارج تلك المعامل. لكن في حال تعرُّض تلك المنشآت للدمار أو الضرر لا أحد يمكنه ضمان النتائج الصحية".
ومع ذلك، تابع كارلسون هذه القصة على مدار 3 حلقات مختلفة من برنامجه خلال الأسبوع الماضي ولاقت هذه المزاعم تفاعلاً كبيراً من وسائل الإعلام الموالية لروسيا.
واتهمت مؤخراً وكالة أنباء "تاس" الروسية، التي يُنظر إليها باعتبارها ناطقة باسم الكرملين، الراديكاليين الأوكرانيين بالتخطيط لاستخدام "مواد كيميائية سامة" ضد القوات الروسية أو حتى المدنيين الأوكرانيين. من جانبه، صرّح وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، علانية أنَّ هذه المعامل تُمثّل "تهديدات مميتة" للدولة الروسية.
في السياق ذاته، نشرت وكالة أنباء "سبوتنيك" الروسية يوم الخميس 17 مارس/آذار وثائق جديدة تدعي أنَّها "تُظهر مكوّنات أسلحة بيولوجية صُنعت في أوكرانيا بتمويل أمريكي مباشر".
في الواقع، لم تحدث الاستجابة الإعلامية الأمريكية والروسية بشأن قصة المختبرات البيولوجية من قبيل الصدفة.
حصلت مجلة "Mother Jones" الأمريكية على خطاب رسمي من وزارة الاتصالات ووسائط الإعلام الروسية توجّه فيه وسائل الإعلام "ببث أكبر قدر ممكن من أجزاء برنامج تاكر كارلسون".
ودعت الوزارة أبواقها الإعلامية في وسائل الإعلام الروسية إلى تسليط الضوء على أنَّ "أنشطة المختبرات البيولوجية العسكرية، التي تنخرط فيها الولايات المتحدة على الأراضي الأوكرانية، تُشكّل تهديدات عالمية لروسيا وأوروبا"، حسب وصف الوزارة الروسية.
وتقول صحيفة The Guardian "إجمالاً، قد تكون هذه الجهود الدعائية محاولة للتستر على شيء أكثر شراً تنفذه روسيا في فنائها الخلفي. في تقرير عام 2021، اتخذت وزارة الخارجية الأمريكية خطوة استثنائية باتهام موسكو بمواصلة برنامج الأسلحة البيولوجية الخاص بالعهد السوفييتي".
على الرغم من تقديم موسكو تقارير سنوية إلى الأمم المتحدة تفيد عدم امتلاكها برنامجاً نشطاً للأسلحة البيولوجية، تعتقد واشنطن أنَّ "روسيا الاتحادية قد شرعت في مراجعة خططها وتمويلها لمنشآتها الوطنية الكيميائية والبيولوجية".