تبدو الحرب الأوكرانية تدور على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من أي مكان آخر، ومن سيفوز في هذه المواقع سيفوز في حرب الدعاية في الأزمة الأوكرانية.
ويستخدم الطرفان الروسي الأوكراني كل أدواتهما لمحاولة تجييش الرأي العام، فيما انحاز الإعلام الغربي بشكل كامل للطرف الأوكراني، فمن فاز في حرب الدعاية في الأزمة الأوكرانية بعد نحو 20 يوماً من الحرب؟
أطراف حرب الدعاية في الأزمة الأوكرانية
الرئيس الأوكراني أصبح يتم تصديقه مهما توغل في المبالغة!
بطل الدعاية في الحرب الأوكرانية هو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان في الأصل ممثلاً كوميدياً، والرجل استطاع عبر طلة بسيطة تختلف تماماً عن هيبة الرؤساء التقليدية تحفيز المواطنين الأوكرانيين وجلب التعاطف لبلاده.
يمثل سنه الصغير بمعايير السياسيين وملابسه الكاجوال، نقيضاً لأناقة بوتين المتكلفة، وطلته الغامضة التي تذكر المشاهدين برجال الاستخبارات السوفييتية "كي جي بي".
عبر ظهوره المتكرر في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أصبح زيلينسكي محور المشهد الإعلامي للأزمة وسيطر على سرديتها.
ورغم ميله الكبير والواضح للمبالغة، بدءاً من استبعاده تعرض بلاده لغزو أوكراني قبل أسابيع من الهجوم الروسي وصولاً لتلويحه بإنتاج أسلحة نووية قبل أيام من الهجوم أو دعوته للناتو لفرض حظر جوي في سماء أوكرانيا.
إلا أن الرجل سيطر على السردية الرئيسية في الأزمة لدرجة أن اقتراحه غير المنطقي بالحصول على مقاتلات من الناتو اكتسب زخماً، وتبنته المفوضية الأوروبية ثم بولندا التي أحرجت الإدارة الأمريكية بهذا الاقتراح الذي رفضته لأنه ليس فقط يهدد باشتباك بين روسيا والناتو، ولكنه ليس فائدة عسكرية تذكر؛ لأن بضع عشرات طائرات سوفييتية قديمة لن تغير شكل المعركة في مواجهة سلاح الجو الروسي الضخم.
ولم يقف المعجبون به كثيراً، عند الأرقام غير المنطقية التي تحدث عنها بشأن عدد القتلى الروس الذي قال إنه يصل إلى 13 ألف جندي، بينما قال إن 1300 من الجنود الأوكرانيين قد قتلوا، أي أنه حسب كلامه، فإن عدد القتلى الروس 10 أضعاف القتلى الأوكرانيين، الأمر الذي يثير تساؤلاً: لماذا يحتاج الأوكرانيون لفرض حظر جوي غربي طالما يحققون هذه المكاسب؟
وأصبح كثير من اقتراحات الرئيس الأوكراني على غرابتها أحياناً توجه أجندة السياسة الدولية تجاه الأزمة الأوكرانية وروسيا، مثل دعوته إلى فرض عقوبات على روسيا.
واحدة من أكثر نقاط قدرة الرئيس الأوكراني على التأثير هي تأكيده دوماً على فكرة أن أوكرانيا تدافع عن أوروبا، وقد وصل ذلك إلى دعاية فجّة للبرلمان الأوكراني نشر فيها فيديو مركباً يظهر فيه برج إيفل في باريس يتعرض للقصف من الروس.
قدم زيلينسكي الأوكرانيين للأوروبيين ليسوا باعتبارهم آخر، بل باعتبارهم "الأنا"، وجعل كل أوروبي يفكر في أن مصير الأوكرانيين قد يتكرر مع بلاده في محاولة لطمس حقيقة تاريخية هي أن هناك فارقاً بين أوروبا الشرقية التي كانت دوماً خاضعة للتأثير الروسي وأوروبا الوسطى والغربية التي كانت في موقف أقوى أمام موسكو في أغلب العصور.
كما بدأ تأثيره يصل داخل روسيا، فقد شكر المحررة الروسية، التي اعترضت على الحرب، مناشداً كل من يعمل لدى ما أطلق عليه آلة الدعاية الروسية أن يستقيل.
وحذر من أي صحفي يعمل لدى ما يسميه رئيس أوكرانيا "السلطة الرابعة" قد يتعرض لخطر المثول أمام محاكمة دولية بتهمة "تبرير جرائم حرب".
جنى الرئيس الأوكراني ثمرة قيادته للمقاومة الأوكرانية ومهاراته الإعلامية عندما ألقى كلمة أمام الكونغرس الأمريكي، بينما قيل إن الرئيس الفرنسي ظهر غير حليق تشبهاً بطلته البسيطة.
نجاح الرئيس الأوكراني لا يعود فقط إلى عدالة قضيته، وجذوره الفنية، وعدم تقيده برصانة السياسة التقليدية، وعدم تحرجه من المبالغة، ولكن أيضاً بسبب تجاهل وسائل الإعلام الغربية، بل تبنيها أحياناً مبالغاته وتناقضاته، كما أن أداء الجيش الأوكراني (بعيداً عن مبالغاته) وأداء الجيش الروسي المتعثر تعطي مصداقية لرسائله على ما فيها من مبالغة.
وتعاطف الرأي العام الغربي معه يعيد تدوير أفكاره ويجعلها حقائق.
وعلى غرار الرئيس الأوكراني، نجح عدد من المسؤولين الأوكرانيين، في رسم صورة مشابهة، (مثل وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا عبر ظهوره بملابس كاجوال في المؤتمرات الصحيفة) وعبر الحديث بكثير من الحماسة والثقة والمبالغة، والتفاؤل، وعبر الالتصاق بشعبهم.
وأصبح الحديث يدور عن بطولات القيادات المحلية في المدن الأوكرانية التي تقاوم الروس، (بينما النخب السياسية الأوكرانية متهمة من قبل الغرب قبل الحرب بأنها أكثر نخب أوروبا فساداً).
رغم نجاحات الدعاية الأوكرانية حتى الآن، فإنها نقطة ضعفها الأساسية، أنه لو حدث انهيار مفاجئ للمقاومة الأوكرانية فإن ذلك من شأنه أن يجعلها كالبيت من الورق الذي تهاوى.
الولايات المتحدة إدارة الدعاية من وراء الستار
بينما كان البنتاغون في مأزق كبير قبل عدة أشهر عندما كان العالم يشاهد الإجلاء الفوضوي من كابول، وكان الروس يسخرون منه.
انقلب الحال تماماً الآن مع الغزو الروسي لأوكرانيا، يقود الأمريكيون الدعاية ضد الروس على مستويات عدة.
1- فرضت حصاراً إعلامياً على روسيا
المستوى الأول هو عملية محاصرة عملية الدعاية الروسية كجزء من عملية الحصار الشاملة ضد روسيا، وأسفرت ذلك عن إضعاف وصول المواقع ووسائل الإعلام الروسية للمستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي وتصعيب البحث على محركات البحث عن المواقع الروسية، واستخدام كلمات مفتاحية وخوارزميات محابية للأوكرانيين ومعادية للروس مثلما قيام فيسبوك بالدعاية التحريضية ضد بوتين في أوكرانيا ومناطق شرق أوروبا.
أدى ذلك في الأغلب إلى صعوبة وصول الرواية الروسية أو الرواية المحايدة للمستخدمين بما في ذلك في دول تعتبر محايدة؛ لأن خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي التي أغلبها أمريكية، هي التي تحدد معايير القراءة وليس القراء أنفسهم.
2- تصريحات نارية للمسؤولين الأمريكيين لترهيب الطرف الثالث
على المستوى الثاني، تتمثل الدعاية الأمريكية في تصريحات المسؤولين الأمريكيين ضد روسيا وآخرها وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن لنظيره الروسي بأنه "مجرم حرب".
وفي هذا الصدد تتسم تصريحات الدعاية الأمريكية بحماسة لم تُرَ لدى الأمريكيين منذ سنوات طويلة، وميل لتبسيط كل القضية عبر شيطنة الروس وتحويل الأوكرانيين إلى ملائكة.
تركز الدعاية الأمريكية على مهاجمة ما يمكن وصفهم بالأطراف الثالثة مثل الصين والهند، وغيرها من الأطراف التي يمكن أن تنحاز لروسيا أو على الأقل تتردد في انتقادها.
وباتت هناك حملة ترهيب رسمية أمريكية تستهدف الدول المحايدة في استعادة واضحة لمبدأ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بعد هجوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، وإشعاله حربي أفغانستان والعراق والتي قال فيها من ليس معنا فهو ضد.
كان أحد مظاهر هذا المستوى من الدعاية جلسة مجلس الأمن التي عقدت بسبب الهجوم الروسي على مفاعل تشيرنوبل والتي تحدث فيها المسؤولون الأمريكيون عن خطر يواجه العالم بسبب ما فعله الروس.
3- تسريبات تقدم كرواية رصينة
المستوى الثالث للدعاية الأمريكية، وهو مستوى ما وراء الستار أو مستوى المصادر التي لا تصرح عن نفسها، ويهدف هذا المستوى بالأساس لتقديم رواية تحاول أن تكون عقلانية ووسط بين الروايتين الأوكرانية والروسية للأحداث.
وأغلب هذه الروايات تتم عبر تسريبات من قبل مسؤولين في البنتاغون لصحف ووسائل إعلام غربية مرموقة، وتتسم هذه الرواية بالتركيز على التطورات العسكرية على الأرض وتقديم أرقام ومعلومات وتحليلات بديلة للروايتين الروسية والأوكرانية مع ميل للأخيرة، ولكن بشكل رصين نسبياً وبروح يبدو أنها تقدم نفسها أقرب للتحليل منها للموقف السياسي، وتظهر واضحة في إبداء الاستغراب من الارتباك الروسي، أو الصدمة الإيجابية من صلابة المقاومة الأوكرانية.
ويظهر ذلك في تقديرات مسؤولين بالبنتاغون عن قتلى الجيش الروسي والتي قدرت بما بين 2000 و4000 جندي روسي وهي أكثر بشكل كبير من التقديرات الروسية التي تتحدث عن أربعمئة، وتقل ولكن ليس بنفس المعدل عن التقديرات الأوكرانية التي كانت تدور في وقت صدور هذه التقديرات حول 7 قتلى روسيين.
يتمثل نجاح هذا المستوى من الدعاية في أن يخاطب الجمهور المحايد أو المؤيد لأوكرانيا ولكن ليس على استعداد لتصديق الرواية الأوكرانية ذات الطابع الأسطوري.
يتم استخدام هذا المستوى أيضاً ضد الأطراف الثالثة مثل التقرير الذي نشرته وسائل إعلام غربية عدة نقلاً عن مصادر أمريكية بأن روسيا طلبت معدات وأسلحة من الصين، والتلميح إلى استعداد بكين لدعمها، والإشارة لما قد يترتب على ذلك من عواقب على الصين، وهو الأمر الذي دفع الصين لنفي مرتبك، عبر سفارتها في واشنطن، حيث أكد المتحدث باسمها أنه لا علم له بهذه الأخبار، فيما تساءل معلق صيني محسوب على الحكومة لماذا تطلب دولة عملاقة لديها قاعدة صناعية وعسكرية ضخمة مثل روسيا المساعدة من الصين.
بصرف النظر عن صحة فحوى هذه التسريبات أم لا فإنها تمثل ضغطاً استباقيا على بكين لعدم تقديم أي دعم لموسكو في المعركة.
مشكلة الدعاية الأمريكية الرئيسية أنها استفزت لدى العديد من الشعوب في مقدمتها الدول العربية بشأن ازداوجية المعايير الغربية التي قلبت الدنيا على الغزو الروسي لأوكرانيا وتترك إسرائيل تعتدي وتحتل فلسطين لعقود دون حتى إدانة.
الدعاية الروسية: تضخيم المخاطر دون إدعاء البطولة
على الجانب الآخر، لا تقل الدعاية الروسية كثيراً في ميلها للمبالغة، عن الرواية الأوكرانية، وقد يتبين فيما بعد ميلها للاختلاق أم لا.
ولكن تركز الدعاية الروسية على مبررات الحرب أكثر من تقديم رواية تمجيدية للأداء الروسي في المعركة.
وفي هذا الإطار، يلاحظ أن الدعاية الروسية، بدأت منذ قبل ما الحرب في المبالغة في تصوير خطر أوكرانيا المحتمل للناتو، وكيف أنه يمثل خطراً وجودياً على روسيا الدولة المدججة بالأسلحة النووية، ويلاحظ أن هذه الرواية لاقت تصديقاً كبيراً خاصة في الدول غير الغربية.
ثم انتقلت للحديث عن معامل أسلحة بيولوجية مزعومة أقامتها الولايات المتحدة في أوكرانيا.
في المقابل، فإن الدعاية الروسية، لم تحقق نجاحاً كبيراً في تمجيد الأداء العسكري الروسي في الحرب، واتسم الخطاب الرسمي بالبيروقراطية والنزعة الدفاعية التي تهدف إلى تبرئه الذات أمام الاتهامات الأوكرانية والغربية.
جزء من ذلك قد يعود للأداء المرتبك بالفعل للجيش الروسي على الأرض، وجزء منه نتيجة للأداء الإعلامي الروسي المرتبك الذي يبدو مستغرباً في ضوء نجاحات الدعاية الروسية للجيش الروسي والأسلحة الروسية خلال السنوات الماضية.
وقد يكون أحد أسباب الأداء الروسي الإعلامي المرتبك هو حالة التجييش الغربي ضد موسكو لأن الهجوم الروسي أشعر الأوروبيون أن الحرب تدور على أبوابهم وليس في الشرق الأوسط البعيد كما حدث في سوريا.
ولكن يظل السبب الأقوى لضعف أداء الدعاية الروسية، هو الحصار الإعلامي الغربي وخاصة دور مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الغربية في نبذ الرواية الروسية للأحداث بما في ذلك المعارك العسكرية الذي تداخل مع ميل الجيش الروسي التقليدي للتحفظ.
ولكن رغم أن الروس يبدو أنهم قد هُزموا في معركة الإعلام، فإن الأمر ليس بهذه البساطة، فلقد هُزمت الدعاية الروسية بشكل كبير في الدول الغربية التي هي أصلاً بحكم السياسة والجغرافيا والتاريخ تقف داعمة لأوكرانيا بشكل كامل.
في المقابل، فإن الرواية الروسية وبالأخص فيما يتعلق بمبررات الحرب يعتقد أنها أقنعت قطاعاً لا بأس به من الرأي العالم الروسي في ظل غياب الحريات الإعلامية بالبلاد، كما أنه في خارج الغرب تجد الدعاية الروسية بشأن مبررات الحرب تحديداً صدى لدى الرأي العام في العديد من الدول مثل بعض الدول العربية والآسيوية والتي هي تقليدياً لا تثق في الإعلام الغربي ولا الرواية الغربية، وعادة تتخذ مواقف مناهضة للغرب، وبالتالي هي بيئة مستعدة لتأييد الرواية الروسية، مما يجعلها مكسباً مضموناً للدعاية الروسية أكثر منها نجاحاً لها.