درس تاريخي أُخذ من دولة عربية تعلمه الجيش الأوكراني بعملياته العسكرية في مواجهة التفوق الساحق لقدرات الجيش الروسي، وعلى الأرجح أن الأمريكيين هم الذين لقّنوا الأوكرانيين هذا الدرس المهم.
فمن بين حروب النصف الثاني من القرن العشرين ثمة حرب بعينها قدمت درساً لا ينسى لشكل الحرب بين قوة متوسطة وقوة عظمى.. إنها حرب الخليج الثانية أو حرب تحرير الكويت.
كيف هزمت أمريكا رابع أقوى جيش في العالم بدون أن تتكبد خسائر كبيرة
فقبل هذه الحرب كان الجيش العراقي يوصف بأنه رابع أقوى وأكبر جيش في العالم بعد جيوش الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين، ولكن هذا الجيش تعرض لهزيمة كبيرة وغير متوقعة في فداحتها أمام تحالف القوى الدولية الذي تقوده الولايات المتحدة، التي تكبدت خسائر محدودة نسبياً.
في هذه الحرب دخل العراق تحت قيادة صدام حسين بجيش ضخم كان يفترض أنه متمرس في القتال بعد حرب استمرت ثماني سنوات مع إيران، وكان عدد أفراد الجيش العراقي وعدد أسلحته أكبر من الجيش الأمريكي والقوى المتحالفة معه باستثناء الطيران.
وتتفاوت التقديرات قبل هذه الحرب، حول حجم الجيش العراق، ولكن التقديرات ذات الحدود العليا تشير إلى أن الجيش العراقي كان قادراً على نشر مليون رجل و850 ألف احتياطي و5500 دبابة و3000 قطعة مدفعية و700 طائرة مقاتلة وطائرة هليكوبتر، وكان يضم 53 فرقة، و20 لواء من القوات الخاصة، والعديد من المليشيات الإقليمية، وكان لديه دفاع جوي قوي، بحسب مايكل نايتس (Michael Andrew Knights).
وشكّل الحرس الجمهوري نخبة القوات العراقية، التي أظهرت قدرات جيدة خلال الحرب العراقية الإيرانية.
بلغ عدد القوات العراقية في الكويت وجنوب البصرة 750 ألف مقاتل، ضمنها جيش الحرس الجمهوري (كانت هناك قوات مخصصة للجبهات الإيرانية والكردية والتركية).
ولكن الجيش العراقي المتحصن في مواقعه بالكويت وجنوب العراق، حارب بشكل تقليدي، حيث اصطفت قواته في تشكيلات متوالية ومتحصنة؛ على أمل التصدي للهجمات الأمريكية، بطريقة القتال بالعمق أي استيعاب صفوف القوات لهجمات العدو بحيث لو نجح في المرور عبر خط ينتقل منهكاً للذي يليه، مما يزيد فرص هزيمته.
في المقابل، نفذت أمريكا وحلفاؤها حملة قصف جوي مكثفة استمرت نحو 40 يوماً، أدت إلى تدمير خطوط إمداد الجيش العراق، ومراكز قيادته، وقطعت أوصاله وألحقت خسائر مادية ومعنوية كبيرة بقواته.
وفشل الطيران العراقي الأقل في القدرة والعدد في التصدي لحملة القصف الجوي التي نفذها طيران التحالف المتفوق، والذي قام بعد قطع خطوط إمداد الجيش العراقي، بالالتفاف عبر صحراء الغربية حول الجيش العراقي ثم إلحاق خسائر كبيرة بالمدرعات العراقية الكثيرة العدد عبر طائرات إيه 10 المتخصصة في تدمير المدرعات والمروحيات مثل الأباتشي الشهيرة.
ثم تقدمت القوات الأمريكية لتلتف حول القوات العراقية في الكويت وجنوب العراق، وخاضت معارك مباشرة مع القوات العراقية محطمة الأوصال، أظهرت فيها الدبابات الأمريكية والغربية تفوقاً ملحوظاً على الدبابات العراقية السوفييتية الصنع التي كانت أقل في مدى المدفعية والرؤية.
طريقة الجيش العراقي التقليدية في محاولة التصدي للهجوم الأمريكي عبر الدفاع الثابت والمعارك المفتوحة، أتاحت للجيش الأمريكي المتفوق في قوة النيران ودقتها وقدرته على المناورة، فرصة لتدمير القدرات العراقية رغم ضخامتها في معارك كان الجيش العراقي فيها متحصناً في خنادقه، أو يحارب في صحراء مفتوحة، بينما الأمريكيون يتحركون لتطويقه وقطع خطوط إمداداته وتدمير أسلحته.
وزاد الطين بلة بالطابع المركزي للجيش العراقي، والذي كان معناه أن تدمير مراكز قياداته وخطوط تموينه، يؤدي إلى انهيار وحداته سواء بسبب تعرضها لخسائر كبيرة حتى لو لم تدمر بالكامل أو نتيجة حتى لنقص الإمدادات أو حدوث انقطاع في سلسلة الأوامر وقدرات السيطرة المركزية، كل ذلك تفاقمت آثاره بطول فترة القصف وظهور تداعيات منع الإمدادات عن الجنود لفترة طويلة.
والأهم أن المعارك المفتوحة أو معارك التحصينات التي اضطر الجيش العراقي لخوضها، كانت تعني أن الأسلحة العراقية الأقصر في المدى لم تجد فرصة للاشتباك القريب مع الأسلحة الأمريكية الأكثر دقة والأبعد مدى.
وخسر العراق نحو 4 آلاف دبابة، و240 طائرة، ودُمرت دفاعاته الجوية وقواعد إطلاق صواريخه وسفنه الحربية بالخليج، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
كما قد دمر القصف الجوي الغربي المرافق العراقية مثل المدارس والجامعات، ومراكز الاتصالات، ومنشآت تكرير وتوزيع النفط والموانئ، والجسور والسكك الحديدية، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وتصفية المياه، وأعاد العراق الذي كان واحداً من أكثر الدول العربية تقدماً وثراءً للعصور الوسطى.
قادة عراقيون اعترضوا على أسلوب صدام في الحرب
تجدر الإشارة إلى أن هناك مؤشرات على أنه داخل الجيش العراقي كان هناك اعتراض على فكرة خوض المعركة بالطريقة التقليدية أي الاعتماد على استراتيجية الحرب البرية تجاه استراتيجية الحرب الجوية البرية ذات المناورة العميقة التي تعتمدها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والتي تعني أن ذروة الهجوم المعادي ستكون خارج ذروة الدفاعات العراقية، حيث تعتمد العقيدة العسكرية الأمريكية على إنهاك وتثبيت القوات المدافعة بسلسلة طويلة من عمليات القصف الاستراتيجي والتكتيكي لتحديد حرية حركتها وإطلاق حرية العمل لنفسها، لما يمتلكه الجيش الأمريكي من قابلية عالية للحركة حول محيط الدفاعات العراقية وبإسناد جوي كبير تشكل الهليكوبترات المقاتلة جزءاً مهماً منه يجمع ما بين قابلية الحركة والقوة النارية، حسبما ورد في دراسة أعدها أحد المشاركين في هذه الحرب ونشرت بموقع الجيش اللبناني.
وعليه رأى المعترضون أنه ينبغي الطلب من القيادة العراقية العليا إعادة تقييم أهدافها العملياتية والتنازل عن نشر القوات بالصحراء المترامية الأطراف في الكويت وجنوب العراق والتركيز على حرمان التحالف الدولي من قدرته على الإحاطة بساحة العمليات من الجانب الغربي نحو جنوب العراق (وهذا ما فعله الأمريكيون بالفعل)، والتركيز على جزيرتي وربة وبوبيان الكويتيتين والقسم الشمالي (حقول النفط)،
وتم اقتراح إجبار التحالف الأمريكي على خوض سلسلة من معارك المدن منها في العاصمة الكويتية والجهراء، مع تدمير كافة المطارات والقواعد الجوية والاعتماد على القوات الخاصة والمشاة لخوض مثل هذه المعارك، أما المدرعات فينبغي أن تدافع في العمق وبمجموعات صغيرة؛ للحيلولة دون أن تصبح أهدافاً سهلة للضربات الجوية الغربية مع ضرورة تأمين دفاعات بالعمق العراقي على مستوى الألوية ما بين شط العرب شرقاً حتى قاعدة (علي بن أبي طالب) في جنوب الناصرية غرباً؛ لإحباط أية محاولة تطويق معادية مدرعة بالتعاون مع القوات المحمولة جواً للفيلق 18 الأمريكي.
وكان هذا المقترح أكثر وجاهة في ظل واقع أن الاقتراب غير المباشر جزء أساسي من عقيدة الجيش الأمريكي والتي تقوم على أن التفتيت لمنظومة الدفاعات أسبقية استراتيجية في قواعد العمل المعتمدة لديهم، بدلاً من الاشتباك المباشر.
ولكن هذه الملاحظات اعتبرت غير مقبولة من القيادة العراقية.
صدمة في بكين لأن الجيش العراقي كان أكثر تطوراً من نظيره الصيني
خاضت أمريكا هذه الحرب وهي خارجة لتوها من الحرب الباردة التي أعدت لها أسلحة مخصصة لمواجهة الجيوش السوفييتية الضخمة في أوروبا والتي كانت لديها أعداد مدرعات أكبر من الجيش العراقي (والجيوش الغربية أيضاََ)، وأكثر تقدماً من المدرعات العراقية ولكنها تظل متخلفة مقارنة بالمدرعات الأمريكية.
وفي مواجهة التفوق السوفييتي العددي، فإن أمريكا ركزت على حرب الأسلحة المشتركة والتفوق الجوي عبر الطائرات المقاتلة والطائرات أإيه 10 والمروحيات المخصصة لتدمير أعداد كبيرة من الدبابات.
ومثلت هذه الحرب درساً قاسياً للجيوش المشابهة للجيش السوفييتي مثل الجيش الصيني، الذي كان الجيش العراقي يمتلك أسلحة، لاسيما مدرعات أكثر تطوراً منه ولا تختلف عنه كثيراً من حيث العدد.
وتبين للجيش الصيني أن أعداد جنوده الضخمة لن تغني شيئاً أمام التفوق الجوي الأمريكي، وكذلك أمام المدرعات الأمريكية الأكثر تدريعاً والأطول في مدى مدافعها مقارنة بدباباته كثيرة العديد ضعيفة الحماية على النمط السوفييتي.
واكتشف القادة العسكريون الصينيون أن الدبابات العراقية السوفييتية من طراز تي-72 والتي هي أكثر تطوراً بكثير من الدبابات الصينية المستنسخة من طرز سوفييتية أقدم، لم تشكل أية تهديدات للجيش الأمريكي
ودفع ذلك الصين إلى تغيير فلسفتها في الدبابات لتصبح أثقل وأكبر تدريعاً على النمط الغربي، وكذلك محاولة تطوير أساليب لحرب الأسلحة المشتركة والتعامل مع التفوق الغربي المنتظر في أي معركة مع واشنطن.
فدائيو صدام يحققون نجاحاً جزئياً في الحرب غير المتكافئة
وفي الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حدث أمر مماثل، وكان العراق أضعف بعد تدمير الجزء الأكبر من قواته في 1991، إضافة للحصار الطويل، ولكن يلاحظ أن أداء ميليشيات قوات فدائيي صدام كان أفضل من الجيش العراقي التقليدي، لأنها خاضت شكلاً من أشكال الحرب غير المتماثلة، حيث ركزت على مهاجمة خطوط إمداد الأمريكيين المتجهين لبغداد، إلى جانب استغلال المدن في تنفيذ هجمات ضد القوات الأمريكية.
وكان واضحاً ذلك أيضاً في الصمود اللافت لقوات عراقية صغيرة بمدينة أم القصر القريبة من الحدود الكويتية السعودية، ويؤشر ذلك إلى أن الجيوش الضعيفة فرصتها تكون أفضل في حال استغلالها لحرب المدن أو الحرب غير التقليدية مثل تنفيذ هجمات على خطوط العدو المتفوق الخلفية وليس جبهات قواته المتفوقة.
يبدو أن هذا الدرس القاسي نقله الأمريكيون إلى الجيش الأوكراني
وهذا ما يبدو الدرس الذي تعلمه الجيش الأوكراني في الحرب مع روسيا أو الدرس الذي تلقاه من حلفائه الأمريكيين.
يظهر ذلك في نوعية الأسلحة التي يقدمها الغرب إلى الجيش الأوكراني، فلم نسمع عن توريد دبابات أو مدفعية أو طائرات أو مروحيات، بل إن واشنطن رفضت بشدةٍ لافتةٍ فكرة طرحها الاتحاد الأوروبي ثم بولندا لتزويد كييف بطائرات بولندية سوفييتية الصنع من طراز ميغ 29 وسوخوي، وفي الأغلب فإن الرفض الأمريكي لا يعود فقط إلى قلق واشنطن من استفزاز روسيا أو تورط الناتو في الصراع، بل أيضاً لأن المقاتلات التي لن تزيد أعدادها على العشرات لن تفعل شيئاً على الأرجح ضد القوات الجوية الروسية المتفوقة في العدد وفي القدرات بشكل ساحق.
ولكن في المقابل، فإن الأسلحة الغربية التي تورد بأعداد هائلة هي الصواريخ المحمولة على الكتف المضادة للدبابات مثل جافلين الأمريكية التي قدمت لكييف بالآلاف، وكذلك صواريخ ستينغر المضادة للطائرات المحمولة على الكتف.
وهي أسلحة ليست فعالة في مواجهة مفتوحة مع الجيش الروسي، لأن مداها ليس طويلاً، ويمكن لحمَلتها أن يتم رصدهم بسهولة من قبل الطيران الحربي الروسي، ولكنها أسلحة يمكن استخدامها من المناطق الوعرة أو السكنية التي يسهل فيها لجنود المشاه وقوات المشاه الاختباء والتحصن بها وتوجيه الأسلحة للمدرعات والطائرات الروسية مع احتمال لا بأس به بعدم الانكشاف.
ها هم الروس يدمرون أسلحة كييف الكبيرة ولكنهم لم يسيطروا إلا على مدينة واحدة
فبينما يمكن تدمير أنظمة الدفاع الجوي الكبيرة والمعقدة والأكثر فعالية ضد الطائرات عبر غارات جوية، فإن استهداف الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف أصعب، خاصة إذا كانت بالآلاف وموزعة على قوات منتشرة بالمدن كما يحدث الآن بأوكرانيا.
ولأن أوكرانيا دولة سهلية بالأساس، وأغلب جغرافيتها عبارة عن سهوب فسيحة تغطيها المراعي والمزارع، فإن الغابات الشمالية القريبة من كييف وخاركيف والمدن نفسها هي المنصة الأفضل، لإطلاق هذا النمط من الحرب غير المتماثلة، وهو ما ظهر فعلاً في توغل القوات الروسية بسهولة في شمال وجنوب البلاد، ولكن توقفها عند مداخل المدن حيث تتعثر أمام القوات الأوكرانية المتحصنة والمتحالفة مع المدنيين المتعاطفين ومع الميليشيات المحلية.
ولذا ليس غريباً أن ثاني أكبر جيش في العالم، لم يسيطر إلا على مدينة واحدة بشكل كامل هي خريصون، بينما مازال يتعثر على أبواب مدينة قريبة من حدود روسيا هي خاركيف ثاني مدن أوكرانيا سكاناً.
حرب عصابات جوية
ويضاف للأسلحة المضادة للدبابات والطائرات، عربات هامفي الخفيفة، وطائرات بيرقدار المسيرة التركية الصنع، والتي تمكن القوات الأوكرانية من خوض حرب غير متماثلة أو حرب عصابات جوية كما يصفها بعض المحللين، حيث إن الطائرات المسيرة أقل تعقيداً في عملية تشغيلها من الطائرات المقاتلة العادية التي يمكن تحييدها عبر ضرب مراكز القيادة والمطارات وأنظمة الرادارات ومخازن الأسلحة.
والنتيجة رغم إعلان روسيا الصحيح في الأغلب عن تدمير أغلب مطارات أوكرانيا وقواعدها العسكرية وأنظمة دفاعها الجوي، فإن لا مركزية الجيش الأوكراني (وهو أمر تم بنصيحة الأمريكيين في الأغلب)، وانتشار الأسلحة الخفيفة والطائرات المسيرة بين يديه، خاصة في المدن، تعنيان أن تدمير البنية المركزية للجيش الأوكراني لا يعني وقف قدرته على المقاومة في مداخل المدن، وكذلك قيامه باستهداف الوحدات الروسية المعزولة بخطوط الروس الخلفية وطرق إمداداته وهو الجيش الذي يعاني تاريخياً من مشاكل في اللوجيستيات والإمدادات، وقد أبلغ عن مشكلات كبيرة للروس في الإمدادات تحديداً.
ويزيد الطين بلة بالنسبة للروس أن جيشهم معروف بالمركزية وقلة الديناميكية والمرونة في اتخاذ القرار، ويٌعتقد أن لديه نخبة عسكرية رفيعة المستوى تتسم بالمبادرة، ولكن قوام الجيش الروسي يعتقد أنه مازال يعاني من الطابع البيروقراطي والمترهل المورث عن روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي.
ومع اتساع مساحة أوكرانيا وتعدد بؤر القتال وانتشار الجيش الروسي على طول شمال وشرق وجنوب البلاد، تتفتت وحداته في معارك جزئية عند مداخل المدن، يصبح فيها للجيش الأوكراني باعتباره صاحب الأرض وأقل مركزية ميزة نسبية، تسمح بمساحة للارتجال، عكس الجيش الروسي المركزي، الذي يركز بحكم عقيدته العسكرية على تدمير القوام الرئيسي للجيش الأوكراني وقدراته المركزية التي هي بالأصل ليست محور عمل قوات كييف.
خياران أمام الروس.. ستالينغراد أو حلب
وفي مواجهة أسلوب الجيش الأوكراني، يبدو أمام الروس خياران: أحدهما مُر لهم والآخر مُر للأوكرانيين.
الأول هو محاولة دخول المدن والعمل على تطهيرها من المقاومة الأوكرانية بيتاً بيتاً كما حاول الجيش الألماني النازي في ستالينغراد الروسية خلال الحرب العالمية الثانية وفشل، وهو خيار قد يؤدي لخسائر بشرية كبيرة للروس، خاصةً أن المدن تحارب بجانب المدافعين عادةً الذين يعرفون أزقتها، كما أن مبانيها تُحيد التفوق العسكري والعددي للروس، فكمائن الصواريخ المحمولة على الكتف المنطلقة من المباني شراك خطيرة للدبابات، وحتى الطائرات المروحية.
أما الخيار الثاني، وهو خيار سبق أن نفذه الروس في غروزني بحرب الشيشان الثانية، وحلب في الحرب السورية ضد المعارضة، فهو تدمير المدن عن بكرة أبيها وسحق المقاومة عبر سحق المدن ذاتها، وهو خيار لم يلجأ إليه الروس حتى الآن، رغم محاولة الدعاية الأوكرانية والغربية اتهامهم بذلك.
وهذا الخيار ليس سهلاً من الناحية العسكرية في بلد ليس صغيراً مثل أوكرانيا، عدد سكانه يبلغ نحو 40 مليوناً، ولديه عدة مدن مليونية مثل كييف وخاركيف وأوديسا (ثالث مدن البلاد)، ويعني هذا أن الجيش الروسي عليه أن يخوض عشرات المعارك مثل حلب وغروزني، وما قد يثيره ذلك من مزيد من غضب الرأي العام الغربي الذي اشتعل أصلاً دون مذبحة تذكر أو صورة خراب واسع النطاق كالذي شهدته حلب أو غروزني.
وقد يبدد هذا الخيار رهان الروس على تعاطف جزء من فئات الشعب الأوكراني الناطقة بالروسية حتى لو كان تعاطفاً لاحقاً، وهو أمر قد يعقد خطط الروس المحتملة سواء لضم أجزاء من أوكرانيا أو تحويلها لدولة محايدة كما يقولون، كما أن تصاعد الغضب الشعبي الغربي ضد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، من شأنه دعم أي خطط لتعزيز العقوبات الغربية على روسيا وتصليب الرأي العام الغربي ضد أية تداعيات اقتصادية محتملة لهذه الحرب.
وفي الوقت ذاته، فإن إجلاء الأطفال والعجائز والنساء واستمرار تدفق السلاح الغربي على غرب أوكرانيا، يعنيان إمكانية إتاحة الفرصة للجيش الأوكراني والمقاومين لمواصلة مواجهة الروس في حرب مدن مكلفة، حتى لو سقطت كييف، لأن الأداء اللامركزي للجيش الأوكراني وما يظهر من دعم شعبي له وتسليح المدنيين والجماعات القومية المناهضة للروس والدعم الغربي العسكري والإعلامي قد يؤشر إلى إمكانية استمرار المقاومة الأوكرانية حتى لو تم تدمير قيادة الجيش الأوكراني.
وتظهر تجربة هجوم الأمريكيين على الفلوجة وتطهير الجيش العراقي والحشد الشعبي للموصل من مسلحي داعش، أنه في حال إصرار المتحصنين بالمدن على المقاومة فإن الأمر قد يستلزم تدمير المدن بأكملها تقريباً على رؤوس ساكنيها لكي يمكن إعلان الانتصار.