خاركيف ثاني أكبر مدن أوكرانيا تعيش تحت حصار شبه كامل منذ بداية الهجوم الروسي، فلماذا يعتبر سقوطها بأيدي القوات الروسية مؤشراً على سقوط أوكرانيا بالكامل؟
ومع دخول الهجوم الروسي على أوكرانيا أسبوعه الثالث، أصبح واضحاً أن الحرب ستكون أطول مما توقع الكرملين، على الرغم من أن القوات الروسية باتت تحاصر العاصمة كييف وباقي المدن الأوكرانية، ومنها خاركيف، بينما لم يتمكن الجيش الروسي إلا من السيطرة على مدينة خيرسون.
وتعرضت روسيا لأكبر حملة عقوبات فرضها الغرب منذ بدء الهجوم على أوكرانيا، وطالت العقوبات الثروات الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين ودائرته المقربة من رجال الأعمال. وبدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا، هذه المرة، منذ أن أعلن فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحِدتها وشمولها مع بدء الهجوم، الخميس 24 فبراير/شباط.
ومع تواصُل الهجوم الروسي على أوكرانيا تزايدت بشكل متسارع، عزلة روسيا على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، ولا تزال القوات الروسية لم تحقق انتصاراً حاسماً وسريعاً كما كان يأمل الرئيس الروسي.
خاركيف الأوكرانية في سطور
كانت خاركيف في يوم من الأيام عاصمة أوكرانيا، وهي تقع إلى الشمال الشرقي من البلاد ولا تبتعد عن الحدود الروسية سوى أقل من 70 كم. وتضم خاركيف حدائق وكاتدرائيات ومتاحف ومسارح، فضلاً عن مصنع طائرات أنتونوف ومصنعي الدبابات والتوربينات.
وفي اليوم الأول من الهجوم الروسي على أوكرانيا، أظهرت صور الأقمار الصناعية طابوراً طويلاً من المدرعات والدبابات وحاملات الجند الروسية في طريقها إلى خاركيف، وبدا أن المدينة ستكون أولى المدن الأوكرانية التي تسيطر عليها القوات الروسية.
لكن خاركيف لا تزال تقاوم القوات الروسية رغم الحصار، وأظهر تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC الأجواء الصعبة داخل المدينة وأسرار تمسُّك القوات الأوكرانية فيها بمواقعهم رغم شراسة وكثافة القصف الروسي.
ونظراً إلى قرب خاركيف من الحدود مع روسيا، فإن القصف الليلي من قِبل المدفعية والطائرات الروسية يكاد لا يهدأ، وبدا الأسبوعان الماضيان كأنهما دهران، بحسب ضباط أوكرانيين تحدثوا لـ"بي بي سي".
والأحد 13 مارس/آذار، نقلت رويترز عن فاديم دينيسينكو، المسؤول في وزارة الداخلية الأوكرانية، قوله إن القوات المسلحة لبلاده تشنُّ هجومين مضادين على القوات الروسية في منطقتي ميكولايف بجنوب البلاد وخاركيف بشرقها.
وعندما سُئل في مقابلة مع التلفزيون الأوكراني عن إمكانية فرض القوات الروسية حصاراً على العاصمة كييف، قال دينيسينكو: "لا يوجد حصار حالياً، وهو ليس أمراً متوقعاً في المستقبل القريب". لكن رويترز لم تتمكن من التحقق من تصريحاته عن الهجومين المضادين.
كيف تبدو الأمور داخل خاركيف إذاً؟
الملازم يفغين غرومادسكي، البالغ من العمر 21 عاماً، تحدَّث مع "بي بي سي" من داخل أحد الخنادق المحفورة على امتداد خطوط الجبهة، وقال: "أُطلقت" رافعاً يده اليمنى، مشيراً من موقعه إلى القذائف التي أُطلقت من المواقع الروسية. وأضاف قائلاً: "قادمة" رافعاً يده اليسرى صوب القذائف الروسية التي انطلقت من مواقعها على بُعد 900 متر عبر الحقول المغطاة بالثلوج.
ويستمر القصف، على مدار الساعة، على حافة هذه القرية، فيما يواصل الملازم غرومادسكي مع كل تقرير: "أُطلقت، قادمة، أُطلقت، قادمة". ويصف القتال قائلاً: "مجموعات التخريب تراقب خطوطنا ولدينا معارك دبابات مباشرة، وهم يطلقون قذائف الهاون في البداية ثم تطلق الدبابات النار على مواقعنا".
ويقول الملازم أول غرومادسكي: "أحياناً يستخدمون هذا التكتيك، أولاً يرفعون علماً أبيض فوق معداتهم، ثم يقتربون من مواقعنا ويوهموننا بأنهم يريدون، وعندما نصعد لنأخذهم كأسرى حرب، يفتحون النار على قواتنا".
الصواريخ المضادة للدروع تتصدر المشهد
ويقول غرومادسكي، وهو يشير إلى كومة من صواريخ جافلين الأمريكية الصنع المضادة للدبابات مكتوب على غلافها (لوكهيد مارتن، تكساس): "لا تقلق، فنحن ندافع بشكل جيد".
وتمثل الصواريخ المضادة للدبابات والدروع عموماً وكذلك الطائرات، خصوصاً جافلين وستينغر الأمريكيتين، من أبرز الأسلحة التي يرسلها الغرب إلى أوكرانيا؛ لمساعدتها على التصدي للهجوم الروسي.
وبجانب الصواريخ الأمريكية، توجد كومة من صواريخ الجيل الثاني البريطانية الخفيفة المضادة للدبابات (إن إل إيه دابليو). ويؤكد مصنع "ساب" الذي ينتج هذه الصواريخ في موقعه على الإنترنت أنها "تدمر حتى الدبابات الأكثر تقدماً".
ويقول غرومادسكي، الذي يرتدي حذاءً رياضياً أبيض اللون من طراز بوما فيما يلعب جِروان حول قدميه في أجواء قارسة البرودة: "عليك أن تكون سريعاً هنا". ويبتكر الأوكرانيون في هذه الحرب فقد تعرضت حكومتهم لانتقادات؛ لكونها لم تكن مستعدة، والآن هناك عجلة في دفع الرجال إلى الجبهة. ويجري دمج الجيش النظامي مع قوات الدفاع المدني.
وعند نقطة تجمُّع على الحافة الشرقية للمدينة، تصل حافلات محملة بمئات الجنود المجهزين حديثاً، ويسأل أحدهم: "أين درعي الواقية من الرصاص؟"، فيصرخ أحد الضباط: "ستحصل عليها في الجبهة"، وبعد لحظات ذهبوا، بحسب "بي بي سي".
ينضم البعض منهم إلى وحدة الملازم غرومادسكي ويعملون جنباً إلى جنب مع طبيب يُدعى ريبر. سأل ريبر: "لقد سمعت عن حاصد الأرواح، أليس كذلك؟". إنه أيضاً قائد هذا الخط الدفاعي على حافة القرية التي دمر القصف الروسي العديد من منازلها.
أسأل كيف يقاتل الروس. يقول ريبر: "إنهم يقاتلون مثل الحيوانات الغبية، فهم يقاتلون مثل عام 1941، حيث إنه ليست لديهم القدرة على المناورة، لقد جاءوا فقط إلى الجبهة وهذا كل شيء. لديهم أعداد غفيرة، وكثير من الدبابات، وكثير من المركبات، لكننا نقاتل من أجل أرضنا وحماية عائلاتنا، لا يهم كيف يقاتلون، لأننا نقاتل مثل الأُسود ولن ينتصروا".
لماذا خاركيف تحديداً بهذه الأهمية؟
لكن على الرغم من شجاعتهم في الخطوط الأمامية، هناك اعتراف بأن قدرة الأوكرانيين على الأرض لن تكون كافية للتصدي للقوات الروسية، والعسكريون يقولون إنهم بحاجة إلى دفاع جوي ومنطقة حظر طيران.
لكن الولايات المتحدة وباقي الدول الأعضاء في حلف الناتو يرفضون فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا أو إرسال طائرات عسكرية؛ خشية أن يؤدي ذلك إلى مواجهة عسكرية مع روسيا.
ودخلت عربة مصفحة أخرى، كانت قبل أسبوعين تقوم بتجميع النقود من بنوك المدينة، وقد تم الآن وضعها أيضاً في المجهود الحربي. وفي مجمع سكني من العصر السوفييتي، ظهر يوغين، المُلقب بالفايكنغ العظيم، وهو رجل ذو لحية برتقالية ويضع الكثير من الوشم.
يوغين، البالغ من العمر 36 عاماً، قال لـ"بي بي سي": "إذا سقطت خاركيف، فسوف تسقط كل أوكرانيا". ولم يُمثل الهجوم الروسي مفاجأة في خاركيف. ويقول يوغين: "نعلم منذ عام 2014 أنهم سيأتون، ربما في غضون عام أو 10 سنوات أو ألف عام، لكننا علمنا أنهم سيأتون".
وفي الساعة الـ04:55 من فجر يوم 24 فبراير/شباط الماضي، تلقى يوغين مكالمة من صديق تفيد بأن الهجوم على وشك البدء. ويقول: "ثم سمعت الصواريخ تنهال على مدينتنا"، مثل أي شخص آخر غادرت المنزل منذ ذلك الحين.
والفارق بين الجبهة في خاركيف ووسط المدينة يشبه الفارق بين عالم وعالم آخر، إذ أدى القصف الروسي الذي لا هوادة فيه، إلى فرار معظم السكان البالغ عددهم 1.5 مليون نسمة، ونجا عدد قليل من الأحياء من الضرر.
ولا يزال من الممكن رؤية قوائم الانتظار في الصيدليات والبنوك والمتاجر الكبيرة ومحطات الوقود، فهناك جهد لوجيستي وإنساني ضخم يجري وراء الكواليس للحفاظ على خاركيف حية، خصوصاً قبل أن يبدأ حظر التجول المفروض على المدينة من 7 مساء لمدة 12 ساعة.
وحتى ما يقرب من نهاية الأسبوع الثالث لا تزال القوات الروسية تتقدم عبر شرق وجنوب أوكرانيا، ويواجه الجيش الروسي مقاومة أكثر شراسة مما كان متوقعاً، لكن المدن الأوكرانية تستمر في السقوط.
ويمثل سقوط خاركيف تحديداً قيمة رمزية وعسكرية ضخمة بالنسبة للقوات الروسية، لأن ذلك يعني حصار القوات الأوكرانية الموجودة في إقليم دونباس بشكل كامل. فالقوات الانفصالية في منطقتي دونيتسك ولوغانسك ستكون في جهة والقوات الروسية في خاركيف من جهة والقوات القادمة من شبه جزيرة القرم من جهة مدينة ماريوبول المحاصرة هي الأخرى.
وحالياً يوجد أكثر من 30 ألف جندي أوكراني في إقليم دونباس سيصبحون معزولين تماماً عن باقي الأراضي الأوكرانية في حالة سقوط خاركيف تحت سيطرة القوات الروسية، وهو ما يعني أن تلك القوات ستصبح بمثابة الرهينة لدى الروس.
وقد نشرت صحيفة Washington Post الأمريكية تقريراً عنوانه: "لماذا أصبحت خاركيف ساحة المعركة الرئيسية في أوكرانيا؟"، رصد تلك الأسباب التي جعلت من خاركيف تحديداً بؤرة الصراع الرئيسية في الوقت الحالي بالنسبة للروس، ربما أكثر من كييف العاصمة نفسها.