فتحت محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تحقيقات في الهجوم الروسي على أوكرانيا، يواجه خلالها الرئيس فلاديمير بوتين اتهامات بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية بحق الأوكرانيين، فماذا يقول القانون الدولي؟
ويشهد العالم حالة لافتة من التضامن مع أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي على أراضيها، المسمى غزوا من جانب كييف والغرب وعملية عسكرية خاصة من جانب موسكو. إذ تم فرض عقوبات اقتصادية كاسحة على روسيا وإقفال الأجواء الغربية أمام الطائرات الروسية وحرمان الأندية والمنتخبات الرياضية وحتى الحكام الروس من المشاركة في أي مسابقات تنظمها الاتحادات الدولية والأوروبية في مختلف الألعاب الرياضية من كرة القدم وحتى الجودو.
وخلال 12 يوماً، منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط، وجدت روسيا نفسها في حالة من العزلة على جميع المستويات، وفتحت محكمة العدل الدولية في لاهاي تحقيقاً في دعوى تقدمت بها أوكرانيا، بينما فتح محقق المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات بحق مسؤولين روس، بينهم بوتين نفسه، متهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية في أوكرانيا.
تحقيقات بدأت بالفعل في اتهامات بجرائم إبادة جماعية
تقدمت أوكرانيا بدعوى إلى محكمة العدل الدولية تطلب من خلالها تصنيف الهجوم الروسي كجريمة إبادة جماعية. وتقدمت روسيا أيضاً بدعوى أمام نفس المحكمة تتهم القوات الأوكرانية بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الأقلية الروسية في الأقاليم الشرقية كإقليم دونباس.
الدعوى التي تقدمت بها أوكرانيا أمام محكمة العدل الدولية تستند على "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1948، وعلى أساسها تم إنشاء المحكمة.
لكن روسيا تنفي ادعاءات أوكرانيا ويعترض فريق الدفاع عن موسكو على اختصاص المحكمة، على أساس أن روسيا لم تنفذ أي إبادة جماعية، وبالتالي ليست هناك جريمة للمحاكمة عليها ولا اختصاص للمحكمة، وبناء عليه يجب رد دعوى أوكرانيا، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
لكن القاعدة الرئيسية في عمل محكمة العدل الدولية هي حتمية إجماع الأطراف، أي الدول المتنازعة، على الاعتراف باختصاص المحكمة للنظر في الدعوى، وبما أن روسيا والولايات المتحدة أيضاً لا تعترفان بالاختصاص العام للمحكمة، فإنه على الأرجح لن تؤدي تلك الدعوى إلى نتيجة ملموسة في نهاية المطاف.
إذ تصر موسكو وواشنطن على أن توافق أي منهما أولاً في كل حالة دعوى على اختصاص المحكمة من عدمه، بحسب ما قاله البروفيسور كاي أمبوس، خبير قانون العقوبات الدولي، لدويتش فيله. وبناء على تلك المعطيات، ليس من المتوقع أن تؤدي جلسات الاستماع، التي بدأت بالفعل وقاطعت روسيا أولى جلساتها، إلى نتائج ملموسة لصالح أوكرانيا التي تعرضت للهجوم.
وقاطعت روسيا جلسات انطلقت الإثنين 7 مارس/آذار في محكمة العدل الدولية وتسعى أوكرانيا خلالها لإصدار أمر طارئ لوقف الأعمال القتالية دافعة بأن موسكو طبقت على نحو خاطئ قانون الإبادة الجماعية في تبرير غزوها.
وبدأت الجلسات دون تمثيل قانوني للجانب الروسي، وقالت محكمة العدل الدولية إنها تأسف لعدم حضور روسيا، ولم يرد متحدث باسم السفارة الروسية في هولندا على طلب رويترز للحصول على تعليق.
وكان بوتين قد قال إن بلاده تنفذ "عملية عسكرية خاصة" مطلوبة "لحماية من تعرضوا للتنمر والإبادة الجماعية" في إشارة لمن لغتهم الأم أو لغتهم الوحيدة هي الروسية في شرق أوكرانيا. وترد الدعوى التي رفعتها أوكرانيا على ذلك بأن زعم وجود إبادة جماعية غير حقيقي ولا يقدم على أي حال مبرراً قانونياً للغزو.
وتتركز القضية حول تفسير معاهدة 1948 الخاصة بمنع الإبادة الجماعية. وروسيا وأوكرانيا من الدول الموقعة على تلك المعاهدة والتي تسمى محكمة العدل الدولية على أنها جهة فض النزاعات بين الدول الموقعة، لكن روسيا – بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن ترفض الاعتراف المسبق باختصاص المحكمة وتشترط أن توافق أولاً على اختصاصها في كل حالة على حدة، وبالطبع ليس متوقعاً أن توافق على دعوى موجهة ضدها.
لكن على أية حال، قالت المحكمة إنها ستعلن "بأسرع ما يمكن" قرارها بشأن الدعوى الأوكرانية الهادفة إلى استصدار حكم عاجل بأن توقف موسكو عملياتها الحربية في أراضيها فوراً، وذلك بعد أن اختتمت جلساتها سريعاً رغم الغياب الروسي ورغم أن الجلسات كان من المفترض أن تستمر يومين.
ماذا عن بوتين والاتهامات التي يواجهها؟
لكن إذا كانت محكمة العدل الدولية تختص بالنزاعات بين الدول ولا تصدر أحكاماً قضائية بطبيعة الحال، فإن الوضع مختلف تماماً عندما يتعلق الأمر بالمحكمة الجنائية الدولية، فهذه المحكمة، كما يشير اسمها، تصدر أحكاماً جنائية بحق أفراد. وفتحت المحكمة الجنائية الدولية بالفعل تحقيقاً بشأن مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية في أوكرانيا.
والخميس 3 مارس/آذار بدأ المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية التحقيق فيما إذا كان فلاديمير بوتين أو غيره من كبار قادة الكرملين مسؤولين عن جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية محتملة في أوكرانيا.
ومنذ تأسيسها عام 1997 بموجب ميثاق روما، الذي ضم 123 دولة ليس من بينها لا روسيا ولا أوكرانيا، تختص المحكمة بتطبيق القانون الدولي وتحديد ذنب ومسؤولية الأفراد خلال الحروب، وأعلن المدعي العام لدى المحكمة، كريم خان، أنه "متفائل جدا بأننا سنثبت بشكل ذي مصداقية أنه تم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا".
وفي مقابلة مع رويترز قال خان إن فريقاً غادر مقر المحكمة في لاهاي بالفعل متوجها إلى "منطقة أوكرانيا" الخميس لبدء تحقيق في جرائم حرب محتملة. مغادرة الفريق جاءت بعد ساعات قليلة من قول خان إنه سيبدأ جمع أدلة في إطار تحقيق رسمي فُتح بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط.
"شكلت فريقاً بالأمس، سيتجه أعضاؤه اليوم إلى المنطقة. فريق متقدم يضم محققين ومحامين من أولئك الذين لهم خبرة خاصة في هذا الشأن"، وأضاف خان أن مكتبه سيدرس احتمال ارتكاب كل أطراف النزاع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وعمليات إبادة جماعية، وهي الجرائم التي تختص بها المحكمة.
وروسيا وأوكرانيا ليستا ضمن أعضاء المحكمة الجنائية الدولية، كما لا تعترف موسكو بالمحكمة التي تأسست عام 1997 بموجب نظام روما الأساسي وافتُتحت في لاهاي عام 2002.
لكن أوكرانيا، ورغم أنها ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، فقد وقعت عام 2014 إعلاناً يمنح المحكمة اختصاص النظر في الجرائم الجسيمة المزعومة التي تُرتكب على أراضيها منذ عام 2014 فصاعداً بغض النظر عن جنسية مرتكبيها.
هل يمكن فعلاً أن يخضع بوتين للمحاكمة؟
تحاكم المحكمة الجنائية الدولية، التي تضم 123 دولة في عضويتها، الأفراد المسؤولين عن أسوأ الفظائع عندما تكون دولة ما غير قادرة أو غير راغبة في القيام بذلك. ويقول خان "قانون الحرب ما زال سارياً، ولدينا اختصاص واضح. هذا تذكير لكل الأطراف، لكل أطراف الصراع، بضرورة أن يتصرفوا وفقاً لقوانين الحرب".
ورداً على سؤال بخصوص الهجمات بقنابل عنقودية والقصف المدفعي للبلدات والمدن الأوكرانية قال خان: "أي جانب يستهدف بشكل مباشر مدنيين أو أهدافاً مدنية يرتكب جريمة بموجب نظام روما الأساسي وبموجب القانون الإنساني الدولي. الأمر واضح تماماً".
وسيعود التحقيق أيضاً إلى عام 2014 حين استولت روسيا على منطقة القرم الأوكرانية وبدأت تقديم دعم للانفصاليين المسلحين الذين يقاتلون قوات الحكومة الأوكرانية في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا.
وأشار التقرير السنوي للمدعي العام لسنة 2020، بناء على تحقيقات أولية، إلى ما يشتبه أنها جرائم حرب بينها قتل وتعذيب في شبه جزيرة القرم وهجمات على مدنيين وتعذيب وقتل واغتصاب في شرق أوكرانيا. وأوضح خان أنه إذا وجد أن جرائم حرب ارتُكبت في أوكرانيا، فإن مكتبه سيتتبع الأدلة في تسلسل القيادة حتى أعلى مستويات المناصب السياسية والعسكرية، وقال: "أي شخص يتورط في صراع عليه أن يدرك أنه ليس لديه رخصة لارتكاب جرائم".
وهذه هي المرة الأولى التي تسير فيها الأمور في مثل هذه الاتهامات بتلك السرعة، وهذا ما عبَّر عنه خبير قانون العقوبات الدولي في جامعة غوتينغن الألمانية، كاي أمبوس، بقوله لدويتش فيله إن ما يحدث "أمر غير معتاد. لم نرَ مثل هذا من قبل، فمنذ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، لم نرَ أن المدعي العام يتحرك دون إشراك مجلس الأمن الدولي!".
لكن عمل المدعي العام خان اكتسب زخماً كبيراً بحصوله على دعم رسمي من 38 دولة بقيادة بريطانيا، وترى وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، أنه من خلال ذلك يمكن إجراء تحقيقات شاملة فوراً، ولا حاجة لفحص ما يسمى "الدائرة التمهيدية" المكونة من ثلاثة قضاة.
وأضافت تروس أن التحقيق في "الأعمال البربرية لروسيا ضروري ويجب محاكمة المسؤولين عنها". ومن بين الدول الـ 38 التي تدعم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، ألمانيا وكل دول الاتحاد الأوروبي تقريباً بالإضافة إلى كندا ونيوزيلندا وكوستاريكا.
لكن أمبوس يرى أنه ستكون هناك مشكلة فيما يتعلق بالمحاكمة، وهي أن روسيا لم توقع على المعاهدة الخاصة بإنشاء المحكمة، أي نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وروسيا مثل الصين "عدو" لهذه المحكمة، يقول أمبوس للموقع الألماني، مضيفاً: "فقط الدول الموقعة على المعاهدة ملزمة بالتعاون مع المحكمة، وهذا لا يشمل روسيا". أوكرانيا أيضاً لم توقع على المعاهدة، لكنها أعلنت عن التزامها وقبولها بحكم قضاة المحكمة مهما كان.
لكن هناك عدة نقاط قانونية تجعل من مثول بوتين أمام المحكمة كمتهم بارتكاب جرائم حرب أو إبادة جماعية في أوكرانيا احتمالاً ضعيفاً للغاية، أولها أن روسيا لا تعترف بسلطة المحكمة الجنائية الدولية على المواطنين الروس بشكل عام، تماماً كما تفعل الولايات المتحدة في هذا الشأن. وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد أصدر مرسوماً يخص أيضاً المواطنين الإسرائيليين ويعفيهم من المثول أمام المحكمة، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
أما النقطة الثانية فهي تتعلق بكون روسيا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وهو ما يعطيها حق الفيتو، وبالتالي فإن اللجوء إلى مجلس الأمن لإعطاء المحكمة الجنائية الدولية السلطة للتحقيق في الاعتداءات الروسية المحتملة على المدنيين في أوكرانيا، على غرار ما حدث في حرب البوسنة، أمراً مستبعد أيضاً. وهذه "الإحالة" من مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية الدولية خطوة أساسية كان يمكن أن تفتح الباب أمام توجيه اتهامات لمسؤولين روس منهم بوتين.
أما السؤال الخاص ببوتين نفسه وهل يمكن أن يقف الرئيس الروسي أمام المحكمة كمتهم في حال السير في إجراءات المحاكمة؟ فيرى أمبوس أن "هذا ليس مستبعداً تماماً. لكن ليس من المحتمل أن يضطر السيد بوتين للمثول أمام المحكمة"، مضيفاً أن الحكام على غرار بوتين يموتون على الأغلب وهم في السلطة، ولذلك لن يُسلم للمحكمة.
والإمكانية الوحيدة لحدوث ذلك هي إسقاط بوتين بواسطة المعارضة، وحينها يمكن للحكومة الجديدة في موسكو أن تسلم الرئيس المخلوع للمحكمة في لاهاي. لكن حتى في هذه الحالة، التي تبدو غير مرجحة من الأصل، فإن تسليم بوتين ليس أمراً محسوماً كذلك.
ففي السودان، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً بالقبض على الرئيس السابق عمر البشير قبل سنوات وكان لا يزال في السلطة ولم يتم تسليمه. وكان ذلك على خلفية اتهام البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي في إقليم دارفور السوداني. لكن حتى بعد أن تم عزل البشير في أعقاب الثورة الشعبية التي أطاحت به عام 2019، ورغم موافقة السلطة الانتقالية الجديدة في البلاد على تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية، لم يتم ذلك حتى الآن وتفضل السلطات السودانية محاكمته على الأراضي السودانية.