بعد الخطوة الأخيرة التي اتخذها مجلس النواب الليبي بطبرق، بتنصيب حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، ورفض عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة، التنحي، تقف البلاد أمام خيارين كلاهما مر، فإما انقسام سياسي وجغرافي واقتصادي ثالث، أو حرب أهلية ثالثة أيضاً.
حيث تصاعدت وتيرة الاصطفافات، وكذلك التحركات العسكرية، خاصة بعد منح مجلس النواب في طبرق، التشكيلة الوزارية لباشاغا، الثقة، في مارس/آذار الجاري.
الانقسام السياسي
ورغم تسارع الأحداث والترقب الشديد لمصير الرجلين (الدبيبة/ باشاغا) فإنه إلى الآن هناك أطراف لم تُعرف مواقفها، ولم تحدد بعد موقعها بشكل أوضح "من مع من ضد من".
فأطراف الانقسام السياسي المتوقع في ليبيا لا يزالون يلتزمون الصمت، والمجلس الرئاسي، أولهم، رغم أنه انبثق عن ذات جولات الحوار في جنيف، والتي أفرزت حكومة الدبيبة، بل كان بشخوصه الثلاثة الرئيس (محمد المنفي) والنائبين (موسى الكوني وعبد الله اللافي) مع الدبيبة، في ذات القائمة المنتصرة الواصلة للحكم قبل عام.
ويأتي قبل ذلك فاعلية مجلس الدولة، الذي تتذبذب مواقفه، ففي حين أعلن في بيان رسمي في 24 فبراير/شباط المنصرم رفض التعديل الدستوري، بعد التصويت عليه، وتغيير السلطة التنفيذية الصادرين عن البرلمان، أوضح أن ذلك الرفض "لأن البرلمان خالف الاتفاق السياسي وروح التوافق بين المجلسين".
ما يعني تحول الأمور لصالح باشاغا، في حالة جرت صفقة توافق بين المجلسين، وهو ما طرح فعلاً في مبادرة للمستشارة الأممية بشأن ليبيا ستيفاني وليامز، الخميس، والتي نصت على البدء الفوري بإجراء مشاورات بين المجلسين لوضع أساس دستوري ينقل البلاد إلى الانتخابات في أقرب وقت.
وقبل أيام، اعتبر المشري، عبر منشور له على فيسبوك، التشكيلة الوزارية لباشاغا، "بمثابة إدخال للمعتدين إلى طرابلس من النافذة، بعد فشلهم في دخولهم بالقوة"، في إشارة إلى وجود عدد من الوزراء ممن لهم ولاء لخليفة حفتر، قائد قوات الشرق، الذي قاد هجوماً فاشلاً على العاصمة طرابلس في 2019.
لكن المشري، وخلال ذات المنشور، قال: "أتمنى على أخي وصديقي فتحي باشاغا، الذي كان له الدور الأبرز في الدفاع عن العاصمة، الانتباه لهذا الأمر جيداً".
الانقسام الاقتصادي
وفي حين أن مجلس الدولة والمجلس الرئاسي، الجسمين اللذين من الممكن أن يحددا معالم الانقسام كونهما أكبر الأجسام السياسية مقابل مجلس النواب في طبرق، هناك أجسام أخرى اقتصادية يحدد موقفها معالم الانقسام الاقتصادي في البلاد.
ومن بين أهم تلك المؤسسات المصرف المركزي، المنقسم بين غرب وشرق البلاد، والذي من المحتمل أن تُسهم خطوة مجلس النواب في طبرق في تجميد جهود توحيده، التي تقودها الأمم المتحدة.
ومع وجود مصرفين، قد ينحاز كل واحد لطرف، إلا أن المصرف الذي يعمل من طرابلس برئاسة الصديق الكبير، الأكثر فاعلية فهو المتحكم في إيرادات البلاد، واصطفافه لجانب أحد الرجلين (الدبيبة/ باشاغا) سيحدد من سيحكم البلاد فعلياً.
وتبقى أيضاً مؤسسة النفط في عداد المؤسسات مجهولة الصف، والتي من الممكن أن تحافظ على حيادها هي الأخرى، وربما تصطف مع الدبيبة، وترفض التعامل مع حكومة باشاغا، لا سيما أن رئيسها مصطفى صنع الله، لا تربطه أي علاقات أو تعامل مع مجلس النواب في طبرق، وهي أيضاً المؤسسة التي تُدخل الإيراد الرئيسي وشبه الوحيد لميزانية الدولة.
الانقسام الجغرافي
أما على صعيد الانقسام الجغرافي، فاصطف معظم غرب البلاد خلف الدبيبة، وخاصة طرابلس التي خرج الآلاف من سكانها دعماً للدبيبة، بينما أيد شرق البلاد حكومة باشاغا.
والانقسام الجغرافي لم يطل جغرافيا ليبيا (الأقاليم) كما كان الحال في انقسام السلطات عام 2014، حيث اصطف غرب البلاد مع حكومة الإنقاذ، بعدها حكومة الوفاق، بينما اصطف الشرق مع الحكومة المؤقتة "الموازية"، والتي تمركزت في شرق البلاد، بل انقسام اليوم وقع حتى داخل المدينة الواحدة.
فمدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) التي ينحدر منها الرجلان (الدبيبة وباشاغا) مثال لذلك، حيث انقسمت بين كيانات اجتماعية مؤيدة لاستمرار الدبيبة في الحكم، وبين نظائرها في ذات المدينة ممن يؤيد تولي باشاغا رئاسة الحكومة.
سيناريو الحرب
وتقف ليبيا أمام خيار الانقسام السياسي والاقتصادي والجغرافي، أو الخيار الآخر المتوقع هو نشوب حرب أهلية قد تأتي على ما تبقى من الدولة الواقعة في شمال إفريقيا، لا سيما أنها تعرضت في السابق لحربين أهليتين الأولى عام 2011، والثانية في 2019.
وما يجعل السيناريو الثاني أكثر قرباً هو الاصطفاف العسكري والتحركات المسلحة المصاحبة لقرار البرلمان الأخير، والتي كان أبرزها دخول تشكيلات مسلحة من مصراتة ومدن أخرى إلى طرابلس دعما للدبيبة.
كما أن بياناً مصوراً أصدره قبل أيام قيادات أقوى وأكبر التشكيلات المسلحة في غرب ليبيا بينهم غنيوة الككلي، رئيس جهاز دعم الاستقرار، أعلنوا فيه رفضهم لحكومة باشاغا، ودعمهم لبقاء الدبيبة.
وقبل ذلك وفور تكليف باشاغا، برئاسة الحكومة قبل أسبوعين، أعلنت 65 كتيبة وتشكيلاً مسلحاً في مصراتة، رفضها اختيار باشاغا، رئيساً للحكومة، بينما أصدرت في المقابل 118 كتيبة مسلحة بياناً أيدت فيه تولي باشاغا الحكومة.
وضمن ارتفاع التصعيد بلغة السلاح أيضاً أصدر الدبيبة، تعميماً بصفته وزيراً للدفاع، بالتعامل مع أي تشكيلات أو سيارات مسلحة تتحرك دون إذن مسبق من الوزارة.
وجاء ذلك بعد خطاب متلفز للدبيبة، أشار فيه لحفتر، قائلاً: "ما أسموه حكومة لن تعمل يوماً في الواقع ولن يكون لها مكان (…) إن من نشأ في الحرب لا يمكن إلا أن يعيش فيها ولا يعرف إلا لغة البارود والنار، وللأسف لا توقفه إلا الهزيمة العسكرية".
الانقسام تاريخياً
وحصل الانقسام الأول في تاريخ البلاد عام 2011 إثر ثورة شعبية اندلعت في فبراير/شباط من ذلك العام أدت إلى انقسام البلاد بين مؤسسات وقبائل وكيانات ناصرت نظام القذافي في غرب البلاد، وأخرى ضده عملت في شرق البلاد، واعترف بها المجتمع الدولي إلى أن أطيح بحكم العقيد في أكتوبر/تشرين الأول من ذات العام.
أما الانقسام الثاني فكان عام 2014 بعد إطلاق حفتر عملية "الكرامة"، وردت عليها كتائب من الغرب الليبي بإطلاق عملية عسكرية سُميت "فجر ليبيا"، أدت إلى انبثاق حكومتين؛ "الإنقاذ الوطني" في الغرب، و"المؤقتة" في الشرق، وانعكس فيها الانقسام على كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
أما الحروب الأهلية فأولها كانت تلك الحاصلة عام 2011 بين جيش العقيد معمر القذافي ومؤيديه، وبين الثوار المسلحين.
بينما كانت ثاني تلك الحروب عام 2019 بعد أن زحفت قوات مسلحة من الشرق بقيادة حفتر، محاولة احتلال العاصمة، قبل أن يتصدى لها الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق، والقوات المساندة له، في حرب استمرت 14 شهراً، وانتهت بخسارة الأخير وانسحابه.