يرفض قادة جنوب إفريقيا منذ أيام نيلسون مانديلا الانتقادات الأمريكية لصداقتهم مع مع زعماء يعتبرون خصوماً لواشنطن، مثل فيدل كاسترو في كوبا، أو معمر القذافي في ليبيا، اللذين قدَّم بلداهما الدعم لهم خلال أكثر اللحظات يأساً في النضال ضد الفصل العنصري (الأبارتيد)، واليوم رفضت جنوب إفريقيا أيضاً إدانة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الحرب في أوكرانيا، وأحجمت مع عدد لا بأس به من الدول الإفريقية عن المشاركة في جوقة الغضب الغربي من الحرب التي تشنها موسكو على كييف.
وفي الأمم المتحدة، يوم الأربعاء 2 مارس/آذار، كانت جنوب إفريقيا من بين 24 بلداً إفريقياً رفضت الانضمام إلى التصويت الذي يدين حرب روسيا على أوكرانيا، حيث امتنع 16 بلداً إفريقياً عن التصويت، فيما لم تُصوِّت سبعة بلدان بالأساس، وصوَّت بلدٌ واحد (إريتريا) ضده، لتنضم بذلك إلى مجموعة تضم روسيا وبيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية فقط.
"روسيا صديقة إفريقيا".. ما وراء انقسامات القارة السمراء حيال الأزمة الروسية الأوكرانية؟
تعكس هذه الحصيلة اللافتة حالة "الالتباس" في جزء كبير من القارة التي استُقبِلَت فيها الحرب الأوكرانية بصمتٍ واضح، إلا من استثناءات قليلة، في تناقض واضح مع البلدان الغربية التي تُوسِّع عقوباتها لتستولي على يخوت الأثرياء الروس، وتفرض عقوبات من كافة الأشكال والأصناف على الروس، بل وتهدد علناً بدفع الاقتصاد الروسي نحو الانهيار.
وقالت لينديوي زولو، وزيرة التنمية الاجتماعية بجنوب إفريقيا، والتي درست في موسكو خلال سنوات الفصل العنصري، في مقابلة مع صحيفة The New York Times الأمريكية: "روسيا هي صديقتنا تماماً. لسنا بصدد نقض هذه العلاقة التي لطالما حظينا بها".
تتمتع الكثير من البلدان الإفريقية بتقارب طويل الأمد مع روسيا، يعود إلى زمن الحرب الباردة، فبعض القادة السياسيين والعسكريين درسوا هناك، وتنامت الروابط التجارية. وتواصل في السنوات الأخيرة عددٌ متزايد من البلدان الإفريقية مع موسكو، واشتروا كميات أكبر من أي وقتٍ مضى من الأسلحة الروسية، حتى إن بعضها مثل مالي بدأت بالاستعانة بالمرتزقة الروس "الفاغنر".
وأدان عددٌ قليل من البلدان الإفريقية العدوان الروسي باعتباره "هجوماً على النظام الدولي"، لاسيما كينيا وغانا. وصوَّت نحو 25 بلداً إفريقياً لصالح قرار الأمم المتحدة، الذي أدان تصرفات بوتين الأربعاء الماضي، لكنَّ الانقسامات العميقة في رد فعل القارة كانت واضحةً منذ البداية.
إذ سافر نائب رئيس مجلس السيادة السوداني إلى موسكو في اليوم الأول من الصراع، وتبادل المصافحات الحارة مع وزير الخارجية الروسي، فيما كانت المقاتلات تقصف المدن الأوكرانية. وأصدر المغرب، الحليف الأمريكي طويل الأمد، بياناً رمادياً أزعج المسؤولين الأمريكيين الذين مع ذلك التزموا الهدوء.
وفي إثيوبيا، رفرفت الأعلام الروسية في حفل نُظِّم، الأربعاء الماضي، لإحياء ذكرى معركة شهيرة وقعت في القرن التاسع عشر ضد الغزاة الإيطاليين، مُذكِّرَةً بمشاركة المتطوعين الروس الذين وقفوا إلى جانب المقاتلين الإثيوبيين.
اتساع النفوذ الروسي في إفريقيا على حساب النفوذ الغربي صاحب الإرث الاستعماري
وتقول نيويورك تايمز، إن التعاطف الإفريقي مع أوكرانيا تضاءل كذلك بعد تقارير أفادت بإجبار قوات حرس الحدود الأوكرانية الطلبة الأفارقة على العودة إلى أواخر الطوابير أثناء محاولتهم مغادرة البلاد. وقد شجب الرئيس النيجيري، محمدو بخاري، الذي تملك بلاده 4 آلاف طالب في أوكرانيا هذه التصرفات العنصرية.
ولسنوات طويلة، كان بوتين يستحضر أحداثاً تعود إلى الحرب الباردة، حين دعمت موسكو حركات التحرر الإفريقية وقدَّمت نفسها باعتبارها حصناً ضد النزعة الاستعمارية الغربية، التي تحمل إرثاً تاريخياً مشيناً في القارة السمراء. كما قسَّم بوتين أيضاً الرأي العام الإفريقي بفضل جهوده لتوسيع النفوذ الروسي في أرجاء القارة عبر مزيج فذ من الدبلوماسية والسلاح والمرتزقة.
وفي محاولة لاستعادة بعض النفوذ الذي فقدته موسكو عام 1991، بانهيار الاتحاد السوفييتي، استضاف بوتين قمة كبيرة في مدينة سوتشي، الواقعة غربي البلاد، عام 2019، حضرها 43 من قادة الدول الإفريقية. ومن المقرر عقد قمة ثانية بين روسيا وإفريقيا هذا الخريف.
لكن في ظل معاناة اقتصاد روسيا تحت وطأة العقوبات الغربية التي فُرِضت عقب ضم شبه جزيرة القرم في 2014، لم يكن بإمكانها تحمُّل الإغراءات الباهظة التي تقدمها القوى الأخرى في إفريقيا، مثل القروض الصينية الرخيصة أو المساعدات التنموية الغربية، لذا قدَّمت روسيا مبيعات أسلحة غير مشروطة فضلاً عن خدمات المرتزقة الروس الذين تُوظِّف شركة فاغنر المقربة من بوتين الكثير منهم، كما تقول نيويورك تايمز.
وقاتل مرتزقة فاغنر خلال السنوات الأخيرة في حربين أهليتين في ليبيا وموزمبيق، وهم يحمون الآن رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، وهناك ساعدوا في صد هجوم من المتمردين على العاصمة، العام الماضي.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، ظهر مقاتلو فاغنر في مالي، كجزء من اتفاق لمحاربة الجماعات الإرهابية، أثار ذلك غضب فرنسا، التي أعلنت الشهر الماضي أنَّها ستسحب جنودها من مالي بعدما فشلت مهمتها هناك.
نصف واردات السلاح الروسي تذهب إلى إفريقيا
ينبع نفوذ روسيا أيضاً من مبيعات الأسلحة، فوفقاً لوكالة تصدير الأسلحة الروسية والمنظمات التي ترصد عمليات نقل السلاح، تُصدِّر روسيا قرابة نصف واردات السلاح في إفريقيا.
كان أحد أشرس المدافعين عن بوتين، الأسبوع الماضي، شخصية نافذة في أوغندا، التي تمثل "زبوناً رئيسياً" للسلاح الروسي. فقال الجنرال موهوزي كاينيروغابا، نجل الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، في تغريدة: "معظم البشرية (من غير ذوي البشرة البيضاء) تدعم موقف روسيا في أوكرانيا".
من جهته، قال ماكسيم ماتوسيفيتش، أستاذ التاريخ بجامعة سيتون هول في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، والذي يُدرِّس علاقات روسيا في إفريقيا: "خلال الحرب الباردة كان السوفييت يحاولون ترويج الاشتراكية للبلدان الإفريقية، بينما ينتقدون النزعة الاستعمارية والإمبريالية الغربية، لكن الآن تنخرط روسيا في محاولة جديدة للتأثير في إفريقيا، لكنَّها محاولة تُحرِّكها القومية اليمينية"، حسب تعبيره.
برز انقسام مماثل في آسيا، حيث تقبَّلت البلدان ذات القادة المعادين لواشنطن، أو التي لديها علاقات ضعيفة مع الغرب حرب بوتين، وتجنَّبت انتقاد العدوان العسكري الروسي.
كيف ستتأثر إفريقيا بالحرب الروسية الأوكرانية؟
وبالنسبة للأفارقة يمكن أن تصيب الحرب جيوبهم بشدة، إذ توقَّعت الأسبوع الماضي "رابطة السيارات في جنوب إفريقيا"، أن تبلغ أسعار الوقود المتزايدة مستوى قياسياً عالياً خلال الأسابيع المقبلة. وتزداد تكلفة الغذاء أيضاً -فروسيا وأوكرانيا مُصدِّران رئيسيان للقمح والأسمدة في إفريقيا- في وقتٍ لا تزال الكثير من البلدان الإفريقية تترنَّح فيه من جرَّاء الجائحة.
لكن قد يكون للحرب أثر اقتصادي إيجابي لإفريقيا أيضاً، ولو أنَّه قد يستغرق سنوات طويلة قبل الشعور به. ففي حين تبتعد أوروبا عن واردات الغاز الروسية، يمكن أن تلجأ إلى البلدان الإفريقية الراغبة في استغلال مخزونات الطاقة المُكتَشَفة حديثاً.
فقالت رئيسة تنزانيا، سامية سولو حسن، التي تسعى بلادها للحصول على استثمارات بقيمة 30 مليار دولار لاستغلال اكتشاف غازي ضخم في المحيط الهندي، إنَّ غزو أوكرانيا يمكن أن يوفر فرصة. وقالت لموقع Africa Report الإخباري: "نتطلَّع إلى الأسواق، سواء كان ذلك في إفريقيا أو أوروبا أو أمريكا".
لكنَّ بوتين ما زال يستفيد في مناطق أخرى من صورته باعتباره شوكة في خاصرة الغرب، إذ يتذكر الكثيرون في جنوب إفريقيا أنَّ الولايات المتحدة دعمت نظام الفصل العنصري حتى الثمانينيات.
قالت سيثمبيل مبيتي، المحاضرة الأولى في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بريتوريا في جنوب إفريقيا، إنَّ لدى بلادها مع ذلك، وبعيداً عن العلاقات التاريخية مع روسيا، الدافع للدعوة إلى الدبلوماسية بدلاً من القتال، لأنَّ ذلك النهج يتماشى مع موقف البلاد في الصراعات الدولية على مدار السنوات الثلاثين الماضية.