بعد نجاح الجيش الروسي في الاستيلاء على مدينة خيرسون الساحلية جنوب أوكرانيا، يبدو أن مدينة أوديسا جنوب غربي البلاد هي الهدف التالي في خطة الرئيس فلاديمير بوتين في الحرب على الموانئ الأوكرانية، فماذا ستعني خسارة مدينة أوديسا الاستراتيجية بالنسبة لأوكرانيا واقتصادها؟
ما أهمية مدينة أوديسا بالنسبة للاقتصاد الأوكراني؟
صرّح محللون بأنّ استيلاء روسيا على مدينة أوديسا المرفئية المطلة على البحر الأسود سيمكّنها من "خنق" الاقتصاد الأوكراني، وذلك بالتزامن مع تصريح الجيش الأوكراني بأن السفن الحربية الروسية في طريقها إلى المدينة.
إذ قال الجنرال السير ريتشارد بارونز، القائد العسكري البريطاني السابق الذي يُحلّل الأحداث المتكشّفة في البلاد، إن خسارة أوديسا تُوازي خسارة المملكة المتحدة ميناء دوفر (أحد أهم موانئ بريطانيا) من حيث التأثير.
وطرح مسؤولٌ استخباراتي غربي بارز بالفكرة في يناير/كانون الثاني، حين قال إن روسيا قد تحاول الاستيلاء على الميناء وقطع اتصال أوكرانيا بالبحر الأسود.
وحذَّر المسؤول من أن ذلك سيكون "انتصاراً استراتيجياً ضخماً" لروسيا "وعقاباً قاسياً" لأوكرانيا، مشيراً إلى خريطةٍ تُسلّط الضوء على خطة بوتين المحتملة للمعركة، بحسب ما نقلته صحيفة The Times البريطانية.
وقد تمحور تركيز روسيا في الجنوب حتى الآن على ميناء خيرسون الاستراتيجي الأصغر، وهي مدينةٌ يسكنها 300.000 شخص وتقع على ضفاف نهر دنيبر بالقرب من مصبه في البحر الأسود. وبعد أن أصبحت المدينة تحت السيطرة الروسية الآن، سيُعاد فتح قناةٍ حيوية لاسترداد إمدادات المياه بشبه جزيرة القرم التي تم ضمها في عام 2014.
ويُقال إن القوات الروسية تُحاصر مدينة ماريبول بقصفٍ متواصل، وهي مدينةٌ جنوبية أخرى مهمة لربط شبه جزيرة القرم بمناطق الانفصاليين المؤيدة لروسيا في الشرق.
حرب الموانئ تشتعل في أوكرانيا، وأوديسا هي "الجائزة الكبرى"
لكن الاستيلاء على خيرسون يحمل دلائل على أن المعركة قد تنتقل إلى الغرب أكثر. كما أشار آخر تحديثٍ من القوات المسلحة الأوكرانية إلى أنّ وحدة الإنزال بأسطول البحر الأسود الروسي، والتي تتألف من أربع سفن إنزال كبيرة وثلاثة زوارق صواريخ، تتحرك "في اتجاه مدينة أوديسا".
وقال بارونز، القائد السابق في قيادة القوات المشتركة، لصحيفة التايمز: "تُعتبر مدينة أوديسا بمثابة الجائزة الكبرى. وبناءً على النجاح المحرز في خيرسون، من المتوقع أن نرى القوات الروسية على الساحل تتحرّك غرباً أكثر، ومن المنطقي تماماً القيام بعملية إنزالٍ برمائي بالقرب من أوديسا؛ لإجراء عملية ربط على مدار بضعة أيام".
تعتبر أوديسا ثالث أكبر مدن أوكرانيا، كما تُعَدُّ منتجعاً سياحياً ولها أهميةٌ استراتيجية. وترجع الأهمية الجوهرية للمدينة إلى دورها في تصدير السلع الزراعية، وخام الحديد، والتيتانيوم. إذ إن أوكرانيا غنيةٌ بالمعادن، وعادةً ما تسافر هذه المعادن عبر البحر.
وتُسافر جميع البضائع السائبة الأوكرانية، ومنها الحبوب، إلى أوروبا عبر البحر، وبالتالي فإن خسارة الساحل ستوجه ضربةً استراتيجية هائلة للاقتصاد الأوكراني، ولن يتمكّنوا من تصدير البضائع بشكلٍ فعّال إلى الاتحاد الأوروبي عن طريق البر أو السكك الحديدية.
يقول بارونز: "نحن نعلم أن خطوط النقل العادية لا يمكنها محاكاة وظائف الميناء على الإطلاق، سيكون الأمر أشبه بخسارة الاقتصاد البريطاني لميناء دوفر".
أوديسا هي شريان حياةٍ رئيسي للتجارة البحرية الأوكرانية
من جهته، قال سيدهارث كوشال، الباحث بمعهد Royal United Services Institute البحثي، إن أوديسا تُمثّل "شريان حياةٍ رئيسياً" للتجارة البحرية الأوكرانية، حيث تتدفق نسبة 70% تقريباً من التجارة البحرية للبلاد عبر المدينة. وأردف أنّ "الاستيلاء عليها سيمكن روسيا من خنق الاقتصاد الأوكراني".
ويصل حجم منطقة أوديسا عموماً إلى قرابة حجم بلجيكا أو مولدوفا، وتغطي 5.5% من الأراضي الأوكرانية.
كما تُعَدُّ المنطقة من المناطق الرئيسية المنتجة والمصدّرة للحبوب في أوكرانيا. وقد سبق أن حذَّر وزراءٌ من تأثير الهجوم على أوكرانيا في أسعار الحبوب حول العالم، خاصةً في مناطق مثل اليمن ولبنان ومصر وغيرها التي تعتمد على الحبوب الأوكرانية بشكلٍ كبير.
وأردف كوشال أن سقوط خيرسون كان "مهماً من الناحية الرمزية"، لأنها كانت أول مدينة أوكرانية كبيرة تسقط في أيدي الروس، ولكن لا يبدو مع ذلك أنه قد تم الدفاع عنها بشكلٍ مستميت، ولهذا فسقوطها لا يثبت بالضرورة قدرة روسيا على أن تستولي على المدن، حسب تعبيره.
باحتلال أوديسا ستكتمل السيطرة على الساحل وستُعزل أوكرانيا تماماً عن البحر الأسود
تعد أوديسا آخر حلقة في إعادة بوتين إحياء مشروع "نوفوروسيا"، أو "روسيا الجديدة" التاريخي، والذي يتحدث عنه الرئيس الروسي منذ عام 2014، حيث تسعى روسيا لإقامة جسر بري من أراضيها مروراً بالمناطق الشرقية في إقليم دونباس وما حولها، إلى شبه جزيرة القرم، المنطقة التي ضمتها إليها في عام 2014، إضافة إلى امتداد ذلك نحو مدينة أوديسا ومينائها الاستراتيجي، أي بمعنى الاستيلاء على مئات الكيلومترات من الأراضي على طول ساحل بحر آزوف والبحر الأسود.
ومن شأن السيطرة الروسية على هذه المدن الساحلية بموانئها الاستراتيجية، أن تفصل أوكرانيا تماماً عن البحر وتعزلها عن أهم موانئها على البحر الأسود. كما تمنح السيطرةُ على المنطقة المحيطة بخيرسون لروسيا السيطرة على قناة جلبت المياه العذبة من نهر دنيبر إلى شبه جزيرة القرم، التي أغلقتها أوكرانيا بعد أن ضمت روسيا شبه الجزيرة في عام 2014.
ويمكن أن تكون أيضاً بمثابة محطة طريق للتقدم المستمر شمالاً على طول نهر دنيبر باتجاه مدن ذات أهمية استراتيجية مثل زابوريزهيا ودنيبرو، وكذلك إنرهودار، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 50 ألف نسمة وتضم أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا.
ويعتبر مشروع "نوفوروسيا، أو "روسيا الجديدة" جزءاً تاريخياً من الإمبراطورية الروسية، يشير إلى إقليم شمال البحر الأسود، الذي تَشكَّل كمقاطعة إمبراطورية جديدة تابعة لروسيا (مقاطعة نوفوروسيا) في عام 1764، مع أجزاء من المناطق الجنوبية الساحلية، بهدف التحضير للحرب مع الإمبراطورية العثمانية.
وتذكر المصادر التاريخية أن نوفوروسيا توسّعت بصورة إضافية من خلال ضم أقاليم جديدة غرباً في عام 1775، شملت إقليم بيسارابيا التابع لمولدوفا وأقاليم ساحل البحر الأسود في أوكرانيا الحديثة، وساحل بحر آزوف وإقليم القرم وغيرها.
ظلت تلك المنطقة جزءاً من الإمبراطورية الروسية حتى انهيارها في أعقاب الثورة البلشفية في عام 1917، حيث أصبحت بعد ذلك ضمن جمهورية أوكرانيا السوفييتية، وكانت هناك محاولات لإعادة إحياء "نوفوروسيا" منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وكانت أبرز تلك المحاولات محاولة الحركة الانفصالية الموالية لروسيا إقامة دولة نوفوروسيا الاتحادية خلال حرب إقليم دونباس عام 2014.