حرب الموانئ تشتعل بأوكرانيا.. ماذا يعني سقوط مدينة خيرسون الاستراتيجية بيد روسيا؟

تم النشر: 2022/03/03 الساعة 12:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/03/04 الساعة 14:33 بتوقيت غرينتش
مدينة خيرسون.. كنز جيوسياسي واقتصادي على مصب نهر دنيبرو وبحر آزوف، وكذلك البحر الأسود (عربي بوست)

بالتوازي مع محاولة القوات الروسية حصار العاصمة الأوكرانية كييف والمدينة الشرقية خاركيف، يخوض الجيش الروسي معارك ضارية للسيطرة على جميع المدن الواقعة على بحر آزوف والبحر الأسود والظفر بموانئها الاستراتيجية؛ حيث كان التطور الميداني الأبرز هو سقوط مدينة خيرسون الساحلية بقبضة الروس، بحسب اعترافات المسؤولين الأوكرانيين.. فما هي مدينة خيرسون وما أهميتها الاستراتيجية؟ وإلى أين وصلت تطورات المعارك على الموانئ الأوكرانية الأخرى؟

ماذا يعني سقوط مدينة خيرسون بيد روسيا؟

تعتبر مدينة خيرسون أكبر مدينة تسقط حتى الآن بيد القوات الروسية، وتكمن أهميتها في كونها تقع على مصب نهر دنيبر، وتطل على بحر آزوف من الجنوب الشرقي، والبحر الأسود من الجنوب الغربي. وبسيطرة روسيا عليها، يعني أنه بات بإمكانها الآن عبور نهر دنيبر الذي يقسم أوكرانيا إلى قسمين، والاتجاه غربًا وشمالًا لمهاجمة كييف من الاتجاه الثاني.

وأعلن الجيش الروسي أنه سيطر على مدينة خيرسون ذات الأهمية الاستراتيجية في جنوب أوكرانيا مساء يوم الأربعاء 2 مارس/آذار 2022؛ حيث قال المتحدث باسم وزارة الدفاع إيغور كوناشينكوف في تصريحات متلفزة إن "الفرق الروسية بالقوات المسلحة نجحت بالسيطرة على المركز الإقليمي لخيرسون بشكل كامل".

المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية في شرق وجنوب أوكرانيا حتى 3/3/2022 بحسب مصادر روسية وأوكرانية/ (عربي بوست)

وأضاف كوناشينكوف أن المحادثات جارية بين الجيش الروسي والسلطات المحلية بشأن حفظ النظام وحماية السكان والحفاظ على أداء الخدمات العامة. 

وهو الأمر الذي أكده عمدة المدينة الأوكرانية إيغور نيكولاييف، الذي قال بحسب رويترز إن القوات الروسية انتشرت بشوارع المدينة وشقَّت طريقها إلى مبنى مجلس المدينة، مضيفاً أنّ القوات الروسية فرضت حظر تجوّل ليلي في المدينة وقيوداً على حركة السيارات.

وقال نيكولاييف في منشور على فيسبوك: "لم تكن لدينا أسلحة ولم نكن عدوانيين، لقد أظهرنا أنّنا نعمل لتأمين المدينة ونحاول التعامل مع عواقب الغزو".

القوات الروسية تدخل ميناء خيرسون الاستراتيجي الأوكراني 3 مارس 2022/ رويترز

وتتحدث التقارير عن انتشار مئات الجنود في مدينة خيرسون وإقامة نقاط تفتيش على مداخلها، وقبل ساعات من سقوطها، قال رئيس الإدارة الإقليمية غينادي لاخوتا في رسالة على تطبيق تلغرام إنّ "الروس موجودون في كلّ شوارع المدينة وهم خطيرون جداً".

لكن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية كوناشينكوف قال من جانبه إن الخدمات العامة في مدينة خيرسون والنقل تعمل كالمعتاد، والمدينة لا تعاني من نقص في المواد الغذائية والسلع الأساسية.

ما هي مدينة خيرسون وما قيمتها الاستراتيجية؟

يبلغ عدد سكان مدينة خيرسون 280 ألف نسمة (عام 2021)، ويتحدث نصف سكانها اللغة الروسية، فيما تقدر الأقلية الروسية فيها بنحو 20%، بحسب التعداد الوطني الأوكراني لعام 2001. وهي المركز الإداري لمقاطعة "أوبلاست خيرسون" التي تعتبر مركزاً اقتصادياً كبيراً تعتمد عليه أوكرانيا.

وتمتلك المدينة أكبر ميناء في أوكرانيا لبناء السفن في البحر الأسود وهي مركز رئيسي للشحن، وقد نمت المدينة بشكل مطرد خلال القرن التاسع عشر بسبب الشحن وبناء السفن، وظلت مركزاً رئيسياً لبناء السفن طوال القرن العشرين. 

وشملت الصناعات الأخرى فيها الهندسة وتكرير النفط وتصنيع المنسوجات القطنية وغيرها من الصناعات. وسياحياً، تعد المدينة أهم المدن الأوكرانية التي تستقطب السياح لطبيعتها المميزة وإطلالتها على نهر دنيبر وبحري آزوف والأسود.

مدينة خيرسون.. كنز جيوسياسي واقتصادي على مصب نهر دنيبر وبحر آزوف، وكذلك البحر الأسود/ Wikipedia Commons

تأسست مدينة خيرسون بمرسوم من الإمبراطورة الروسية كاترين العظمى يونيو/حزيران 1778 على الضفة العليا لنهر دنيبر كحصن مركزي لأسطول البحر الأسود. 

وشهد عام 1783 افتتاح حوض بناء محلي للسفن أصبح لاحقاً الأهم في أوكرانيا، وقد احتلها الألمان خلال الحرب العالمية الثانية من 19 أغسطس/آب 1941 إلى 13 مارس/آذار 1944، قبل أن يتم تحريرها من قِبَل الجيش السوفييتي.

حرب الموانئ.. ما أهمية مدينة خيرسون بالنسبة لروسيا؟

أهمية المدينة الاستراتيجية بالنسبة لروسيا، هي أنها أحد أهم مراكز إعادة إحياء مشروع "نوفوروسيا"، أو "روسيا الجديدة" التاريخي، والذي يتحدث عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عام 2014، حيث تسعى روسيا لإقامة جسر بري من أراضيها مروراً بالمناطق الشرقية في إقليم دونباس وما حولها، إلى شبه جزيرة القرم، المنطقة التي ضمتها إليها في عام 2014، بالإضافة إلى امتداد ذلك نحو مدينة أوديسا وميناؤها الاستراتيجي، أي بمعنى الاستيلاء على مئات الكيلومترات من الأراضي على طول ساحل بحر آزوف والبحر الأسود.

ومن شأن السيطرة الروسية على خيرسون وغيرها من المدن الساحلية بموانئها الاستراتيجية، أن يفصل أوكرانيا تماماً عن البحر ويعزلها عن أهم موانئها على البحر الأسود. كما تمنح السيطرة على المنطقة المحيطة بخيرسون لروسيا السيطرة على قناة جلبت المياه العذبة من نهر دنيبر إلى شبه جزيرة القرم، التي أغلقتها أوكرانيا بعد أن ضمت روسيا شبه الجزيرة في عام 2014. 

ويمكن أن تكون أيضاً بمثابة محطة طريق للتقدم المستمر شمالاً على طول نهر دنيبر باتجاه مدن ذات أهمية استراتيجية مثل زابوريزهيا ودنيبرو، وكذلك إنرهودار، المدينة التي يبلغ عدد سكانها 50 ألف نسمة وتضم أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا.

مشروع نوفوروسيا (روسيا الجديدة) الذي يسعى بوتين لإعادة إحيائه في أوكرانيا (عربي بوست)

ويعتبر مشروع "نوفوروسيا، أو "روسيا الجديدة" جزءاً تاريخياً من الإمبراطورية الروسية، يشير إلى إقليم شمال البحر الأسود، الذي تَشكَّل كمقاطعة إمبراطورية جديدة تابعة لروسيا (مقاطعة نوفوروسيا) في عام 1764، مع أجزاء من المناطق الجنوبية الساحلية، بهدف التحضير للحرب مع الإمبراطورية العثمانية.

وتذكر المصادر التاريخية أن نوفوروسيا توسّعت بصورة إضافية من خلال ضم أقاليم جديدة غرباً في عام 1775، شملت إقليم بيسارابيا التابع لمولدوفا وأقاليم ساحل البحر الأسود في أوكرانيا الحديثة، وساحل بحر آزوف وإقليم القرم وغيرها.

ظلت تلك المنطقة جزءاً من الإمبراطورية الروسية حتى انهيارها في أعقاب الثورة البلشفية في عام 1917، حيث أصبحت بعد ذلك ضمن جمهورية أوكرانيا السوفييتية، وكانت هناك محاولات لإعادة إحياء "نوفوروسيا" منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وكانت أبرز تلك المحاولات محاولة الحركة الانفصالية الموالية لروسيا إقامة دولة نوفوروسيا الاتحادية خلال حرب إقليم دونباس عام 2014.

ومنذ شهر أبريل/نيسان عام 2014، بدأ الرئيس بوتين الحديث بوتيرة متزايدة عن مفهوم إعادة إحياء "روسيا الجديدة" أو "نوفوروسيا"، شرق وجنوب أوكرانيا، التي يراها القوميون الروس في روسيا وأوكرانيا مناطق روسية منحها الاتحاد السوفييتي لأوكرانيا.

وقال بوتين في خطابه الذي توجه به إلى الشعب الروسي في أبريل/نيسان 2014، بعد نحو شهر من سيطرة روسيا على منطقة القرم مبرراً ضمها: "سوف أذكّركم: هذه نوفوروسيا (أي روسيا الجديدة)"، مشيراً إلى مناطق شرق وجنوب أوكرانيا، حيث كان بوتين يتخطى المناطق الانفصالية في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك والقرم، ليشمل جميع مناطق البحر الأسود الساحلية ذات الأعداد الكبيرة من الناطقين بالروسية في أوكرانيا.

هدف بوتين تحويل أوكرانيا لـ"دولة حبيسة"

يقول المحلل العسكري في صحيفة "إزفيستيا" الروسية، أنطون لافروف، في مقالة له بعيد سيطرة الجيش الروسي على مدينة ميليتوبول الساحلية، يوم 24 فبراير/شباط، إن "الجيش الروسي يعمل على حسم المعركة سريعاً جنوب أوكرانيا"، حيث تعمل موسكو على إحياء مشروع "نوفوروسيا"، كاتحاد كونفدرالي بين "جمهوريتَي" دونباس و5 مناطق ساحلية جنوبية تصل حتى أوديسا غرباً. 

ويوضح لافروف أن ذلك يعني أن يعمل الجيش الروسي على السيطرة على المنطقة الممتدّة من ماريوبول حتى أوديسا، وهذا ما يؤدّي مباشرة إلى عزل أوكرانيا عن بحرَي أزوف والأسود، بحيث تتحوّل إلى جيب برّي فقط، مشيراً إلى أن السيناريو المشار إليه سيُمكّن روسيا من الوصول إلى إقليم ترانسنيستريا الانفصالي الموالي لروسيا في جمهورية مولدوفا، وهو ما يُعدّ بالتأكيد مفيداً لموسكو، كونه "سيسمح بإغلاق الملفّ الأوكراني بشكل نهائي"، بحسب لافروف.

وتعتبر ما يعرف بـ"جمهورية ترانسنيستريا" أو (بريدنيستروفيه)، التي انفصلت عن مولدوفا في عام 1992، وعاصمتها تيراسبول، من مناطق "النزاع المجمد" بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وتقع ترانسنيستريا في الشريط الضيق بين نهر دنيستر والحدود الأوكرانية، وهي معترف بها دولياً في الوقت الحالي كجزء من مولدوفا، وهي ذات نفوذ روسي، حيث تقيم بها أغلبية عرقية روسية، كما يحمل معظم سكانها الجنسية الروسية إلى جانب المولدوفية.

"جمهورية ترانسنيستاريا" الانفصالية عن مولدوفا والمدعومة من روسيا، التي قد يتم ربطها بمشروع "نوفوروسيا"/ عربي بوست

وفي عام 2003، أيدت روسيا طلب ترانسنيستريا الحفاظ على وجود عسكري روسي طويل الأمد في المنطقة، وبعد ضم شبه جزيرة القرم من قِبل روسيا، في مارس/آذار 2014، طلب رئيس برلمان ترانسنيستريا الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وهو ما أثار غضباً من قِبل مولدوفا وحلف الناتو.

يخوض الجيش الروسي معارك شرسة للاستيلاء على ميناء ماريوبول، وهو أكبر ميناء أوكراني على بحر أزوف، وإذا نجحت القوات الروسية كذلك في تنفيذ "حركة كماشة" من الشرق (دونباس)، والجنوب (القرم) في آنٍ واحد، باستخدام القوة البرية والجوية والبحرية، سينجح الروس في الاستيلاء أيضاً على الميناء الأهم في أوكرانيا "ميناء أوديسا".

ويوجد بهذه الموانئ الاستراتيجية العديد من الشركات الصناعية الكبرى، مثل مصانع الحديد والصلب والأشغال المعدنية، ومصانع بناء السفن والصناعات الكيماوية والفحم، وحتى المواد الغذائية والصناعات النسيجية، كما يوجد فيها أكبر شركات النقل والتجارة البحرية ومطارات ومحطات للسكك الحديدية ومحطات للحافلات للتنقل بين مدن الساحل.

ستحرم مثل هذه الخطوة أوكرانيا من الموانئ الاقتصادية الحيوية على طول ساحلها الجنوبي، وتحوّلها إلى دولة حبيسة (أي غير ساحلية)، وتحل المشاكل اللوجيستية الروسية القائمة منذ فترة طويلة فيما يتعلق بتوفير الإمدادات إلى شبه جزيرة القرم، وسيتطلب تنفيذ مثل هذه العملية الضخمة حشد كل القوات التي أدخلتها روسيا من شبه جزيرة القرم وعلى طول الحدود الشرقية لأوكرانيا. 

تحميل المزيد