المقارنة بين أزمتي سوريا وأوكرانيا هي أكثر ما يخطر على بال السوريين وكثير من العرب في الوقت الحالي، فهم يرون ما يحدث اليوم في كييف وخاركيف قد وقع ما هو أسوأ منه كثيراً قبل سنوات في حلب وإدلب وحمص
من داخل خيمة في الجيب الذي تسيطر عليه المعارضة المسلحة في سوريا، تابع أحمد راكان عن كثب الأخبار عن الهجوم الروسي في أوكرانيا، فقبل أكثر من عامين دمّرت غارة جوية روسية منزله الكائن بإحدى القرى القريبة، خلال هجوم استمر لشهور، شنّته الحكومة السورية المدعومة من قوة النيران الروسية، ما أخرجه هو وعشرات الآلاف من السوريين الآخرين من منازلهم.
وفي حديثه عن المدنيين الأوكرانيين الذين يواجهون الآن القصف الروسي، قال: "نحن نشعر بألمهم أكثر من أي شخص آخر"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
فعلى مدى الأعوام السبعة الماضية، واجه السوريون مثل راكان القوة العسكرية الروسية مباشرةً، عندما كانت تضرب معاقل المعارضة المسلحة السورية، وتتوسط لعقد اتفاقيات استسلام جماعي، وتنشر الشرطة العسكرية حول البلاد، وتجعل سوريا عملياً محمية روسية مطلة على البحر الأبيض المتوسط.
وقُتل أكثر من 380.000 شخص، ونزح 13.2 مليون آخرين -نصف سكان سوريا قبل الحرب- داخل البلاد وخارجها، منذ اندلاع الانتفاضة ضد الرئيس بشار الأسد في عام 2011.
قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، التابعة للأمم المتحدة، إن هناك "أدلة معقولة" على ارتكاب نظام بشار الأسد وروسيا أعمالاً ترقَى لجرائم حرب في إدلب ومحيطها.
وتناول تقرير اللجنة أوضاع حقوق الإنسان في محافظة إدلب ومحيطها، شمال غربي سوريا، خلال الفترة ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ويونيو/حزيران 2020.
وقتل مئات المدنيين خلال الحملة العسكرية الأخيرة لجيش النظام السوري وروسيا على إدلب، قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار في مارس/آذار.
ونزح إثر هذه الحملة قرابة مليون شخص بسبب القتال، واضطر العديد منهم للعيش في ظروف قاسية في مخيمات مكتظة أو في الحقول المفتوحة، حسب وصف تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "BBC".
لو كان الغرب تصدى لتدخل بوتين بسوريا لما تجرأ بوتين على أوكرانيا
يقول المراقبون إن التدخل العسكري الروسي السافر في سوريا، وما قوبل به من إفلات من العقاب، جرَّأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويضيفون أنه منحه موطئ قدم في الشرق الأوسط من جديد، حيث استطاع من هناك التأكيد على القوة الروسية عالمياً، وتمهيد الطريق أمام هجومه في أوكرانيا.
قال إبراهيم حميدي، الصحفي السوري ومحرر الشؤون الدبلوماسية الكبير المتخصص في الشأن السوري لدى صحيفة الشرق الأوسط اللندنية: "مما لا شك فيه أن الهجوم الروسي في أوكرانيا هو تراكُم لسلسلة من التدخلات العسكرية الروسية في جورجيا عام 2008، والقرم عام 2014، وسوريا عام 2015".
وأضاف أن بوتين "يعتقد أن أمريكا تتراجع، ودور الصين يتزايد، وأوروبا منقسمة ومشغولة بمشاغلها الداخلية… ولذا قرر التدخل".
أول تحرك عسكري روسي خارج نطاق الدائرة السوفييتية
كان القرار الذي اتخذته روسيا في 2015 بالانضمام إلى الحرب في سوريا أول تحرك عسكري خارج محيط الاتحاد السوفييتي منذ انهياره. وقد أنقذت روسيا بتدخلها حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وقلبت مسار الحرب لصالحه، ما أتاح للزعيم السوري أن يعاود سيطرته بصورة دموية على غالبية مناطق سوريا، وكانت الغارات الجوية الروسية تضرب في أغلب الأوقات المستشفيات والمدارس والأسواق بلا تمييز.
صارت البلاد التي دمرتها الحرب أرض اختبار للأسلحة والتكتيكات الروسية، التي يمكنها أن تسخرها الآن في أوكرانيا.
وفي سوريا اختبرت موسكو أسلحتها التي تستخدم الآن في أوكرانيا
قالت آنا بورشيفسكايا، الزميلة البارزة في معهد واشنطن، التي تركز على سياسات روسيا تجاه الشرق الأوسط، إن روسيا نشرت في سوريا أسلحة بنهجٍ "متعدد النطاقات" يشمل الأسلحة الدقيقة بعيدة المدى وحملات القصف واسعة النطاق، بجانب الحرب الإلكترونية، والتضليل، واستخدام القوات شبه العسكرية.
وأوضحت أن نشر قوتها الجوية "جاء ليُظهر الطريقة المتطورة التي تتبعها روسيا في الحرب، وسوريا كانت معرضاً ذا أهمية خاصة لعرض هذا التطور".
والغرب تواطأ معها على الأرض
أظهرت موسكو كذلك لمسة دبلوماسية حذرة في سوريا، وصنعت ترتيبات مع الغرب أجبرته على قبول ضمني لتدخلها هناك، وعيّنت دوريات حراسة مع إحدى أعضاء حلف الناتو وهي تركيا، التي دعمت المعارضة المسلحة في سوريا، وذلك لفرض هدنة في بعض المناطق. وكذلك أسست تفاهمات مع إسرائيل، أتاحت للأخيرة تنفيذ غارات جوية ضد أهدف مرتبطة بإيران داخل سوريا. وأنشأت كذلك ما عُرف بـ"خط عدم التضارب" مع الولايات المتحدة لمنع وقوع الحوادث بين الطائرات الأمريكية ونظيرتها الروسية التي تطير في الأجواء السورية.
وفي الوقت ذاته سعت للدفاع عن الأسد في المشهد الدولي، من خلال رفض اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة ضد المدنيين، ومعتبرة أن هذه الاتهامات افتراءات. وداخل سوريا أضافت روسيا حملة قوة ناعمة، ففي بعض المناطق أُقيمت الاحتفالات لنشر الثقافة الروسية، وأُذيعت الأغاني الروسية في التلفزيون السوري، وكانت الحملات الدعائية التي تخدم المصالح الذاتية الروسية على أشدها، وقُدمت كذلك الوجبات الساخنة إلى المدنيين.
أنصار الأسد يؤيدون بوتين
تذكر ماكس، الذي يحمل الجنسيتين السورية والأوكرانية، وينحدر من مدينة اللاذقية الساحلية، عمله متصيداً (ترول) في مواقع التواصل الاجتماعي لمدة أسبوعٍ، لنشر ما يصفه بـ"الحقيقة" حول أفعال روسيا الإيجابية في سوريا. وقد عمل هو وسوريون آخرون يتحدثون الروسية من مكتب أُنشئ في جامعة محلية.
وفي ظل انتمائه إلى الطائفة العلوية التي تحكم سوريا، قال إنه وآخرين في مدينته كانوا ممتنين عندما تدخلت روسيا عسكرياً في 2015، ولا سيما نظراً إلى أن المتطرفين الإسلاميين كانوا يقتربون من المنطقة.
وأخبر ماكس وكالة The Associated Press في مكالمة هاتفية من أوكرانيا، حيث صار عالقاً الآن داخل وحدة مستأجرة من موقع إير بي إن بي بمنطقة سكنية في العاصمة كييف: "جاء الروس، ودُفع خط المواجهة إلى الخلف".
سافر ماكس، الذي يعمل الآن في منظمة دولية في لبنان، إلى أوكرانيا، لتجديد وثائقه الشخصية عندما صار عالقاً هناك بسبب الغزو الروسي. وقد تحدث بشرط عدم الكشف عن اسمه بالكامل خوفاً على سلامته.
والآن لم تعد الرواية الروسية تنطلي على ماكس، لكن كثيرين في مدينته بسوريا ذات الوجود العلوي الكثيف يؤيدون روسيا في هجومها في أوكرانيا، نظراً إلى أن موسكو تواصل نشر جهود حملتها التضليلية المعقدة بشأن الهجوم.
الصور التي تأتي من أوكرانيا، بما فيها الرحلات الجوية الجماعية المروعة للمدنيين، تثير مشاعر انفعالية ومتضاربة بين السوريين في وطنهم، وكذلك بين السوريين اللاجئين حول العالم.
سوريا وأوكرانيا ضحيتان لبوتين
يدور الاستياء بعمق في محافظة إدلب، الواقعة في شمال غربي البلاد، وهي آخر معاقل المعارضة، حيث تستمر الغارات الجوية هناك حتى يومنا هذا. في بيان نُشر الإثنين 28 فبراير/شباط، أعربت منظمة الدفاع المدني السوري التي تنشط في مناطق المعارضة، وتُعرف باسم "الخوذ البيضاء"، عن حزنها بسبب الهجوم الروسي في أوكرانيا.
وقالت المنظمة: "يؤلمنا أن نرى الأسلحة الروسية التي تم اختبارها على السوريين قد تُستخدم الآن ضد المدنيين الأوكرانيين"، وعبرت عن أسفها لما وصفته بنقص دعم المجتمع الدولي لمحاسبة روسيا على تصرفاتها في سوريا أو غيرها من المناطق الأخرى.
وقالت: "بدلاً من الدفاع عن القواعد والمعايير الدولية، مثل تلك التي تقف ضد استخدام الأسلحة الكيميائية، حاول المجتمع الدولي العثور على طرق للتعاون مع روسيا، وحتى يومنا هذا يَعُدّ (المجتمع الدولي) روسيا شريكاً ضرورياً وراغباً في الدبلوماسية".
قالت آنا، من معهد واشنطن، إن الدرس الذي تعلمه بوتين من سوريا هو أن "الغرب لن يعارض تدخلاته العسكرية"، ومنحه هذا نجاحاً ليبني عليه.
وأوضحت: "الشهية تأتي مع الأكل، ومع كل تدخل (عسكري) صار أكثر وقاحة، ليتوج ذلك بالمأساة التي نراها تتكشف الآن في أوكرانيا. وتماماً مثل أن ما حدث في سوريا لم ينته في سوريا، فإن ما يحدث في أوكرانيا لن ينته في أوكرانيا".
يعيش راكان الآن في خيمة مع زوجته وأطفاله الثلاثة بالقرب من الحدود التركية، حيث يدير متجراً لبيع قطع غيار السيارات. وقال إنه يتمنى أن تحمل هزيمة روسيا في أوكرانيا انعكاسات إيجابية على المعارضة في سوريا.
وأوضح قائلاً: "إننا ندعو الله بالنصر للشعب الأوكراني، ونأمل أن تشكل هذه الحرب نهاية روسيا".
وأضاف: "لعلهم يستطيعون تحقيق النصر الذي لم يتحقق في سوريا".