بينما يتركز اهتمام العالم على المعارك في أوكرانيا، فإن تصاعد التوترات الانفصالية في البوسنة والهرسك يمكن أن يُدخل البلاد في حرب أخرى أو تقسيمها لدويلات عِرقية مع تزايد النزاعات بين المسلمين والصرب والكروات، وسط مخاوف من دور روسي يؤجج الأوضاع، في اتجاه حرب مسيحية ضد المسلمين.
وحذر مسؤولون ومحللون من أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد تمتد آثاره إلى غرب البلقان، وتحديداً إلى البوسنة والهرسك، الدولة صغيرة التي أصبحت ساحة تنافس بين الناتو وموسكو، خاصة أنه من المعروف أن الصرب تاريخياً حلفاء لموسكو حتى إن روسيا دخلت الحرب العالمية الأولى بسبب تعرضهم لهجوم الإمبراطورية النمساوية المجرية.
وبينما أدان الزعماء الأوروبيون الغزو الروسي لأوكرانيا بما في ذلك قادة دول البلقان، كرواتيا ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود، بالإضافة إلى البوسنيين والكروات أعضاء رئاسة البوسنة، اتخذت صربيا موقفاً محايداً في الأزمة.
تركيبة السكان والسلطة في البوسنة والهرسك
وتتكون جمهورية البوسنة والهرسك التي عانت حرباً أهلية مدمرة أدت إلى مقتل مئة ألف شخص أغلبهم من المسلمين من كيانين هما: جمهورية صربسكا ذات الأغلبية الصربية واتحاد البوسنة والهرسك، الذي يسكنه بشكل رئيسي البوسنيون المسلمون والكروات المسلمون.
وفقاً لآخر إحصاء سكاني من عام 2013، يمثل البوشناق المسلمون 50.11 في المئة من سكان البلاد، والصرب البوسنيون 30.78 في المئة من السكان، والكروات 15.43 في المئة.
وتدهور الوضع الأمني في الأسابيع الماضية بعد أن صوّت نواب الكيان الصربي في البوسنة، المعروف باسم جمهورية صربسكا، في 11 فبراير/شباط على الانسحاب من مؤسسات الدولة الرئيسية بما فيها الجيش وإنشاء هيئات صربية فقط مكانها، حسبما ورد في تقرير لمجلة Forbes الأمريكية.
ويُنظر إلى هذه الخطوة على نطاق واسع على أنها خطوة رئيسية نحو انفصال الكيان الذي يمكن أن يمهد الطريق لتفكك البلاد.
كما وقع خلاف بين البوسنيين وشركائهم الكروات في الكيان المسلم الكرواتي، حيث تهدد الأحزاب الكرواتية البوسنية بمقاطعة مؤسسات البلاد بسبب رفض الأحزاب البوسنية تنفيذ حكم المحكمة الدستورية لعام 2016. الذي ينص على أن كلاً من "الشعوب المكونة" الثلاثة للبوسنة -البوشناق والكروات والصرب- سيكونون قادرين على انتخاب ممثليهم دون تدخل العرقيات الأخرى، مما يرسخ الانقسام الطائفي للبلاد.
ويريد رئيس صرب البوسنة ميلوراد دوديك سحب جمهورية صربسكا من المؤسسات البوسنية الرئيسية، وعلى الأخص القوات المسلحة، لإنشاء هيئات حكومية صربية فقط بدلاً من ذلك. أي خطوة من هذا القبيل من شأنها أن تنتهك اتفاقات دايتون للسلام لعام 1995 ويمكن أن تثير صراعا عنيفا آخر في البلقان.
في حين أن دوديك -الذي ينكر الإبادة الجماعية في سربرينيتشا- قد هدد منذ فترة طويلة بالانفصال، فإن حديثه عن إنشاء جيش منفصل لجمهورية صربسكا هو ما يثير قلقا حقيقيا. وهددت الولايات المتحدة باستخدام العقوبات إذا انفصل صرب البوسنة وانضموا رسميا إلى صربيا.
وبينما تريد العديد من الدول الأوروبية فرض عقوبات على قيادة صرب البوسنة، فمن المتوقع أن تقف كرواتيا والمجر وسلوفينيا -بالإضافة إلى روسيا- وراء دوديك.
وقال جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، إن الكتلة لا يمكنها استبعاد استخدام إجراءات تقييدية للحفاظ على وحدة البوسنة، صرح المسؤول الأوروبي بهذا عقب اجتماع مجلس الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبى يوم 21 فبراير/شباط.
الأيدي الروسية.. زعيم صرب البوسنة لديه علاقة وثيقة مع بوتين
تسببت التهديدات بالانفصال والخطاب القومي التي تبناها ميلوراد دوديك، العضو الصربي في الرئاسة الثلاثية للبوسنة الذي أقام علاقات وثيقة وتحالف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إثارة القلق في سراييفو في السنوات الـ15 الماضية.
وبصفة عامة يبدو أن التحالف التاريخي بين الصرب وروسيا الذي أشعل الحرب العالمية الأولى يعود للواجهة، فلقد قال الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش مؤخراً إنه سيدين اعتراف روسيا بالمطالب الإقليمية للجمهوريات الانفصالية المعلنة من جانب واحد في شرق أوكرانيا إذا أدان الرئيس الأوكراني قصف الناتو عام 1999 لصربيا على التلفزيون.
وقامت روسيا على مدار سنوات بنشر معلومات مضللة في البلاد (لاسيما الكيان الصربي)، وشيطنة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
بوتين تعهد بدعم الصرب وتوعد بالثأر إذا انضمت البوسنة للناتو
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تعهد فلاديمير بوتين بدعم صرب البوسنة في خلافاتهم حول تقاسم السلطة في البوسنة. كما عرضت موسكو دعماً مالياً لجمهورية صربسكا.
في مارس/آذار 2021، قالت السفارة الروسية في سراييفو إن روسيا سترد إذا اتخذت البوسنة خطوات نحو الانضمام إلى الناتو؛ لأن موسكو ستعتبر ذلك عملاً عدائياً.
وجدد دوسانكا ماجكيتش، أحد نواب الصرب في مجلس الشعب البوسني وعضو حزب سنسد القومي الذي يتزعمه دوديك، مؤخراً الإشارة إلى رسالة روسيا.
إذ قال على تويتر" للتذكير: قالت موسكو في مارس/آذار 2021 إنها سترد إذا اتخذت البوسنة والهرسك خطوات نحو الانضمام إلى الناتو. ثم أضاف: "لا تقل لاحقا إنك لم تكن تعلم".
وانتقد كثير من البوسنيين منشوره ووصفوه بأنه تهديد.
بعد أن عانوا بالفعل من حرب في أوائل التسعينيات، كان العديد من البوسنيين قلقين من أن بلدهم قد يكون الهدف التالي لروسيا وحلفائها.
وسط الأزمة في أوكرانيا، قالت السفارة الروسية في البوسنة في منشور على فيسبوك مؤخراً إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تحدث مع دوديك.
مشاعر قلق مماثلة توجد في كوسوفو، التي حصلت على استقلالها عن صربيا في عام 2008 بدعم من حملة قصف من قِبل الناتو، حيث لا تعترف روسيا أو صربيا باستقلاله.
وطلب وزير دفاع كوسوفو مؤخراً من الولايات المتحدة إقامة قاعدة عسكرية دائمة في البلاد وعضوية أسرع في الناتو.
الكروات أيضاً يتحالفون مع روسيا
قال روف باجروفيتش، الرئيس المشارك لمنظمة التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا، لقناة الجزيرة، إن "وكلاء بوتين في البلقان سيراقبون عن كثب تطورات العدوان على أوكرانيا".
وأضاف: "أي فوز سريع لبوتين في أوكرانيا سيشجع وكلاءه في البلقان لاسيما البوسنة على محاولة استخدام العنف لتحقيق أهدافهم السياسية، هذا صحيح بشكل خاص في حالة ميلوراد دوديك و[زعيم الحزب القومي الكرواتي HDZ] دراغان كوفيتش، الحلفاء الرئيسيون لبوتين في البوسنة".
كان كوفيتش وغيره من القادة الكرواتيين القوميين يضغطون منذ سنوات من أجل تعديلات انتخابية، قال محللون إنها ستؤدي إلى كيان كرواتي ثالث بحكم الأمر الواقع و"المزيد من ترسيخ الأوليغارشية العرقية في البلاد".
يثير موقف الأخير، وكذلك موقف كرواتيا المعادي للمسلمين البوسنيين، تساؤلات حول ما إذا كنا سنشهد تحالفاً بين الصرب والكروات كما حدث في بعض فصول الحرب الأهلية.
الكروات البوسنيون يهددون بمقاطعة الانتخابات العامة
وأطلق القوميون الكروات البوسنيون بدورهم دعوات للحكم الذاتي.
ففي 19 فبراير/شباط 2022، هددت الجمعية الوطنية الكرواتية (HNS)، وهي منظمة شاملة تمثل معظم الأحزاب السياسية الكرواتية البوسنية، بإطلاق إجراءات قانونية لإنشاء كيان خاص بها في البوسنة ما لم يتم تعديل قانون الانتخابات لزيادة حضور الكروات في المؤسسات الوطنية.
في الأصل، كان الصرب لديهم الدولة المكونة الوحيدة المتجانسة عرقياً ممثلة في جمهورية صربسكا، وكان البوشناق المسلمون والكروات يشكلون الكيان الآخر المعروف باسم اتحاد البوسنة والهرسك.
وهذا يعني أن الصرب حكموا جمهورية صربسكا بأنفسهم وأن البوشناق والكروات يتقاسمون السلطة في اتحاد البوسنة والهرسك.
في عام 2000، قضت المحكمة الدستورية بأن الكيانات الثلاثة تشكل دولا ممتدة على كامل أراضي البوسنة والهرسك، أي أن الحكم حاول التقليل من الحالة الانفصالية، وحاول جعل السلطة المختلطة بين العرقيات الثلاث تشمل البوسنة بأسرها.
في النهاية، كان الحكم نقطة تحول نحو الأسوأ في البوسنة والهرسك. بعد رفض السياسيين المحليين تنفيذ الحكم، فرض الممثل السامي تعديلات دستورية على دستوري اتحاد البوسنة والهرسك وجمهورية صربيا في عام 2002.
والنتيجة هي أن الدول الثلاث أصبحت متساوية على الورق، لكن التغييرات شملت آليات تصويت وصفها نقادها بأنها غير مدروسة، وأنها فتحت الطريق للأغلبية النسبية في كل كانتون أو كيان لانتخاب ممثليهم وممثلي المكونين الآخرين (والمسلمون أكبر مجموعة سكانية).
بدون اتفاق على تعديل هذا الوضع، ستقاطع الأحزاب الكرواتية الانتخابات العامة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، مما قد يغرق البلاد في أزمة دستورية.
ستؤثر المقاطعة على إقرار الموازنة القادمة، مما يؤدي في النهاية إلى منع تمريرها. نتيجة لذلك، لن يتقاضى موظفو الدولة رواتبهم، مما يوقف الدولة فعليا عن العمل.
بدون ميزانية، لا يمكن إجراء الانتخابات العامة لعام 2022، مما يدفع جمهورية البوسنة والهرسك إلى الاقتراب أكثر من أي وقت مضى نحو الحل. يأتي ذلك بعد ثلاث سنوات من الجمود السياسي والتوترات الحادة بشأن تهديد صرب البوسنة بالانفصال.
كرواتيا لا تريد دولة مدنية بل تقسيم للبلاد على أساس ديني
أضاف وزير خارجية كرواتيا، جوردان غرليتش رادمان، صوته إلى النقاش عندما قال إنه يعارض مفهوم الدولة المدنية في البوسنة ويفضل نظاماً قائماً على الأحزاب العرقية (الاختلاف الرئيسي بين الأعراق الثلاثة هو الدين والمذهب).
قال مسؤولون كروات إنهم يرغبون في إجراء مناقشة في المجلس الأوروبي بشأن البوسنة لبحث المأزق السياسي في البلاد في قمة الاتحاد الأوروبي المقبلة في مارس/آذار.
هل يستغل الناتو الفرصة ويقضي على نفوذ روسيا؟
قال محللون لقناة الجزيرة إن الأزمة في أوكرانيا تمثل "فرصة فريدة للبوسنة لتوجيه ضربة حاسمة للانفصاليين المدعومين من بوتين" في البوسنة، وضم البلاد للناتو والاتحاد الأوروبي، ولكن في حال اصطفاف الكروات مع الصرب ضد المسلمين قد تسوء الأمور.
وأعلنت يوفور، قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي مؤخراً عن نشر 500 جندي احتياطي إضافي في البوسنة إضافة إلى 600 جندي موجود وسط مخاوف من أن الأزمة في أوكرانيا يمكن أن "تتسبب في عدم الاستقرار في البلاد".
وبعد ذلك بيوم، قال الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إن هناك حاجة إلى مزيد من الدعم "لدول مثل جورجيا ومولدوفا والبوسنة والهرسك" لمساعدتها على "متابعة المسار الذي اختارته بحرية"، في إشارة إلى المخاوف من التأثير الروسي على هذه البلدان.
جعلت البوسنة هدفا استراتيجيا للانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، لكن صرب البوسنة، بقيادة العضو الصربي في الرئاسة وحليف بوتين ميلوراد دوديك، يعترضون على الانضمام إلى الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة.
وكثيراً ما هدد دوديك بسحب جمهورية صربسكا من البوسنة والانضمام إلى صربيا. لكن دعمه الأخير للدعوة إلى انفصال القوات المسلحة والنظام الضريبي والقضاء في البلاد دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات عليه.
وقالت وزارة الخزانة الأمريكية إن الإجراءات كانت جزءاً من خطة لمحاسبة أولئك الذين "يقوضون استقرار منطقة غرب البلقان من خلال الفساد والتهديدات لاتفاقيات السلام القائمة منذ فترة طويلة".
على الرغم من أن معظم دول الاتحاد الأوروبي تريد فرض عقوبات على دوديك، فإن الاتحاد امتنع حتى الآن عن فرض هذه العقوبات.
وأشار بوريل إلى أنه، في الوقت الحالي، يفضل الاتحاد الأوروبي الحوار والاتفاق بين الأطراف "من أجل ضمان الإصلاحات اللازمة لتطوير الانتخابات المقبلة".
ودفعت التوترات في البوسنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الصربي ألكسندر فوسيتش إلى الاتفاق في يناير/كانون الثاني على التوسط في محادثات أزمة مع جميع الأطراف المعنية لتجنب الانزلاق إلى صراع عرقي.
ورغم العلاقة الوثيقة التي نشأت مؤخراً بين تركيا وجمهورية صربيا اقتصادياً وسياسياً، فإن موقف أنقرة تجاه أزمة البوسنة شهد تصعيداً وباتت تبعث برسائل ذات مغزى سياسي وعسكري بدعمها لمسلمي البوسنة مع استمرار تأكيدها على حرصها على العلاقات مع كل مكونات البوسنة والحفاظ على العلاقات الوثيقة التي تشكلت مع صربيا في السنوات الأخيرة.