وصلت مبالغات وأكاذيب الحرب الأوكرانية إلى مستوى يكاد يكون غير مسبوق في الحروب الحديثة من قِبل الطرفين، بلغ حد انتزاع مقاطع من ألعاب فيديو وتضمينها كجزء من المعارك.
ومع أن المبالغات والأكاذيب من سمات الحرب منذ أن عرفها البشر، إلا أن اللافت أن الحرب الأوكرانية تشهد ميلاً ومبالغة لدى الطرفين بشكل زائد، ويكاد يكون كوميدياً أحياناً، وقد يكون ذلك نابعاً من الإرث السوفييتي المشترك للبلدين روسيا وأوكرانيا، حيث إن الاتحاد السوفييتي كان يعتبر أن الكذب أداة شرعية تماماً للعمل السياسي والعسكري حتى لو كان هذا الكذب غير منطقي إطلاقاً وساعد على ذلك أيضاً هيمنة وسائل الإعلام الحكومية في العهدين السوفييتي والبوتيني دون منافس والسيطرة الأمنية على الرأي العام الأمر الذي جعل السلطات قادرة على الكذب دون أن يكون هناك رواية مفندة أو مضادة.
وقد يعود كذلك لإرث البلدين المشترك كدولتين سلافيتين تنميان لأوروبا الشرقية؛ حيث كانت الصراعات القومية حادة ممزوجة بسفك واسع النطاق للدماء، مع ضعف استقلالية المؤسسات الأكاديمية والإعلامية مقارنة بالغرب.
ورغم أن أوكرانيا تقدم نفسها باعتبارها دولة أوروبية متحضرة مؤهلة للانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي فإن الإرث السوفييتي في الدعاية الأوكرانية يبدو واضحاً.
وبينما ميل الدعاية الأوكرانية للمبالغة وقد يكون مفهوماً للأسباب السالف ذكرها، إلا أن الغريب أن التعاطف الغربي معها يعرقل عملية التمحيص لروايتها من قبل المؤسسات الإعلامية والبحثية الغربية التي يفترض أنها ذات سمعة جيدة.
أشهر المبالغات والأكاذيب في الحرب الأوكرانية
رغم ضراوة المقاومة الأوكرانية التي فاجأت الجميع بالتأكيد، ووقوع خسائر في أوساط الروس تبدو أكبر مما توقع القادة الروس، فإن أرقام الأوكرانيين حول حجم الخسائر الروسية يبدو كبيراً بطريقة لا تصدق ولاسيما فيما يتعلق بالخسائر البشرية التي يقول الجانب الأوكراني إنه أوقعها في صفوف الروس.
وآخر التصريحات الأوكرانية في هذا الشأن ما قاله الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الأربعاء 2 مارس/آذار 2022، بأن ما يقرب من ستة آلاف جندي روسي قُتلوا في الأيام الستة الأولى من الحرب.
ويعني هذا التصريح الذي سبقه تصريح قبل أيام بأن نحو 3500 جندي روسي قُتلوا، أن روسيا سوف تخسر إذا استمر هذا المعدل نحو 30 ألف جندي شهرياً، وأن القوات المحتشدة حول وداخل أوكرانيا والتي تقدر بنحو مئتي ألف سوف تباد إذا استمرت الحرب ستة أشهر، علماً أنه حتى قبل أيام لم تكن موسكو قد أدخلت سوى ثلث قواتها المحتشدة حول أوكرانيا أي نحو 70 ألفاً، أي أن الخسائر الروسية وفقاً للرواية الأوكرانية تتراوح بين 5 إلى 10 % من قوات الكرملين التي تخوض القتال .
ولم تقدم أوكرانيا أي أدلة على صحة هذه الأرقام الضخمة سواء بفيديوهات تظهر كيف قتل كل هؤلاء أو صور للأعداد الكبيرة من جثث الجنود الروس، أو حتى العربات المدمرة، رغم وجود تقارير عديدة ذات مصداقية بوجود جثث لجنود روس في بعض مدن أوكرانيا، ولكن ليس هناك مؤشرات على هذا الحجم الهائل من القتلى، الذي هو كفيل لو تحقق بعرقلة العملية العسكرية الروسية أو وقفها، لأن هذا معدل ضحايا كبير بالنسبة لحرب ما زالت في بدايتها.
وأطلقت السلطات الأوكرانية يوم الأحد موقعاً على الإنترنت قالت إنه يهدف إلى مساعدة العائلات الروسية على تعقب المعلومات المتعلقة بالجنود الذين ربما قُتلوا أو أُسروا. يقول الموقع، الذي ذكر أنه أنشأته وزارة الشؤون الداخلية الأوكرانية، إنه يقدم مقاطع فيديو لجنود روس أسرى، بعضهم مصاب، ولكن ليس هناك تقارير بأن هذا الموقع قدم أدلة على مزاعم الأوكرانيين بشأن عدد القتلى الروس.
تحفُّظ روسيا على ذكر أرقام القتلى يثير الانتباه
بالطبع قوبلت هذه التصريحات الأوكرانية بتحفظ روسي على الإعلان عن حجم الخسائر، ولكن الروس اعترفوا بسقوط قتلى بين صفوفهم، ولكنهم أكدوا أن قتلاهم أقل من الجانب الأوكراني.
وكانت الهيئة الروسية للرقابة على الاتصالات أعلنت، الجمعة الماضي، عن تدابير لتقييد جزئي على موقع فيسبوك اعتباراً من 25 فبراير/شباط الجاري، في مؤشر على رغبتها في السيطرة على تدفق المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويبدو من الخطاب الروسي الخالي من التباهي بالإنجازات كعادة موسكو أن القتلى والخسائر أكبر مما توقعوا وأن النتائج خيبت آمالهم حتى الآن.
ماذا يقول القادة الأمريكيون عن عدد القتلى الروس؟
لم يتم التحقق من مزاعم أي من الجانبين بشكل مستقل، ورفض مسؤولو الإدارة الأمريكية مناقشة أرقام الضحايا علناً، لكن أحد المسؤولين الأمريكيين قدَّر الخسائر الروسية حتى يوم الإثنين بـ 2000 جندي، وهو تقدير اتفق معه مسؤولان أوروبيان، وفقاً لما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وقال مسؤولون كبار في البنتاغون للمشرعين في إحاطات مغلقة يوم الإثنين إن عدد القتلى العسكريين الروس والأوكرانيين متماثل فيما يبدو، عند حوالي 1500 على كل جانب في الأيام الخمسة الأولى، حسبما ذكر مسؤولون في الكونغرس.
للمقارنة، قُتل ما يقرب من 2500 جندي أمريكي في أفغانستان على مدار 20 عاماً من الحرب.
وقال الأدميرال جيمس جي ستافريديس، الذي كان القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي قبل تقاعده: "بالنظر إلى التقارير العديدة عن مقتل أكثر من 4000 روسي في المعركة، فمن الواضح أن شيئاً مثيراً يحدث". "إذا كانت الخسائر الروسية بهذا الحجم، فسيواجه فلاديمير بوتين محاولة صعبة لتفسير ذلك على جبهته الداخلية".
ولكن اللافت للانتباه، حسب مسؤولين في البنتاغون ومحللين عسكريين، أن الجنود الروس تركوا وراءهم جثث رفاقهم القتلى، وفقاً لتقرير صحيفة The New York Times.
أوكرانيا تدمر أرتال المدرعات الروسية
إحدى المبالغات حديث الأوكرانيين عن تدمير أرتال المدرعات الروسية.
ومن الواضح أن الأوكرانيين ألحقوا خسائر كبيرة بالمدرعات الروسية وأوقفوا تقدمها في مناطق عدة، وخاصة باستخدام الطائرات التركية المسيّرة بيرقدار تي بي 2 وصواريخ جافلين الأمريكية والقصف المدفعي.
ولكن الحديث عن تدمير أرتال المدرعات الروسية أمر مختلف، فالعرقلة أو إلحاق أضرار تعني أن الطابور المدرع يستطيع إصلاح مشكلاته والعودة للخدمة، أما تدمير الأرتال فيعني إخراج أغلبها من الخدمة.
شبح كييف الذي يُسقط الطائرات الروسية بالجملة مأخوذ من لعبة فيديو
واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بمزاعم غريبة عن طيار يُعرف باسم "شبح كييف" يقال إنه يطيح بطائرات روسية التي تخترق سماء البلاد.
وأظهر عدد من مقاطع الفيديو المنشورة على تويتر طائرة نفاثة تحلق في السماء، وسط تقديرات بأن الطيار أسقط ست طائرات روسية في اليوم الأول من حرب فلاديمير بوتين مع أوكرانيا.
ونشر الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشنكو على تويتر يوم الجمعة الماضي الصورة التي يُزعم أنها تظهر طيار مقاتلة من طراز ميغ 29، مما يزيد التكهنات بأن بطولات شبح كييف قد تكون صحيحة.
واستغلت وزارة الدفاع الأوكرانية أيضاً الشائعات عن بطولات الطيار ونشرت صورة لطائرة ميغ 29 على تويتر كجزء من منشور يفيد بأن الطيارين المتقاعدين كانوا يعودون إلى القوات الجوية.
وقالت التغريدة: "من يدري، ربما يكون أحدهم هو المنتقم الجوي على طائرة MiG-29، والتي غالباً ما يشاهدها سكان كييف!".
ونشرت الحكومة الأوكرانية مقطع فيديو مثيراً مدته 30 ثانية على حسابها الرسمي قائلة إن شبح كييف "يهيمن على السماء" وهو "كابوس لغزو الطائرات الروسية".
ومع ذلك، هناك مشكلة في هذا السرد: ليس من المؤكد ما إذا كان "شبح كييف" موجوداً بالفعل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Independent البريطانية.
مقطع واحد يُزعم أنه يُظهر الطيار المقاتل حقق أكثر من 5 ملايين مشاهدة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن بالتحقق من الفيديو فإن الـ MiG-29 المشار إليها جزء من لعبة فيديو اعتباراً من لعبة فيديو تدعى Digital Combat Simulator (DCS)، حسبما خلص تقرير "التحقق من صحة الحقائق".
تم نشر اللقطات الأصلية -التي تمت مشاركتها منذ ذلك الحين على منصات أخرى- على موقع YouTube بواسطة مستخدم يُدعى "Comrade_Corb"، والذي وضع الفيديو على شرف شبح كييف "Ghost of Kyiv"، حسب الصحيفة البريطانية.
في الوصف التوضيحي للفيديو، قال الناشر: "هذه اللقطات مأخوذة من لعبة DCS، لكنها مع ذلك مصنوعة احتراماً لـ"The Ghost of Kiev"، إن كان شخصاً حقيقياً فليكن الله معه، إذا كان مزيفًا، فأنا أصلي من أجل المزيد مثله".
وقال خبراء الطيران أيضاً إن ادعاءات طيار مقاتل بإسقاط ست طائرات في يوم واحد أمر مشكوك فيه، وفقاً لصحيفة Independent.
من النووي للإبادة الجماعية للروس.. المبالغات من قِبل موسكو
اللافت أن هناك تحفظاً واضحاً من الجانب الروسي في هذه الحرب، فوسائل الإعلام الروسية لا تدخر كما كانت عادة بالحديث عن الأسلحة الفتاكة والمقاتلات الروسية التي لا مثيل لها والتي تستطيع إسقاط الطائرات الأمريكية الشبحية، ولم ترسم لنا صورة درامية لسير الأعمال العسكرية في أوكرانيا.
لا يعرف هل ذلك بسبب ميل الجيش الروسي الفطري للسرية، خوفاً من تسرب معلومات عن العمليات العسكرية أم لأن الروس في مأزق.
ولكن على الجانب الآخر كانت مبالغات الروس واختلاقاتهم مرتبطة بالجانب السياسي وخاصة قبل الحرب.
تظهر المبالغات والأكاذيب في الحرب الأوكرانية في ذريعة الحرب نفسها.
فخطر انضمام أوكرانيا للناتو لم يكن وشيكاً كما تقول موسكو، فالأمر لم يثر مؤخراً ولم يحدث فيه جديد، بل إن المسؤولين الفرنسيين ألمحوا خلال زيارة رئيسهم إيمانويل ماكرون لموسكو قبل الحرب بأن انضمام كييف للناتو لن يحدث حتى لو يقدم الناتو تعهداً يؤكد ذلك لموسكو.
كما أن الحديث عن أن انضمام كييف المفترض للناتو بمثابة تهديد وجودي لموسكو مبالغة كبيرة، فروسيا لديها حدود مع الناتو عبر دول البلطيق، كما أن روسيا دولة نووية تستطيع مثلها مثل الولايات المتحدة محو العالم عدة مرات، فهل تخشى من انضمام أوكرانيا للناتو، علماً أن دول أوروبا الشرقية التي انضمت للناتو التزمت هي والناتو بتعهدات سابقة لروسيا بعدم نشر قوات غربية بأعداد كبيرة في الجناح الشرقي للحلف.
وفعلياً دول الجناح الشرقي للناتو دول ضعيفة تستطيع روسيا اجتياحها خلال فترة قصيرة، بل إن مجمل القوة البرية لروسيا أكبر من مجمل القوى البرية لدول الناتو الأوروبية مضافاً إليها القوات الأمريكية في أوروبا.
ومن مبالغات روسيا في الحرب وما قبلها حديث، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تعرض سكان دونباس والأقلية الروسية في أوكرانيا ومجمل الناطقين بالروسية في البلاد للإبادة الجماعية، ومع أنه قد يكونون يتعرضون لبعض التضييق، ولكن وضعهم لا يقترب إطلاقاً من وصف الإبادة الجماعية أو حتى جرائم حرب.
وإحدى مبالغات روسيا المتكررة أن أوكرانيا يسيطر عليها النازيون، ورغم أن هناك شعوراً قومياً حاداً مضاداً لروسيا في البلاد منذ عام 2014، ولكن الجماعات اليمينية المتطرفة ليس لها سوى وزن نسبي ضئيل في البلاد، وقد يكون لها وزن عسكري أكبر مثل كتيبة آزوف اليمينية المتطرفة، ولكن في المجمل ما تحصل عليه القوى اليمينية المتطرفة في الانتخابات بأوكرانيا أقل من معظم الدول الأوروبية، كما أن اليمين المتطرف في معظم أوروبا معجب ببوتين الذي يبادله التحية في كثير من الأحيان.
وإحدى المبالغات بين الجانبين هي تلويح أوكرانيا قبل الغزو الروسي مباشرة بالسعي لامتلاك أسلحة نووية في مواجهة التهديد الروسي، وهو أمر غير واقعي بالنظر إلى أنه يحتاج لسنوات ومليارات من الدولارات، وفي المقابل، قابل الروس هذه المبالغة الأوكرانية بالمبالغة في التخويف من خطر تسلح كييف النووي واعتبره بعض المسؤولين الروس سبباً لمسارعة روسيا بالغزو، رغم علمهم بأنه تهديد وهمي.