يتردد مصطلح "دول البلطيق" كثيراً في الآونة الأخيرة، وذلك في ظل تصاعُد التوتر بين روسيا والغرب بعد بدء موسكو هجوماً عسكرياً واسع النطاق على أوكرانيا منذ يوم الخميس 24 فبراير/شباط 2022، سبقه إعلان الرئيس فلاديمير بوتين اعتراف بلاده رسمياً بإقليمي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليين كجمهوريتَين مستقلتين عن أوكرانيا.
وفيما يلي نستعرض قصة دول البلطيق التي كانت تحت مظلة الاتحاد السوفييتي وتحولت بعد انهياره إلى الاتحاد الأوروبي، ودورها في الأزمة المستمرة بين الغرب وروسيا بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي في شمال شرق أوروبا.
ما هي دول البلطيق؟
تسمى أيضاً الدول البَلْطيّة أو بلدان البلطيق، وهو مصطلح جيوسياسي يُستخدم عادة للإشارة إلى ثلاث دول ذات سيادة في أوروبا الشمالية على الساحل الشرقي لبحر البلطيق: إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا.
ولهذه الدول المتجاورة نفس الظروف المناخية والثقافات والتقاليد، وتعتبر دولة إستونيا من أكثر الدول تقدماً فيما بينها، وعاصمتها تالين، وريغا عاصمة لاتفيا، وفيلنيوس عاصمة ليتوانيا.
ولا تشكل هذه الدول الثلاث اتحادًا رسمياً، لكنها تتشارك في التعاون الحكومي الدولي والبرلماني فيما بينها، ومن أبرز مجالات التعاون بين الدول الثلاث هي السياسة الخارجية والأمنية والدفاع والطاقة والنقل.
كانت جميع دول البلطيق ذات يوم ضمن جمهوريات الاتحاد السوفييتي، لكنها أصبحت الآن في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004، وكذلك حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومنطقة اليورو، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بين الأعوام (2011 و2015).
من أين جاءت تسمية دول البلطيق؟
ينبثق مصطلح البلطيق من اسم بحر البلطيق، وهو يعود للقرن الحادي عشر كما تذكر المصادر الغربية. وعلى الرغم من أن هناك العديد من النظريات حول أصل التسمية، إلا أنه يُحتفظ بهذا المعنى في اللغات البلطيقية الحديثة، إذ تعني "البالتاس" في اللغة اللتوانية أو "البلات" في اللغة اللاتفية أي "البيضاء".
ظهر بحر البلطيق منذ العصور الوسطى على الخرائط باللغات الجرمانية بما يقابل "البحر الشرقي" وباللغة الألمانية: أوستسي، وباللغة الدنماركية: أوستاسوين، وباللغة الهولندية: أوشتسي، وما إلى ذلك.
ويقع بحر البلطيق إلى شرق ألمانيا، والدنمارك، والنرويج، والسويد، واستُخدم هذا المصطلح تاريخياً للإشارة إلى "الدومنات" (المستعمرات) البلطيقية للإمبراطورية السويدية، وفي وقت لاحق، المقاطعات البلطيقية في الإمبراطورية الروسية.
خلال القرن التاسع عشر بدأ مصطلح البلطيق يحل محل "أوستسي" اسماً للمنطقة، وكان مصطلح دول البلطيق، حتى أوائل القرن العشرين، يُستخدم في سياق البلدان المجاورة لبحر البلطيق: السويد والدنمارك، وأحياناً ألمانيا والإمبراطورية الروسية، لكن مع ظهور جمعية الشمال (رابطة الشمال الأوروبي) لم يعد يُستخدم المصطلح للسويد والدنمارك.
وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت الدول الجديدة ذات السيادة التي ظهرت على الساحل الشرقي لبحر البلطيق، إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين في فنلندا، هي المعروفة باسم دول البلطيق.
ما قصة دول البلطيق مع الاتحاد السوفييتي؟
في مطلع القرن الثامن عشر، سعت روسيا للاستيلاء على أراضٍ من دول البلطيق التي كانت تسكنها خلال العصور الوسطى العديد من القبائل البلطية مثل الفنلندية الأوغرية وغيرها. ونجحت روسيا بذلك حتى أصبحت جميع دول البلطيق جزءاً من الإمبراطورية الروسية، حيث امتد الحكم الروسي هناك أوائل القرن العشرين.
وخلال الحرب العالمية الأولى، حدثت الثورة الروسية وأنهت الإمبراطورية القيصرية. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى، قاومت شعوب البلطيق محاولات الاتحاد السوفييتي الذي تم إنشاؤه حديثاً لاستعادة السيطرة على أراضيها، وفي عام 1920، وقع السوفييت معاهدات مع لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، معترفاً باستقلالها، لكن هذا الاستقلال لم يدُم طويلاً.
فبعد وقت قصير من بدء الحرب العالمية الثانية، أجبر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين قادة دول البلطيق الثلاث على السماح للقوات السوفييتية بدخول بلادهم. ليتم تنصيب ما يسمى الحكومات الشعبية في وقت لاحق في البلدان الثلاثة. وفي أغسطس/آب 1940، أصبحت دول البلطيق الثلاث جمهوريات سوفييتية بعدما أدخلها ستالين ضمن الاتحاد.
في عام 1941، غزت ألمانيا النازية الاتحاد السوفييتي، وتعرضت دول البلطيق لاحقاً للاحتلال النازي، ولكن بحلول عام 1945، استعاد السوفييت دول البلطيق، التي أصبحت مرة أخرى جزءاً من الاتحاد السوفييتي، لكن على مدار الحرب العالمية الثانية، فقدت جميع دول البلطيق أجزاء كبيرة من سكانها، وظلت تسعى شعوبها لنيل الاستقلال عن السوفييت، حتى نالت ذلك مطلع التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
دول البلطيق تحت المظلة الأوروبية الأطلسية
في عام 1990 شهدت الانتخابات التي اتسمت بالديمقراطية في دول البلطيق فوز الأحزاب المؤيدة للاستقلال عن الاتحاد السوفييتي بالأغلبية في جميع المجالس التشريعية الثلاثة في دول البلطيق. بعد ذلك بوقت قصير، أعلنت البرلمانات الثلاث استقلال بلدانها. حاول السوفييت منع هذه البلدان من الانفصال عن طريق الحصار الاقتصادي، كما وقعت حوادث عنف تورطت فيها القوات السوفييتية خلال عام 1991.
لكن في سبتمبر/أيلول من العام نفسه ومع بداية تفكك الاتحاد السوفييتي، تم الاعتراف الدولي باستقلال دول البلطيق، وتم قبول عضويتها في وقت لاحق داخل الأمم المتحدة، بعد أن انسحبت القوات الروسية من دول البلطيق بالكامل في 31 أغسطس/آب من عام 1994.
فتح استقلال دول البلطيق حقبة جديدة لها كلياً، حيث تمتعت الدول الثلاث بنمو اقتصادي مستدام، وأصبح التكامل مع أوروبا الغربية هدفاً استراتيجياً رئيسياً لها. في عام 2002، تقدمت حكومات البلطيق بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والانضمام إلى عضوية الناتو. أصبحت الدول الثلاث أعضاء في الناتو في 29 مارس/آذار 2004، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي في 1 مايو/أيار 2004.
وبالتوازي مع التغييرات السياسية والتحول الديمقراطي، تم إصلاح اقتصادات الدول السوفييتية السابقة وانخرطت سريعاً بالسوق الأوروبي، وانخفض معدل التضخم في المنطقة بسرعة نسبية إلى أقل من 5٪ بحلول عام 2000.
واليوم يتم تصنيف هذه الدول الثلاث على أنها اقتصادات عالية الدخل من قبل البنك الدولي وتحافظ على ارتفاع مؤشر التنمية البشرية. وقد أصبحت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا أعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، واعتمدت "اليورو" كعملة رسمية لها.
في قلب الصراع الروسي- الأطلسي مجدداً
بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم لها في عام 2014، توجست دول البلطيق إستونيا ولاتفيا وليتوانيا من أن تلاقي المصير نفسه بعد أن تمتعت باستقلالها عن الاتحاد السوفييتي لأكثر من ثلاثة عقود.
وهذه الدول ما زال يسكنها عدد ليس بالقليل من السكان الناطقين بالروسية، وهذا ما يجعل من هذه المنطقة بؤرة قابلة للانفجار في أي لحظة، خصوصاً عندما تتقاطر قوات من حلف شمال الأطلسي (الناتو) في كل لحظة تشعر فيها أن الدب الروسي يتململ في حوض بحر البلطيق.
وخلال السنوات الأخيرة، كثفت دول البلطيق من استعداداتها وجهوزيتها العسكرية بدعم من الناتو، تحسباً لأي تدخل محتمل من القوات الروسية، حيث تجري المناورات العسكرية بانتظام على الأراضي الليتوانية قرب الحدود.
ولا يقتصر الأمر في التأهب والجاهزية لدى القوات المسلحة فقط، ولا حتى باستدعاء الشباب من سن 19 سنة إلى التجنيد الإجباري، بل إن التوعية والتعبئة النفسية تكاد تطال كل السكان بمن فيهم الأطفال في المدارس، وذلك بنشر الكتب والنشرات التحذيرية والتثقيفية في حال حدوث أي تحرك روسي.
من جانبها تنشط روسيا طول السنوات العشر الماضية في بث "دعاية تحريضية" نشطة عبر وسائل إعلامها الموجهة إلى الأقلية الروسية في ليتوانيا كما تقول الحكومة هناك، حيث يبلغ عدد السكان الناطقين بالروسية هناك نحو 7% من إجمالي عدد السكان، فيما يشكل الناطقون بالروسية ما نسبته 40% من سكان لاتفيا.
وفيما تم استيعاب الأقلية الروسية في ليتوانيا ودمجها في الحياة بشكل عام، فإن صعوبة كبيرة تواجه الروس اللاتفيين في الاندماج بشكل اعتيادي، فمعظم الروس هناك لا يتقنون اللغة اللاتفية أصلاً، وهذا يقف عائقاً أمام تجنيسهم، فتجد أكثرهم من فئة "البدون" الذين لا يحملون الجنسية اللاتفية، ويبلغ عددهم 300 ألف على أقل تقدير. وعلى الرغم من أن 40% من اللاتفيين يتحدثون بالروسية، فإنها لغة غير معترف بها في البلاد، ناهيك عن المعوقات الجسيمة التي تضعها الدولة أمام فتح مدارس للروس هناك.
وعلى الخريطة، تبدو دول البلطيق وكأنها مطوّقة روسياً من مختلف الجهات، ولا مجال أمامها سوى البحر، وقد لا تساعدها مساحاتها الجغرافية وديمغرافيتها الصغيرة كثيراً في مواجهة روسيا التي تبدو أمامها لقمة سائغة: (إستونيا: 45.339 كيلومتراً مربعاً و1.3 مليون نسمة. لاتفيا: 64.589 كيلومتراً مربعاً و1.9 مليون نسمة. ليتوانيا: 65.300 كيلومتر مربّع و2.9 مليون نسمة).
دول البلطيق تخشى من حصار "الدب الروسي"
مع تصاعد التهديد الأمني الروسي في شرق أوروبا اليوم وغزو روسيا لأوكرانيا، تشعر ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا بالقلق بشأن انعزالها عن أوروبا وحصارها من الروس وحلفائهم في بيلاروسيا، حيث تركز الدول الثلاث على ما تفعله موسكو في بيلاروسيا المجاورة وما يعنيه ذلك لأمنها، حيث يتواجد آلاف الجنود الروس على الأرض في بيلاروسيا.
وبعد الهجوم على أوكرانيا، تشعر الدول الثلاث بالقلق من قدرة روسيا على عزلها عن بقية أوروبا عبر فجوة سوالكي "Suwalki" الخطيرة، وهي الحدود البولندية الليتوانية الضيقة التي يبلغ طولها 65 كيلومتراً، والتي يُنظر إليها على أنها واحدة من أكثر نقاط الناتو ضعفاً، كما يقول تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، حيث يقع إلى الغرب من هذه المنطقة مقاطعة كالينينغراد الروسية المسلحة بكثافة؛ والتي تعتبر رأس حربة روسيا في خاصرة الناتو.
ويقول المسؤولون في دول البلطيق إن "روسيا كانت انتهازية" ومستعدة لتحدي أوروبا والناتو وتهديد أمن الدول الثلاث، وإنه إذا نجحت روسيا في السيطرة على أوكرانيا، فإن ذلك سيشجعها على زيادة الضغط على دول البلطيق خلال السنوات المقبلة.
في الوقت نفسه يسارع حلفاء الناتو إلى طمأنة دول البلطيق، وقد أرسل الحلفاء مؤخراً قوات إضافية إلى المنطقة كجزء من ثلاث مجموعات قتالية متعددة الجنسيات قوامها حوالي ألف فرد في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. ولدى الولايات المتحدة أيضاً كتيبة متناوبة في ليتوانيا وأرسلت تعزيزات إلى قاعدتها في بولندا، لكن لا تزال دول البلطيق تبحث عن المزيد.
ولذلك، تسعى الدول الثلاث لزيادة الإنفاق الدفاعي فيما بينها، وتطالب واشنطن بوجود دائم للقوات الأمريكية، وتعزيزات أكبر الناتو في المنطقة. ويعمل الناتو بالفعل على زيادة أعداد قواته تدريجياً في أوروبا الشرقية رغم الغضب الروسي، لكنه لا يزال بعيداً عن مضاهاة قوة روسيا في مناطقها الغربية.