دونيتسك ولوغانسك تمثلان معاً إقليم دونباس في جنوب شرق أوكرانيا، ولم يكن اعتراف روسيا بهاتين المنطقتين الانفصاليتين دولتين مستقلتين سوى الخطوة الأولى في سيناريو قد يكون مختلفاً تماماً عما حدث في شبه جزيرة القرم.
كان الرئيس الروسي بوتين قد وقَّع مساء الإثنين، 21 فبراير/شباط، مرسوماً يعترف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، وفي نفس اللحظة مباشرة وقَّع اتفاقيات تعاون وصداقة مع زعيمي المنطقتين المدعومتين من روسيا، جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية.
وتلا ذلك إعلان روسي بأن موسكو لا يمكن أن تسمح بوقوع "حمامات دم" في شرق أوكرانيا، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو إرسال قوات روسية إلى إقليم دونباس بغرض "حفظ السلام"، فيما يُمثل تكراراً لنفس السيناريو الذي طبَّقه الرئيس الروسي بشبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، لكن هناك اختلاف رئيسي بين ما حدث في القرم وما قد يحدث في دونباس.
ماذا تُمثّل دونيتسك ولوغانسك من إقليم دونباس؟
تصدَّرت دونيتسك ولوغانسك محرك البحث عالمياً بعد اعتراف بوتين بهما، ومعهما أيضاً دونباس. المنطقتان توجدان داخل إقليم دونباس، لكنهما لا تمثلان جميع أراضي الإقليم الموجود في أقصى الجنوب الشرقي لأوكرانيا على الحدود الروسية، وهنا تكمن المشكلة.
تُقدّر مساحة إقليم دونباس إجمالاً بنحو 52.3 ألف كيلومتر مربع، ويسيطر الانفصاليون في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك على نحو ثلث مساحة الإقليم فقط، بينما تسيطر القوات الأوكرانية على الثلثين الباقيين، ويتواجه الطرفان على طول خط التَّماس داخل الإقليم، وهو يمثل خط وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عام 2015 على أساس اتفاقيات مينسك.
وترجع جذور الأزمة في دونباس إلى عامي 2013 و2014، عندما شهدت أوكرانيا انتفاضة شعبية ضد حكم الرئيس يانكوفيتش، الموالي لروسيا، الذي رفض توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وبعد سقوط قتلى وجرحى في أحداث الميدان الأوروبي، وهروب يانكوفيتش نفسه، وترجع أصوله إلى دونيتسك، اندلعت حركة انفصالية مسلحة في أقاليم شرق أوكرانيا.
تلك الأقاليم كان من بينها شبه جزيرة القرم ودونباس، وفي ذلك الوقت قدمت روسيا دعمها للانفصاليين، وانتهى الأمر باعتراف موسكو باستقلال شبه جزيرة القرم، ثم إرسال قوات "حفظ سلام" روسية، ومن ثم الموافقة على طلب الجمهورية المستقلة الانضمام لروسيا، وهو ما تم بالفعل.
في ذلك الوقت أحجمت موسكو عن الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس بشكل رسمي، وإن ظلت تقدم الدعم اللوجستي لهما، على أساس أن أغلب سكان دونباس يتحدثون اللغة الروسية، ويعتبرون أنفسهم روساً، بينما نحو 39% منهم يحمل الجنسية الروسية فعلاً.
كيف يرى بوتين الموقف في دونباس؟
رغم أن الانفصاليين في دونيتسك ولوغانسك لا يسيطرون إلا على نحو ثلث مساحة إقليم دونباس، فإنهم يقولون إن الإقليم بأكمله تابع لهم، وهو ما ترفضه أوكرانيا بالطبع، والقتال في تلك المنطقة لم يتوقف بشكل كامل تقريباً منذ اندلع عام 2014، رغم اتفاقيات مينسك.
وطوال الوقت تتبادل السلطات الأوكرانية وجمهوريتا دونيتسك ولوغانسك اتهامات بخرق اتفاقات مينسك، وانتهاك نظام وقف إطلاق النار، وشهدت خطوط التماس بينهما تصعيداً ضخماً في الأيام القليلة الماضية، خصوصاً بعد إعلان بوتين الاعتراف باستقلال "المنطقتين".
لكن السلطات الأوكرانية تدفع، منذ فترة، بقوات إضافية ومعدات عسكرية ثقيلة إلى خط التماس الفاصل بين قواتها المسلحة، والقوات التابعة للانفصاليين، وهذا التطور يرفع من حدة التوتر القائم في دونباس، وتصفه موسكو بأنه استعداد من كييف لارتكاب "حمام دماء" في الإقليم.
وبعد أن وقّع بوتين مرسوم الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك كجمهوريتين مستقلتين، وقّع أيضاً على اتفاقيات الصداقة والتعاون معهما، وقال إنه سيرسل قوات روسية لحفظ السلام هناك، وهو ما يعني أن القوات الروسية ستكون موجودة على خط التماس في دونباس، على بعد أمتار قليلة من القوات الأوكرانية.
لكن بوتين لم يعترف فقط باستقلال لوغانسك ودونيتسك، بل اعترف أيضاً بمزاعمهما بشأن إقليم دونباس كاملاً. إذ قال بوتين: "لقد اعترفنا بمستنداتهم بشأن ملكية إقليم دونباس كاملاً"، وهو ما يثير قلقاً حقيقياً بشأن ما قد تحمله الأيام القادمة من سيناريوهات تبدو "كارثية"، بحسب تحليل لمجلة Politico الأمريكية.
واستطرد بوتين حول تلك النقطة قائلاً "نأمل أن يتم حل الأسئلة الخلافية بشأن دونباس، خلال المحادثات بين السلطات في كييف والجمهوريتين، لكن لسوء الحظ ما نفهمه في هذه اللحظات هو أن هذا الحل غير ممكن بسبب الأعمال العسكرية الجارية حالياً، والتي يبدو أنها في تصاعد مستمر". وأكد بوتين على أن موسكو مستعدة لإرسال "مساعدات عسكرية للجمهوريتين الحليفتين عند الحاجة".
وربما تكون هذه التصريحات من جانب بوتين، والتي صاحبت توقيع قرار الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك، تصعيداً أكبر بكثير من مرسوم الاعتراف نفسه، والسبب هو أن التفسير الوحيد لتلك التصريحات يعني أن سيطرة الانفصاليين على إقليم دونباس بالكامل هو حقهم الذي ستساعدهم موسكو على الحصول عليه بأي وسيلة ممكنة.
ويرى كثير من المحللين أن النفي المتكرر من جانب موسكو لوجود أية نوايا لغزو أوكرانيا كان دائماً ما يأتي مقروناً بتأكيد المسؤولين الروس أنّ موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي، في حال تعرض الروس في أوكرانيا للخطر، وهذه التصريحات من بوتين تتسق مع المواقف المعلنة.
اختلاف جوهري بين دونباس والقرم
وهنا يأتي الاختلاف الكبير بين ما حدث في شبه جزيرة القرم عام 2014 وما يحدث الآن في دونباس، إذ كان الانفصاليون -بدعم روسي بالطبع- يسيطرون على الإقليم كاملاً بعد أن تعرّض الجيش الأوكراني للهزيمة وانسحب بالفعل، وبالتالي سار السيناريو المفضل للرئيس الروسي بسلاسة ودون حرب، إن جاز التعبير.
لكن الموقف الآن مختلف، فالقوات الأوكرانية تسيطر بالفعل على ثلثي الأراضي في دونباس، ودفعت كييف بتعزيزات عسكرية كبيرة إلى خطوط التماس، ولا تزال تدفع بالمزيد، والاشتباكات المتقطعة مستمرة بالفعل على خط التماس بين الانفصاليين والجيش الأوكراني، وسط اتهامات متبادلة بخرق وقف إطلاق النار.
ومن المهم هنا التوقف عند الحصيلة البشرية للصراع المتقطع في دونباس منذ 2014 وحتى اليوم، إذ قتل أكثر من 15 ألف شخص، بحسب تقديرات الحكومة الأوكرانية، وتم إجبار أكثر من مليون ونصف المليون من سكان الإقليم على النزوح من بيوتهم، علماً أن عدد سكان الإقليم كان يبلغ نحو 4.5 مليون نسمة، أي أن هناك نحو 3 ملايين نسمة قد يكونون معرضين لخطر داهم حال سعى أي من الطرفين لحسم الأمور عسكرياً.
فموسكو تقول إن كييف، مدعومة من الغرب، تسعى للقضاء على جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك بالقوة، وتصف ما يحدث بأنه "إبادة جماعية"، بينما تنفي كييف ادعاءات موسكو، ويصف الغرب تلك الادعاءات بأنها "سخيفة" ولا تعدو كونها ذريعة من جانب بوتين لشن غزو شامل ضد أوكرانيا.
ما السيناريوهات المتوقعة في دونباس؟
لكن بعيداً عما يقوله كل طرف فإن الأوضاع على الأرض في إقليم دونباس حالياً يمكن وصفها بأنها تمثل وصفة متكاملة لوقوع "حمام دماء"، إذا ما وقع السيناريو الأسوأ، بحسب ما تفرضه المعطيات على الأرض، وما يراه الخبراء العسكريون والمحللون السياسيون.
فحتى اليوم الأربعاء، 23 فبراير/شباط، لم تدخل قوات روسية ضخمة بشكل رسمي إلى إقليم دونباس، وهذا في حد ذاته يمثل مؤشراً إيجابياً، تضاف إليه تصريحات بوتين نفسه في اليوم التالي لتوقيع مرسوم الاعتراف بالاستقلال، إذ قال إن هذا المرسوم لا يعني تلقائياً إرسال قواتنا إلى هناك، لكننا مستعدون لذلك عند الحاجة.
لكن في حال واصلت الأمور مسارها التصعيدي الحالي، وأرسلت موسكو بالفعل قوات لها إلى جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ستتواجد هذه القوات في مواجهة القوات الأوكرانية، وعندها قد يطلب الروس من الأوكرانيين الانسحاب ومغادرة إقليم دونباس دون قتال، وهو ما قد يحدث وإن كان احتمالاً ضعيفاً.
من يرجحون هذا السيناريو يعتقدون أن الفارق الشاسع في القوة العسكرية بين الجيشين الروسي والأوكراني سيكون عامل حسم في اتخاذ القرار، كما أن الغرب قد يتجه نحو التهدئة وعدم التصعيد، وبالتالي يفضلون مواصلة فرض العقوبات بدلاً من التصعيد العسكري.
لكن في حالة وصول الأمور إلى تلك المرحلة الخطيرة من التصعيد، وعدم تراجع القوات الأوكرانية وانسحابها من خط التماس في دونباس، فهذا يعني وقوع المحظور، واشتعال مواجهة عسكرية شاملة في دونباس، على الأرجح ستحسمها القوات الروسية لصالحها، لكن التكلفة البشرية قد تكون باهظة للغاية، وما يلي ذلك لا يمكن توقعه، وربما تتجه الأمور إلى غزو روسي شامل لأوكرانيا بالفعل.
الخلاصة هنا هي أن هذا السيناريو الذي لجأ إليه بوتين في جورجيا عام 2008، وفي أوكرانيا عام 2014، قد لا يكون ممهداً هذه المرة في دونباس، وربما تفسر هذه النقطة عدم اتجاه الغرب لفرض عقوبات "حقيقية" على روسيا، رداً على الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، لإفساح المجال أمام المزيد من الجهود الدبلوماسية، والأمر نفسه ينطبق على "تروّي" بوتين في إرسال قواته إلى دونباس.