صمت مريب يخيم على واشنطن منذ اعترف بوتين بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، بينما أعلنت ألمانيا تعليق خط الغاز الروسي نورد ستريم2 وأصدر الاتحاد الأوروبي وبريطانيا حزمة عقوبات اقتصادية، فما أسرار هذا التناقض؟
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وقع مساء الإثنين، 21 فبراير/شباط، مرسوماً يعترف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، وفي نفس اللحظة مباشرة وقّع اتفاقيات تعاون وصداقة، بينما جلس مقابله زعيما المنطقتين المدعومتين من روسيا، جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية.
وتلا ذلك إعلان روسي بأن موسكو لا يمكن أن تسمح بوقوع "حمامات دم" في شرق أوكرانيا، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو إرسال قوات روسية إلى إقليم دونباس بغرض "حفظ السلام"، فيما يمثل تكراراً لنفس السيناريو الذي طبقه الرئيس الروسي في شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014.
ماذا يعني قرار ألمانيا تعليق نورد ستريم2؟
الخطوات الروسية التصعيدية في أوكرانيا أثارت، كما كان متوقعاً، تنديد الولايات المتحدة وأوروبا على الفور، وتوعدت العواصم الغربية جميعاً تقريباً بفرض عقوبات على روسيا، لكن ما لم يكن متوقعاً هو إعلان المستشار الألماني "تعليق" خط أنابيب نورد ستريم2، لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وعدم توقع الخطوة نابع من موقف برلين من المشروع من الأساس.
خط أنابيب الغاز نورد ستريم2، تم الإعلان عنه لأول مرة عام 2015، واكتمل تشييده في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ويمتد بطول 1200 كلم بين روسيا وألمانيا، وبلغت تكلفته 11 مليار يورو، وينتظر التصريح بضخ الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا.
ومنذ اللحظة الأولى للإعلان عنه عارضته الولايات المتحدة وبريطانيا وأوكرانيا بصورة شرسة وإن اختلفت الأسباب، فواشنطن ولندن تعتبرانه مكافأة لموسكو ويعطي سلاحاً خطيراً لبوتين يمكنه استخدامه وقتما يشاء للضغط على أوروبا، بينما ستخسر أوكرانيا، التي يمر الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضيها حالياً، مصدراً مهماً من مصادر دخلها.
لكن ألمانيا، ومنذ عهد المستشارة أنجيلا ميركل وحتى اليوم كان موقفها صارماً في رفض الضغوط الأمريكية الهادفة إلى قتل مشروع نورد ستريم2، ورفض فكرة أن الغاز قد يصبح سلاحاً استراتيجياً في يد بوتين. والأسبوع الماضي عندما زار المستشار أولاف شولتس واشنطن، وأعلن بايدن أن نورد ستريم2 سيتم وقفه إذا غزت روسيا أوكرانيا، لم يؤكد شولتس ما أعلنه مضيفه الأمريكي.
بايدن قال للصحفيين إن الولايات المتحدة "ستضع حداً" لخط أنابيب الغاز (الروسي) الذي يصل إلى ألمانيا. "إذا غزت روسيا مرة أخرى فلن يكون هناك نورد ستريم 2، سننهي ذلك"، لكن الرئيس الأمريكي لم يذكر تفاصيل ما قد يحدث، وقال رداً على سؤال حول كيفية القيام بذلك: "أعدكم أننا سنكون قادرين على القيام بذلك".
وعلى الرغم من أن المستشار الألماني كان حريصاً على إظهار تطابق المواقف بينه وبين بايدن، إلا أنه عندما سُئل عن خط الغاز الروسي لم يقدم إجابة واضحة. وقال شولتس للصحفيين إن الولايات المتحدة وألمانيا "متحدتان تماماً" بشأن العقوبات ضد روسيا في حال غزوها أوكرانيا، متجنباً حتى ذكر المشروع بالاسم.
الثلاثاء 22 فبراير/شباط أعلن شولتس، خلال مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الأيرلندي ميشال مارتن، أنه طلب من الهيئة الألمانية المسؤولة عن مشروع نورد ستريم2 "تعليق" عملية مراجعته. وقال إن هذه المسألة "تبدو تقنية، لكنها خطوة إدارية ضرورية تمنع أي مصادقة على خط الأنابيب. ومن دون هذه المصادقة لا يمكن بدء تشغيل نورد ستريم 2″، بحسب موقع دويتش فيله.
وشدد المستشار الألماني على أن "هناك عقوبات أخرى أيضاً يمكن أن نعتمدها في حال اتّخذت (روسيا) إجراءات إضافية، لكن في الوقت الحاضر يتعلق الأمر باتّخاذ خطوة ملموسة للغاية، وفي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أوضحنا نحن ودول أخرى، الليلة الماضية، أن روسيا ليس لديها أي دعم في العالم لتصرفها"، مضيفاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينتظر الآن استفزازاً "لتكون لديه ذريعة لاحتلال أوكرانيا بأكملها".
رد فعل بايدن على خطوة بوتين
لكن إذا كان ذلك موقف ألمانيا فقد أصدر الرئيس بايدن أمراً تنفيذياً يحظر التجارة والاستثمار بين الأمريكيين والمنطقتين الانفصاليتين في دونباس، واستيراد أي سلع أو خدمات أو تكنولوجيا من هناك.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي في بيان إن التدابير التي يتم إعدادها رداً على مرسوم بوتين "منفصلة" عن العقوبات التي جهزتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في حالة الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا.
وقال مسؤول أمريكي كبير لرويترز إن نشر القوات الروسية بالمنطقتين الانفصاليتين لا يشكل حتى الآن "غزواً إضافياً" من شأنه أن يؤدي إلى فرض العقوبات المشددة، نظراً لأن روسيا لديها بالفعل قوات هناك، لكن حملة أوسع نطاقاً قد تحدث في أي وقت.
وبالتالي فإن رد الفعل الأمريكي يمثل نوعاً من المفاجأة، قياساً على موقف بايدن نفسه وكبار المسؤولين في إدارته، ودورهم في الأزمة الأوكرانية على مدى الأشهر القليلة الماضية. فبايدن كان يصدر تصريحات متتالية بشأن الأزمة أكثر مما يصدر عن بوتين أو حتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه، لكن على مدى أكثر من يوم كامل تقريباً منذ اتخذ بوتين قرار الاعتراف بدونيتسك ولوغانسك، لم يصدر عن بايدن تصريح واحد، باستثناء بيان توقيع الأمر بمنع التعامل مع المنطقتين الانفصاليتين.
وبالتالي بات لافتاً أن هناك حالة من "الصمت المريب" خيمت فجأة على واشنطن، مقابل اندفاع أوروبي لافت في الإعلان عن عقوبات اقتصادية ضد روسيا، وتهديدات بفرض المزيد منها إذا ما اتخذت موسكو خطوات تصعيدية أخرى، فهل هذا توزيع متفق عليه للأدوار بين واشنطن وبروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي)؟ أي هل اتفقت أمريكا مع الأوروبيين على أن يتولوا هم التصعيد لأقصى درجة ممكنة، بينما تقود إدارة بايدن عصا القيادة في الجانب الدبلوماسي مع موسكو؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تزال عالقة في الأجواء في انتظار ما تسفر عنه الأيام القليلة المقبلة.
هل يؤثر قرار ألمانيا بشأن نورد ستريم2 على قرار بوتين؟
بعيداً عن هذا الغموض الذي يغلف الموقف الأمريكي في مقابل الحماس الأوروبي اللافت، فإن إعلان برلين تعليق خط أنابيب نورد ستريم2 تحديداً ربما يكون القرار الأكثر وضوحاً، من حيث تأثيراته السلبية على موسكو وعلى أوروبا أيضاً، وخصوصاً برلين بطبيعة الحال.
فالإيرادات التي كانت متوقعة للخزينة الروسية من مشروع نورد ستريم2 في حدود 10 مليارات يورو سنوياً تعتبر مصدراً هاماً للدخل الروسي، وخصوصاً من العملات الأجنبية في ظل العقوبات المتوقعة على موسكو بشأن الأزمة الأوكرانية، وتلك الإيرادات أصبحت "معلقة" نظرياً الآن. علماً أن المشروع لم يكن قد بدأ بعد.
لكن في الوقت نفسه ستعاني ألمانيا أيضاً من خسارة كبيرة، إذ تستورد برلين نحو 60% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا، وتحصل ألمانيا على الغاز الروسي أرخص بنحو 4 مرات من سعره العالمي، بحسب اتفاق بين المستشار الأسبق غيرهارد شرودر وبوتين قبل نحو عقدين من الزمان، بحسب تصريحات المسؤولين في البلدين.
لكن السؤال الأهم هنا يتعلق بمدى التأثير المتوقع للقرار الألماني تعليق خط الأنابيب الروسي على خطوات بوتين، بشأن المواجهة مع الغرب على الأراضي الأوكرانية، على أساس أن المشروع الضخم يمثل أهمية خاصة للاقتصاد الروسي.
وربما يكون تعليق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على العقوبات التي فُرضت في أعقاب الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك كاشفاً إلى حد كبير عن إجابة ذلك السؤال؛ إذ اعتبر لافروف أن واشنطن وبروكسل لن تستريحا إلا بعدما "تستنفدان خياراتهما بشأن ما يسمى بمعاقبة روسيا"، وأضاف: "إنهم يهددون بالفعل بكافة أنواع العقوبات… وقد تعودنا على ذلك"، في إشارة إلى أن موسكو لا تكترث كثيراً بمبدأ العقوبات.
كما أن السوابق التاريخية المتعددة في هذا السياق تشير إلى أن بوتين لا يتراجع عن تلك الخطوات مهما كانت قسوة العقوبات الاقتصادية، كما حدث في شبه جزيرة القرم عام 2014، والتي لا تزال العقوبات التي فرضها الغرب بسبب ضمها قائمة دون أن يكون لها تأثير يذكر على خطوات بوتين.
وهناك أيضاً حالة جورجيا، التي تدخلت روسيا فيها عام 2008 بنفس السيناريو الحالي في أوكرانيا، من خلال الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (منطقتين انفصاليتين أيضاً) ونتج عن ذلك السيناريو تعطيل انضمام جورجيا إلى حلف الناتو حتى اليوم.
وبما أن قضية انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو تمثل لب الصراع في الأزمة، فإن اعتراف بوتين باستقلال دونتسيك ولوغانسك (دونباس) عن أوكرانيا، سيكون بمثابة مسمار جحا الذي يعرقل خطط انضمام أوكرانيا إلى الحلف، كبديل عن الضمانات الأمنية التي يريدها بوتين من بايدن ورفض الأخير تقديمها.
الخلاصة هنا هي أن بوتين، الساعي إلى استعادة المجد السوفييتي وهيبة روسيا القيصرية، لن يردعه التلويح الألماني بوقف مشروع خط الأنابيب لنقل الغاز الروسي، كما يرى أغلب المحللين، كما يقول تاريخ مواقف الرئيس الروسي نفسه.