كانت دونيتسك ولوغانسك- تمثلان معاً إقليم دونباس- قد أعلنتا الاستقلال عن أوكرانيا عام 2014، فلماذا تأخرت روسيا 8 سنوات للاعتراف بذلك الاستقلال؟ إجابة هذا السؤال ترسم سيناريو واحداً ينفذه بوتين بمنتهى الدقة كل مرة.
كان الرئيس الروسي بوتين قد وقَّع مساء الإثنين 21 فبراير/شباط مرسوماً يعترف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، وفي نفس اللحظة مباشرة وقَّع اتفاقيات تعاون وصداقة بينما جلس مقابله زعيما المنطقتين المدعومتين من روسيا، جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية.
وتلا ذلك إعلان روسي بأن موسكو لا يمكن أن تسمح بوقوع "حمامات دم" في شرق أوكرانيا، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو إرسال قوات روسية إلى إقليم دونباس بغرض "حفظ السلام"، فيما يمثل تكراراً لنفس السيناريو الذي تعوَّد الرئيس الروسي على اتباعه في مثل هذه الأزمات على مدى السنوات الماضية.
أصل الأزمة الأوكرانية
قبل الدخول إلى تفاصيل السيناريو الروسي المتكرر في هذه الأزمات، من المهم التأكيد على أن الأزمة الأوكرانية الحالية ترجع أصول فصلها الحالي إلى أواخر عام 2013 وشهدت منذ ذلك الحين عدة فصول وتجاذبات صعوداً وهبوطاً، حتى وصلت إلى قرارات الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين.
والأزمة الأوكرانية لا تتعلق فقط بأوكرانيا وما يجري على حدودها الشرقية مع روسيا، بل تمتد الأزمة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير وتستقر عبر المحيط الأطلسي هناك في البيت الأبيض، إذ تمثل الأزمة في جوهرها صراعاً بين بوتين ونظيره الأمريكي بايدن حول انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
وبالتالي فإن بوتين أراد أن يقدم له بايدن ضمانات قانونية مكتوبة تؤكد أن أوكرانيا لن تصبح يوماً عضواً في حلف الناتو، لكن الرئيس الأمريكي رفض تقديم تلك الضمانات ومن ثم شهدت الأيام الأخيرة تصعيداً مطرداً في الأزمة، وسط تأكيدات من بايدن بأن بوتين "اتخذ قرار غزو أوكرانيا" وإن كانت تقديرات الرئيس الأمريكي بشأن يوم الغزو المفترض (16 فبراير/شباط) لم تتحقق حتى الآن.
ويتضح الارتباط المباشر بين قرار بوتين الأخير الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في إقليم دونباس وبين قصة انضمام أوكرانيا للناتو من خلال خطاب الرئيس الروسي المطول للشعب الروسي، الإثنين، إذ عمد بوتين إلى الخوض في التاريخ بدءاً من عهد الإمبراطورية العثمانية وحتى الأيام الأخيرة التي تشهد توتراً متصاعداً حول توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً.
وقال بوتين: "أرى أنه من الضروري اتخاذ قرار كان ينبغي اتخاذه منذ فترة طويلة، وهو الاعتراف الفوري باستقلال وسيادة جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية". ولم يعبأ بوتين بالتحذيرات الغربية من أن مثل هذه الخطوة ستكون غير قانونية وستقضي على مفاوضات السلام وستؤدي إلى فرض عقوبات على موسكو.
كيف يبدأ السيناريو المفضل لبوتين؟
قياساً على خطوات هذا السيناريو الذي يطبقه الرئيس الروسي في مثل هذه الأزمات، يمكن القول إن الخطوة التالية بعد الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك هي إرسال قوات روسية إلى الجمهوريتين "الصديقتين" بغرض "حفظ السلام"، وهذه الخطوة بدأت بالفعل وإن لم يكن بشكل غير رسمي وبصورة متحفظة حتى الآن.
ورأى شاهد من رويترز طوابير طويلة من المعدات العسكرية، تشمل دبابات، في مدينة دونيتسك بعدما أمر بوتين وزارة الدفاع بإرسال قوات إلى المنطقتين "لحفظ السلام" في مرسوم أصدره بعد قليل من إعلانه الاعتراف باستقلال المنطقتين. وقال مراسل لرويترز إن حوالي خمس دبابات شوهدت في طابور على أطراف دونيتسك واثنتين في جزء آخر بالمدينة. ولم تظهر شارات على المركبات.
ثم تأتي الخطوة التالية وهي إعلان جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية عن إجراء استفتاء شعبي حول الاستمرار كدول مستقلة (لا يعترف بها أحد غير موسكو) أو الانضمام رسمياً إلى الاتحاد الروسي. وبعد أن تتم عملية الاستفتاء ويصوِّت مواطنو الجمهوريتين اللتين تمثلان معاً إقليم دونباس، والذي يتحدث أغلب سكانه اللغة الروسية ونسبة كبيرة منهم روس بالفعل، لصالح الانضمام إلى الاتحاد الروسي، يتقدم رئيسا الجمهوريتين بطلب رسمي إلى بوتين بقبول انضمامهما، ويوافق بوتين ويطلب من الدوما (البرلمان الروسي) إقرار الانضمام.
سيناريو شبه جزيرة القرم
هذا السيناريو ليس تخيلياً أو حتى افتراضياً في حقيقة الأمر، فقد تم تنفيذه حرفياً في إقليم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في أزمة عام 2014. كانت تلك الأزمة قد بدأت عام 2013 عندما اتخذ الرئيس الأوكراني يانكوفيتش قراراً بعدم توقيع اتفاقية الشراكة بين كييف والاتحاد الأوروبي ووقف عمليات اندماج أوكرانيا مع الغرب.
يانكوفيتش كان موالياً لروسيا وصديقاً لبوتين، فأدت قراراته تلك إلى اندلاع مظاهرات حاشدة ضده وأصدر أوامره لقوات الأمن بقمع المظاهرات وفتحت تلك القوات النار على المتظاهرين في الميدان الأوروبي في العاصمة كييف، وهو ما أدى إلى مقتل نحو 100 متظاهر وإصابة المئات.
وعلى مدى شهور تفاقمت الأزمة وأدت في نهاية الأمر إلى هروب يانكوفيتش وتولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً له وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف "تمرداً مسلحاً" واستدعت سفيرها للتشاور. في المقابل، وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة، واعترفت بها موسكو وأرسلت قواتها إلى الإقليم بناء على طلب الحكومة الانفصالية.
وأجرى حاكم جمهورية القرم الشعبية استفتاء صوَّتت خلاله الأغلبية الساحقة لصالح الانضمام إلى الاتحاد الروسي، ثم وجَّه رئيس الجمهورية الانفصالية رسالة رسمية إلى روسيا طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014.
ووقتها فرضت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما (كان جو بايدن نائباً له) عقوبات اقتصادية على موسكو وتم طرد روسيا من مجموعة الثمانية (أصبحت مجموعة السبعة منذ وقتها)، لكن تلك العقوبات لم تردع بوتين أو تجبره على التراجع عن ضم القرم.
كما لم يتوقف الدعم الروسي للانفصاليين في إقليم دونباس، حيث أعلنت دونيتسك ولوغانسك استقلالهما أيضاً، لكن روسيا لم تعترف بالمنطقتين الانفصاليتين وقتها، وهكذا ظل باب الدبلوماسية مفتوحاً وتم التوصل إلى اتفاقيات مينسك، والتي كان يتمسك بها كمخرج للأزمة الحالية، قبل أن يعترف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، والتي يقول الغرب إنها خطوة تعني عملياً تمزيق اتفاقيات مينسك.
سيناريو أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا
لكن هذا السيناريو المتكرر ليس حكراً على أوكرانيا فقط، بل يبدو أنه السلاح الذي يفضله بوتين كي يحقق أهدافه دون الدخول في حرب حقيقية، فهذا ما حدث في إقليم ترانسينستريا في مولدوفا، وأيضاً في منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008. وقد رصد تقرير لشبكة CNN الأمريكية تلك الأحداث في تقرير عنوانه "باعترافه باستقلال دونباس، بوتين يطبق حيلته المفضلة حرفياً".
ففي الحالة الجورجية، وكانت جورجيا أيضاً واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، عندما اقتربت الجمهورية السوفييتية السابقة من الانضمام رسمياً إلى حلف الناتو، اندلعت حركات انفصالية مسلحة داخل أراضيها وتحديداً في منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
فخلال قمة الناتو التي عُقدت في بوخارست مطلع عام 2008، طالبت الولايات المتحدة وبولندا بتسريع عملية انضمام جورجيا إلى الحلف، لكن القرار جاء برفض تقديم الحلف فرصة الانضمام إلى جورجيا بسبب معارضة ألمانيا وفرنسا ودول أخرى، لتفادي إغضاب روسيا. لكن الحلف قدم لجورجيا، عبر قنوات خلفية، وعوداً بضمها إلى عضويته حال تنفيذها الشروط اللازمة لذلك.
وفي أبريل/نيسان 2008، صدر تعليق رسمي عن القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية، الجنرال يوري بالويفسكي، كرد على احتمال انضمام جورجيا إلى حلف الناتو، قال فيه: "إن حدث ذلك، ستتخذ روسيا خطوات بهدف ضمان مصالحها، ولن تكون تلك الخطوات عسكرية فحسب، بل خطوات من طبيعة أخرى". ووعد بوتين بتقديم الدعم والحماية لجمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وحينها لم تكن الجمهوريتان معترفاً بهما من جانب موسكو.
وحتى ذلك الوقت لم تكن أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية قد أعلنتا الاستقلال عن جورجيا، لكن بعد أن شهدت أوسيتيا الجنوبية حرباً بين الانفصاليين، المدعومين بشكل غير رسمي من روسيا، اعترفت روسيا بمنطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية باعتبارهما دولتين مستقلتين، بعدما كانتا منطقتين منفصلتين ضمن جورجيا.
إذ أعلنت المنطقتان الانفصال عن جورجيا وسارعت روسيا بالاعتراف بهما وتوقيع اتفاقيات تعاون وشراكة معهما، ومن ثم أرسلت موسكو قوات روسية إلى المنطقتين وقدمت لهما دعماً لوجستياً ومالياً ضخماً للتصدي لمحاولات الجيش الجورجي إنهاء التمرد الانفصالي، الذي يهدد وحدة الأراضي الجورجية.
لكن روسيا واصلت تسليح الانفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، جنباً إلى جنب مع منح الجنسية الروسية لمواطني المنطقتين الانفصاليتين، وبالفعل نجحت استراتيجية الرئيس الروسي في عرقلة انضمام جورجيا لحلف الناتو حتى الآن، وهو ما يشير إلى أن نجاح تلك الاستراتيجية وقتها وجعلها السلاح المفضل لبوتين في مواجهته المستمرة مع الغرب على الأراضي الأوكرانية حالياً.
لكن سواء اعتمد بوتين الخطوة الأخيرة في السيناريو، أي ضم دونيتسك ولوغانسك إلى روسيا، كما حدث مع شبه جزيرة القرم، أو قرر استمرارهما كجمهوريتين تحظيان بدعم روسي وتمثلان شوكة في حلق الحكومة الأوكرانية والغرب، يتوقف كل ذلك إلى حد كبير على رد فعل الغرب بشأن مطالب موسكو الأمنية بشكل عام؛ مما يعني أن نافذة الدبلوماسية قد لا تكون أُغلِقت تماماً بعد.