بعد 9 سنوات من القتال، قررت فرنسا سحب قواتها من مالي وإبقاءها في منطقة الساحل، بعد أزمة غير مسبوقة مع المجلس العسكري في باماكو، ودخول شركة فاغنر الروسية كمنافس وبديل للفرنسيين، الذين تنتظر رئيسهم إيمانويل ماكرون، انتخابات رئاسية مصيرية على بُعد أسابيع.
لا يبدو المجلس العسكري في مالي مكترثاً لقرار فرنسا وحلفائها الأوروبيين سحب قواتهم من بلاده، بل وطالبهم بالرحيل "دون تأخير"، وكذلك خرجت مظاهرات حاشدة في العاصمة المالية باماكو للتعبير عن فرحتهم بقرار الانسحاب.
فبالنسبة للحكومة المالية وفئات واسعة من الشعب المالي، فإن عملية برخان العسكرية، التي أطلقتها فرنسا في 2014، بعد إنهائها عملية سيرفال في شمال مالي، انتهت بالفشل.
ويشيرون في كل مرة إلى أن الجماعات المسلحة كانت تسيطر على 20% من الأراضي المالية قبل تدخل الجيش الفرنسي في 2013، لكنها اليوم تنشط في 80% من أراضي البلاد.
ولا يتقبل الماليون أن قوات بحجم الجيش الفرنسي لا يمكنها القضاء على جماعات ذات تسليح محدود، ويعتقدون، بحسب ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام المحلية وشبكات التواصل الاجتماعي، بأن باريس تستعمل حجة مكافحة الإرهاب كذريعة للبقاء في بلادهم والهيمنة على ثرواتها.
أخطر من ذلك تتهم الحكومة المالية الجيش الفرنسي بتدريب جماعات "إرهابية"، في إشارة إلى متمردي الطوارق والأزواد في الشمال، والذين وقعت معهم باماكو اتفاقية الجزائر، التي أنهت تمردهم.
وتخشى باماكو أن تحاول باريس تشجيع الطوارق للتمرد مجدداً، عبر تسليحهم وتدريبهم، ما سيضاعف التهديدات الأمنية ضد الحكومة المركزية، التي تقاتل عدة جماعات مسلحة مقربة من تنظيمي "داعش" والقاعدة الإرهابيين.
ليس ذلك فقط، فالحكومة المالية انتقدت بشكل علني عدم تنسيق باريس معها عندما قررت الانسحاب من مدن تيساليت وكيدال وتومبوكتو شمالي البلاد، واعتبرت أنها "تخلت عنها" في حربها ضد الجماعات المسلحة.
وتبدي الحكومة المالية برئاسة شوغل كوكالا مايغا، رغبة في تعزيز سيادتها على البلاد، في مواجهة انتهاك فرنسا لهذه السيادة مراراً وبأشكال مختلفة، دبلوماسياً وعسكرياً.
ناهيك عن رفض فرنسا للانقلابَين اللذين قادهما العقيد عاصيمي غويتا، في 2020 ثم في 2021، وسعيها بكل الأشكال لعزل الانقلابيين، عبر حلفائها في غرب إفريقيا وأوروبا.
ووصل الخلاف بين فرنسا ومالي إلى حد طرد السفير الفرنسي لدى باماكو، بعد سلسلة من الإهانات المتبادلة، آخرها على خلفية مطالبة المجلس العسكري بسحب كتيبة دنماركية من بلاده ضمن عملية "تاكوبا" الأوروبية التي تقودها باريس.
الجيش الفرنسي ليس بعيداً
على الرغم من مطالبة باماكو من القوات الفرنسية الرحيل "دون تأخير"، إلا أن ماكرون لا يريد تكرار مشهد الانسحاب الأمريكي الكارثي من أفغانستان، حتى لا يؤثر ذلك على صورته أمام الناخبين الفرنسيين في انتخابات أبريل/نيسان المقبل.
ويريد ماكرون انسحاباً "بطريقة منظمة"، بحسب ما صرح به خلال مؤتمر صحفي في بروكسل.
وبرر عدم رغبته في رحيل سريع من مالي بضرورة "الاستمرار في تأمين حماية لبعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما) وقوات أجنبية أخرى في البلاد". وقال: "لن أساوم لأي لحظة" على أمنهم.
ويتواجد في شمال مالي 13 ألف عنصر من القوات الأممية، بينما يتمركز نحو 2400 عسكري فرنسي بنقاط مختلفة من مالي من إجمالي 4 آلاف و600 فرد منتشرين في الساحل، بحسب المتحدث باسم هيئة الأركان الفرنسية العقيد باسكال إياني، في مؤتمر صحافي بباريس.
وهذه إشارة إلى أن القوات الأممية قد تنسحب هي الأخرى من شمال مالي خلال الأشهر المقبلة، خاصة وأنها تضم عناصر ألمانية وأوروبية ومن تشاد أيضاً، وذلك بتحريض من فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن.
لكن أخطر ما تحدث عنه المتحدث العسكري الفرنسي أن هذا الانسحاب لم يتم إلا بعد 4 إلى 6 أشهر، أي خلال الصيف المقبل بعد أن تكون الانتخابات الرئاسية الفرنسية بجولتيها طوت صفحاتها، في مايو/أيار القادم.
فماكرون، الذي يعد الأقرب حتى الآن للفوز بولاية رئاسية ثانية بحسب نتائج سبر الآراء، يرغب في استثمار هذا الانسحاب لصالحه خلال الحملة الانتخابية دون أن يؤثر ذلك سلباً على صورته.
فمن جهة، يُرضي الانسحاب من مالي قطاعاً واسعاً من الرأي العام الفرنسي الذي لا يرى جدوى من بقاء قوات بلاده في صحراء الساحل القاحلة، ومن جهة أخرى تأجيل الانسحاب النهائي إلى ما بعد الانتخابات يسمح بتفادي أي ردود فعل سلبية أو حديث عن هزيمة فرنسية في مالي، سببها ماكرون.
كما أن القوات الفرنسية لن تذهب بعيداً، إذ ستنتقل إلى النيجر المجاورة، والتي تعتبر الدولة الوحيدة إلى جانب موريتانيا بين دول الساحل التي شهدت انتقالاً ديمقراطياً للسلطة، على عكس مالي وتشاد وبوركينا فاسو.
فضلاً أن لفرنسا حلفاء في شمال مالي، والذين يقول رئيس الوزراء المالي إن باريس تقوم "بتدريبهم"، في إشارة إلى متمردين من الطوارق وعرب الأزواد، وهي مناطق لا ينتشر بها الجيش المالي، رغم انسحاب القوات الفرنسية من تيساليت وكيدال وتومبوكتو، إلا أن فاغنر شرعت في ملء الفراغ في هذه المناطق.
مخاطر الانسحاب
المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وبالأخص السنغال وكوت ديفوار، تبدو الأكثر قلقاً من الفراغ الذي قد يحدث انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية من مالي.
وعبر عن هذا القلق الرئيس الإيفواري الحسن واتارا، قائلاً إن "الانسحاب المتوقع للقوات الفرنسية والأوروبية من مالي يخلق فراغاً سيحتم على جيوش غرب إفريقيا البقاء بالخطوط الأمامية في القتال" ضد الجماعات المسلحة بالساحل.
أما الرئيس السنغالي ماكي سال، فحذر خلال القمة الإفريقية الأوروبية في بروكسل، من أن مغادرة القوات الفرنسية والأوروبية والأممية، قائلاً: "لن تكون هناك قوات قادرة على تأمين مالي".
إذ إن الجماعات المسلحة وخاصة التابعة لـ"داعش" والقاعدة، ستعتبر الانسحاب الفرنسي والأوروبي من مالي انتصاراً لها، وقد تسعى لتكثيف هجماتها في شمال مالي باعتبارها النقطة الأضعف في الساحل الإفريقي، قبل أن تتمدد جنوباً نحو باماكو ودول الساحل الأخرى، بل وحتى دول غرب إفريقيا.
أحد مؤشرات هذا التوجه، إعلان الجيش المالي، السبت، في بيان، مقتل 8 من جنوده، وإصابة 14، وفقدان 5 آخرين، في معارك مع جماعات مسلحة قال إن قواته المدعومة بالطيران العسكري تمكنت من قتل 27 "إرهابياً" وتدمير مقراتهم.
ووقعت هذه المعارك بالتزامن مع إعلان فرنسا انسحابها من مالي، وفي منطقة تيسيت، القريبة من مدينة غاو، بالقرب من الحدود الثلاثة مع النيجر وبوركينا فاسو، التي شهدت قبل أيام مجزرة مروعة راح ضحيتها 40 مدنياً على الأقل على يد مسلحين، اتهموهم بالتعاون مع جماعة منافسة.
حيث يشتد الصراع بين "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" الموالية للقاعدة مع تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" على مناطق السيطرة والنفوذ.
وهذا العدد الكبير من القتلى سواء في صفوف المدنيين أو العسكري وحتى المسلحين يعطي مؤشراً على أن مالي دخلت مرحلة أكثر شراسة ودموية في القتال.
ومع انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية وربما الأممية، فستحتكر روسيا الساحة المالية، عبر فاغنر، التي وصل عدد عناصرها إلى 800 فرد، بحسب إعلام فرنسي في انتظار أن تصل إلى ألف عنصر.
ومع تركيز روسيا على الجبهة الأوكرانية قد يتقلص اهتمامها بمالي، ما يجعل التحديات والثقل أكبر على الجيش المالي لمواجهة مرحلة صعبة وخطيرة في تاريخ البلاد.