يحبس العالم أنفاسه انتظاراً لخطوة روسيا المقبلة في أوكرانيا، فهل تكون الغزو الشامل أو الحرب المحدودة أو "قطع الرأس"؟ وكيف تستعد موسكو لمنع الغرب من التدخل عسكرياً في الأزمة؟
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد قال إنه يعتقد أن الرئيس الروسي فلاديمير "بوتين اتخذ قرار غزو أوكرانيا خلال أيام"، لكن بايدن نفسه كان قد قال الأسبوع الماضي، إن روسيا ستغزو أوكرانيا يوم الأربعاء، 16 فبراير/شباط، وهو ما لم يحدث.
لكن التطورات على الأرض في شرق أوكرانيا، منذ مساء الخميس 17 فبراير/شباط، تشير إلى أن الحرب ربما تكون قد بدأت بالفعل وربما بسيناريو حذّرت منه الإدارة الأمريكية من قبل وتنفيه روسيا.
وبعد أن ظلت أزمة أوكرانيا الملفَ الأبرز على الساحة السياسية الدولية على مدى شهور طويلة، يبدو أن ما توقعته أغلب التحليلات قد أوشك على أن يتحول لواقع مفزع، في ظل فشل الجهود الدبلوماسية المكثفة.
السيناريو الأول: قطع الرأس
نشر موقع Business Insider الأمريكي تقريراً عنوانه "السيناريوهات الثلاثة الأكثر ترجيحاً لغزو روسيا لأوكرانيا"، رصد موقف أوكرانيا المحاطة بقوات روسية، سواء على حدودها الطويلة مع روسيا، أو من داخل شبه جزيرة القرم المحتلة، إذ عمدت روسيا إلى نشر قوات برية وجوية وبحرية، تتيح للكرملين مجموعة من الاحتمالات إذا شرع في عمل عسكري.
وثمة ثلاثة سيناريوهات قد تلجأ إليها روسيا لتنفيذ هذا العمل العسكري، بحسب الموقع الأمريكي. أولها أن تسعى القوات العسكرية والأمنية الروسية إلى التخلص من الحكومة الحالية وسلطات الدولة، واستبدالها بأشخاص موالين لموسكو (ومملوكين لها)، وهذا السيناريو هو "قطع الرأس".
ولعل ما يثير الدهشة أن هذا يستلزم الاحتفاظ ببعض الأشخاص الذين يعملون بالفعل في الدولة الأوكرانية، فقد أعربت بعض الشخصيات عن دعمها للاتحاد الروسي وعملت معه.
وهذا السيناريو ربما يتطلب نشر وحدات أمنية واستخباراتية على الأرض في أوكرانيا، بالإضافة إلى وحدات من التدريبات العسكرية التي تُجرى حالياً في بيلاروسيا.
على أن خوف روسيا الأكبر في هذا السيناريو يتمثل في الطريقة التي سيرد بها الجيش والشرطة الأوكرانيين. كما قد يُقابل أي تغيير في الحكومة الأوكرانية الحالية بقيادة موسكو باعتراض شعبي عنيف أيضاً.
السيناريو الثاني: حرب في الشرق
الاحتمال الثاني هو سيناريو الحرب الشرقية، وستسعى القوات الروسية في هذا السيناريو إلى تعزيز المناطق الانفصالية في دونباس بالأسلحة والإمدادات والمعلومات الاستخباراتية.
وبعد ذلك يمكنها استخدام هذه المناطق كنقطة انطلاق للاستيلاء على المزيد من الأراضي الأوكرانية، التي يعيش فيها الروس والأوكرانيون الناطقون بالروسية بشكل كامل.
وهذه المناورة قد تأخذ القوات الروسية حتى نهر دنيبر، الذي يقسم البلاد إلى قسم شرقي وقسم غربي. وقد تنتشر أيضاً على طول ساحل البحر الأسود حتى حدود مولدوفا (التي تضم منطقة انفصالية روسية أخرى مُعزَّزة).
وهذه العملية ستدعمها القوات العسكرية المتمركزة في وحول منطقة روستوف أون دون الروسية، في شرق أوكرانيا، والقوات في الجنوب المتمركزة في شبه جزيرة القرم، وكذلك كتائب الجيش الروسي الآلية المتمركزة في ترانسنيستريا الانفصالية في مولدوفا.
ويبدو أن المنحنى الذي اتخذته الأوضاع في الأزمة الأوكرانية، منذ الخميس 17 فبراير/شباط يدعم سيناريو الحرب في الشرق، إذ كدّس الانفصاليون المدعومون من روسيا المدنيين في الحافلات؛ لإجلائهم من المنطقتين المتمردتين في شرق أوكرانيا، صباح الجمعة، وهو تحرك مثير للدهشة يعتقد الغرب أن موسكو قد تستخدمه ذريعة لتبرير غزو شامل لأوكرانيا.
وانطلقت صافرات الإنذار في دونيتسك بعد أن أعلنت هي والمنطقة الأخرى لوغانسك عن إجلاء المدنيين إلى روسيا، على أن يتم نقل النساء والأطفال والمسنين أولاً. وبعد ساعات انفجرت سيارة جيب روسية من طراز "يو.إيه.زد" أمام مقر حكومة المتمردين في مدينة دونيتسك، عاصمة المنطقة التي تحمل الاسم نفسه، وشاهد صحفيون من رويترز السيارة وقد تناثرت حولها الشظايا، فيما طارت إحدى عجلاتها جراء الانفجار.
ويُقدر السكان المدنيون الذين يعيشون في المنطقتين اللتين يسيطر عليهما المتمردون بشرق أوكرانيا، بعدة ملايين، معظمهم ناطقون بالروسية، وكثير منهم حاصلون بالفعل على الجنسية الروسية.
السيناريو الثالث: الغزو الكامل
الاحتمال الأخير هو الغزو الكامل، إذ إن كل القوات التي حشدتها روسيا حتى الآن، وكذلك الوحدات الجوية الموجودة في الشمال، ستسعى إلى هزيمة أوكرانيا عسكرياً. وستستعين بالخبرة الحديثة في العمليات القتالية في سوريا لهزيمة أي تمرد شعبي على القوات الروسية.
وهذا السيناريو سيكون مدمراً لشعب أوكرانيا، إذ يُتوقع أن يُوقع أعداداً كبيرة من القتلى في صفوف الجيش وقوات الشرطة الأوكرانية، وكذلك بين السكان المحليين الذين يقطنون المناطق المتاخمة للمعارك.
وستتدفق أعداد هائلة من اللاجئين إلى غرب أوكرانيا والدول المجاورة مثل بولندا والمجر ورومانيا ومولدوفا. وقد يتسبب هؤلاء اللاجئون في أكبر أزمة تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن اللافت هنا هو أن أياً من هذه السيناريوهات لا يُقصي الآخر، بل قد تحدث بالتتابع إذا لم يشعر الكرملين بالرضا عن التغييرات التي يراها في أوكرانيا أو الغرب.
وأياً كان ما ستفعله روسيا فالدول الأخرى التي تواجه نزاعات غير محسومة مع مناطق انفصالية، مثل مولدوفا مع ترانسنيستريا وجورجيا مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ستراقب ما سيحدث بقلق.
إذ إن انتصار روسيا في أوكرانيا قد يؤدي إلى تأجيج التمرد على هذه البلدان في المستقبل. وإذا فشل الغرب في الرد بقوة فقد تواجه دول مثل إستونيا ولاتفيا تهديدات في المستقبل.
روسيا والتخطيط لردع الغرب
التهديد العسكري الروسي لأوكرانيا يضع الغرب في موقف صعب، وقد يصبح مستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) نفسه على المحك إذا لم يقدم دعماً جدياً لأوكرانيا من خلال الدبلوماسية والمساعدات العسكرية، وربما حتى الرد العسكري. ولو خسر مصداقيته فهذا سيمثل انتصاراً كبيراً لروسيا، التي ترى في حلف الناتو تهديداً لأمنها القومي واستراتيجيتها العالمية لاستعادة سلطتها، وبعبارة أخرى لا يمكن الاستهانة بخطورة الوضع في أوكرانيا.
وتناولت صحيفة The Washington Post الأمريكية هذه الزاوية في تحليل بعنوان "روسيا تخطط لصدّ الناتو في حال غزوها أوكرانيا"، رصد كيف أن بوتين يرسل إشارات متضاربة عن استعداده لغزو أوكرانيا، بينما يواصل جيشه تنفيذ أنشطة لا يبدو الهدف منها تنفيذ هجوم فحسب، ولكن إحباط أي محاولة من جانب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي للتدخل، وفقاً لمسؤولين ومحللين غربيين.
فإجراء تدريبات نووية واسعة النطاق، ونشر دفاعات جوية متطورة في بيلاروسيا وأماكن أخرى، ونشر عتاد بحري في البحر الأسود والبحر المتوسط، يؤكد للعواصم الغربية مدى صعوبة وخطورة أي محاولة للتدخل.
وقال سامويل كارب، المتخصص في الشؤون الروسية وخبير السياسة البارز في مؤسسة راند، للصحيفة الأمريكية إن الكرملين يسعى إلى "إثناء" التحالف حتى عن مجرد التفكير في تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا. وقال: "الروس درسوا هذه العملية من منظور أن لديهم مشكلتين من الضروري حلهما. الأولى هي المشكلة المباشرة المتمثلة في دحر الخصوم محدودي القوة على طول حدود بلادهم مثل أوكرانيا، والأخرى هي ردع الناتو والولايات المتحدة".
وأفادت وسائل إعلامية روسية رسمية، أن البلاد تخطط لإجراء تدريباتها النووية الاستراتيجية السنوية خلال النصف الأول من هذا العام، في وقت أبكر من المعتاد. وقال مسؤولون أمريكيون وأوروبيون إنهم يتوقعون أن تبدأ تلك التدريبات هذا الشهر، وربما تتزامن مع غزو أوكرانيا، وبالفعل تجرى تلك التدريبات السبت 19 فبراير/شباط بإشراف بوتين نفسه.
وقال مسؤول استخباراتي غربي بارز، تحدث مثل غيره شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة مسألة أمنية حساسة، إن القصد من هذه التدريبات "إرسال رسالة إلى الغرب بأن "لدينا قدرات استراتيجية، وأننا قد نلجأ لاستخدامها إذا تماديتم معنا".
وأضاف المسؤول نفسه لواشنطن بوست، أن التدريبات العسكرية المشتركة بين روسيا وبيلاروسيا، التي من المقرر اختتامها الأحد 20 فبراير/شباط، الهدف منها استعراض قدرات موسكو، فضلاً عن توفير غطاء لغزو أوكرانيا من الشمال في حال حدوثه.
وضمت هذه التدريبات منظومات الدفاع الجوي إس-400، المتمركزة على مسافة قريبة جداً من الحدود البولندية، وبإمكان هذه المنظومات إسقاط طائرات وصواريخ والوصول إلى داخل أراضي دول أعضاء في حلف الناتو.
وتنصيب منظومات إس-400، هناك جزء من تحرُّك روسي أشمل لشحن المجال الجوي بدرجة تردع أي تدخل غربي. وفضلاً عن ذلك، فالصواريخ التي يقول محللون عسكريون إن روسيا نصبتها في منطقة كالينينغراد الروسية، وبيلاروسيا، والأراضي الروسية بالقرب من أوكرانيا، والبحر الأسود، عند اجتماعها مع صواريخ إس-400، ستجعل إرسال الولايات المتحدة أو حلفائها طائرات إلى أوكرانيا مخاطرة رهيبة، إن لم تكن مستحيلة في حالة نشوب حرب كاملة. وهذه التحركات أيضاً تشكل تهديدات لحلف شمال الأطلسي في دول البلطيق.
وأكدت روسيا قوتها البحرية وقربها من سفن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بتدريبات شاملة، نفذتها يوم الثلاثاء 15 فبراير/شباط، في البحر المتوسط. وأشرف وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو على هذه التدريبات التي قالت وكالة الأنباء الحكومية الروسية تاس إن ما يربو عن 15 سفينة قتالية من أساطيل روسيا في المحيط الهادئ والقطب الشمالي والبحر الأسود شاركت فيها.
ونقلت روسيا أيضاً أسطولاً من السفن البحرية إلى البحر الأسود، ويضم سفن إنزال من فئة روبوشا، المصممة لغزو الأراضي من خلال عمليات الإنزال على الشاطئ. وقد شوهدت غواصة روسية من طراز كيلو، التي لها القدرة على ضرب أهداف بصواريخ كروز كاليبر، الشبيهة بصواريخ توماهوك الأمريكية، هذا الأسبوع، وهي تمر عبر مضيق البوسفور إلى البحر الأسود. وقد صدرت إشعارات بإغلاق أجزاء كبيرة من بحر آزوف، ولكن رُفعت لاحقاً، في تأكيد على قدرة روسيا على حصار أوكرانيا.
وقال الأدميرال المتقاعد جيمس فوغو الثالث، القائد السابق للقوات البحرية الأمريكية في أوروبا وإفريقيا، إنها إشارة على أنه "سيكون هجوم بري جوي بحري". وهذا الحضور البحري الضخم يُظهر، إلى جانب مساهمته في الغزو المحتمل لأوكرانيا، قدرة روسيا على إحداث مشكلات لثلاث دول في حلف الناتو لديها أيضاً سواحل حيوية على البحر الأسود.
واعتداء روسيا السابق على أوكرانيا في بحر آزوف- هاجمت السلطات الروسية ثلاث سفن تابعة للبحرية الأوكرانية في مضيق كيرتش عام 2018 وأسرت 24 من بحارتها في نزاع استمر لفترة طويلة- يثير احتمالية ظهور صعوبات أكبر في البحر الأسود. والحضور الروسي الحالي قد يؤدي إلى تعطيل رحلات سفن الناتو الحربية في هذه المياه.
وقال فوغو إن السفن الحربية الأمريكية ستستمر في التوغل في البحر الأسود، لكن الإقدام على ذلك الآن قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الحالية. وأضاف: "أعتقد أننا سنواصل التوغل هناك واستعراض قواتنا، لكن حدوث هذا في الوقت الحالي قد يزيد من سوء الوضع".