يمثل الارتفاع المطرد في دخول المواطنين بالصين، أكثر من 1.4 مليار نسمة، منجم ذهب للشركات الغربية، لكن تنامي الشعور بالقومية والعداء للغرب أزاح "نايكي" و"أديداس" عن صدارة المبيعات في السوق الأضخم.
ومنذ أن اشتعلت الحرب التجارية بين بكين وواشنطن في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتحولت إلى حرب باردة شاملة بين الصين وأمريكا مع تولي جو بايدن المسؤولية، أصبح تركيز الرئيس شي جين بينغ واستراتيجيته مُنصبَّين على إحياء الشعور بالقومية الصينية لدى مواطنيه.
وتمثَّل المُكوِّن الحاسم والرئيسي في الاستجابة الصينية لجائحة كورونا في نشر القومية التي تفرضها الدولة، والتبني الضمني للقومية على المستوى الشعبي، وبينما حفَّزَت أزماتٌ سابقة استجابةً مُشابِهة، فإن أزمة كوفيد-19 حدث فارق في التاريخ السياسي الصيني، وتختلف تداعياته على القومية الصينية عن الحملات القومية الماضية، بحسب محللين صينيين وغربيين.
"لعنة" القومية الصينية
وكالة Bloomberg الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "كيف أزاحت القومية في الصين شركتي نايكي وأديداس عن صدارة المبيعات؟"، رصد تداعيات الصراع السياسي بين الصين والغرب على أرباح الشركات الغربية في السوق الصينية.
فمع دخول الصينيين الآخذة في الارتفاع وإطلاق العنان لنمط الحياة الاستهلاكية، كان من المتوقع أن يدفع هؤلاء المستهلكون عجلة نمو الشركات الغربية لعقود مقبلة. لكن سرعان ما تغيرت تلك الحسابات، إذ تتنافس الصين على المسرح العالمي مع الولايات المتحدة الأمريكية وآخرين على كل شيء، من التجارة إلى الأمن السيبراني وحقوق الإنسان.
وعلى نحو متزايد، بات المستهلكون الصينيون يتصرّفون على نحو متزايد بصفتهم امتداداً للأجندة السياسية للحكومة الصينية، وهي علامة مقلقة للعلامات التجارية العالمية التي راهنت على السوق الصينية التي تبلغ قيمتها 6 تريليونات دولار.
وتعتبر شركات الأحذية الرياضية مثالاً كاشفاً، حيث تُظهر أربع سنوات من المعاملات على أكبر منصة تجارة إلكترونية تبيع السلع من الشركات للمستهلكين في الصين، وهي منصة "تيمول" التابعة لمجموعة "علي بابا" الصينية للتجارة الإلكترونية، سرعة وعمق انتشار هذه النزعة القومية.
إذ يبتعد المستهلكون عن العلامات التجارية الغربية على الرغم من ملايين الدولارات المستثمرة لجذب هؤلاء المتسوقين المحليين. لقد أصبح المستهلك الصيني يتجه أينما تسير السياسة في بلاده، بنمط أعمق وأكثر استدامة ممّا كان يُفهم سابقاً.
وكشف تحليل بيانات جمعته شركة "تاوسج دوت كوم" المتخصصة في بيانات التجارة الإلكترونية، ومقرها مدينة هانغتشو الصينية، أنَّ الأحداث السياسية التي تتورط فيها شركات أجنبية عاملة في الصين- بدايةً من مجموعة مرسيديس-بنز وكريستيان ديور وصولاً إلى دولتشي آند غابانا- باتت تحمل تأثيراً سلبياً دائماً على مبيعاتها بدرجة أكبر من ذي قبل.
"نايكي" و"أديداس" في الصين
يتضح ذلك من انخفاض مبيعات شركتي "نايكي" وأديداس" إلى أدنى مستوى عندما أعلن مسؤولو كلتا الشركتين أنَّهم لن يستخدموا قطن إقليم شينجيانغ؛ تضامناً مع حملة واسعة دشنتها مجموعة من العلامات التجارية الأجنبية على شبكات التواصل الاجتماعي في مارس/آذار 2021، لمقاطعة قطن شينجيانغ، حيث تُتّهم الصين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد الإيغور المسلمين، وهو ما سمح للعلامات التجارية المحلية بإزاحة العملاقين الغربيين لأول مرة عن صدارة مبيعات الملابس والأحذية والأدوات الرياضية.
وبعد أشهر من تلك الأحداث، يواصل المنافسون الصينيون مثل شركتي "أنتا سبورتس" و"لي نينغ" -اللتين أعلنتا دعمهما لقطن شينجيانغ- تجاوز منافسيهم الغربيين في حجم المبيعات.
استفادت الشركات المحلية الصينية من تنامي هذه النزعة القومية بإنتاج منتجات تستهدف المستهلكين المحليين، من قطع ملابس مزركشة بأحرف صينية إلى أحذية رياضية مستوحاة من المدينة المحرمة.
وبحلول نهاية يناير/كانون الثاني 2022، سيطرت شركة "أنتا سبورتس" و"لي نينغ" على 28% من حجم مبيعات الأحذية الرياضية، بزيادة 12 نقطة مئوية عما كانت عليه قبل ضجة قطن شينجيانغ.
وزاد حجم مبيعات أفضل العلامات التجارية الصينية للأحذية الرياضية بنسبة نحو 17% خلال الأشهر الـ12 الماضية، وهو العام الذي ظلت فيه حدود الصين مغلقة للسيطرة على تفشي كوفيد-19 وتعرضت البلاد للهجوم بشأن أصول هذا الفيروس. في المقابل، تراجعت مبيعات علامات تجارية أجنبية بنسبة 24%.
لا يتضح هذا النمط في سوق الأحذية الرياضية فحسب، بل عُثر على أنماط مماثلة من الاستهلاك القائم على النزعة القومية في قطاعات مختلفة مثل مستحضرات التجميل والمشروبات غير الكحولية وأغذية الأطفال وملابسهم. لقد أزاحت علامات تجارية محلية بالفعل علامات تجارية عالمية، مثل نستله، عن مركز الصدارة في قائمة الأعلى مبيعاً عبر الإنترنت، وهو ما يعكس مسار سنوات من الهيمنة.
في هذا الصدد، قال جاي ميليكين، شريك رئيسي بشركة "Prophet" الاستشارية المتخصصة في مجال التسويق وإدارة العلامات التجارية: "انتقل المستهلكون من مجرد الاستجابة للأحداث السلبية إلى إيقاظ شكل من أشكال القومية لتكوين رد فعل أكثر استباقية وفعالية".
جدل شينجيانغ لحظة فارقة
يعد التسوق عبر الإنترنت في الصين، حيث يتصل المستهلكون رقمياً عبر جميع الأعمار بدرجة تتجاوز كثيراً المستهلكين في الولايات المتحدة، مؤشراً في الوقت الفعلي لمعرفة المشاعر تجاه العلامة التجارية. وفي دولة يحدث فيها أكثر من نصف عمليات الشراء عبر التجارة الإلكترونية، يُعد الطلب عبر الإنترنت مصدراً أسرع وأكثر كشفاً للمعلومات حول المستهلك الصيني من المعاملات المادية المباشرة عبر المتاجر.
يُرجح أن يتمتع المتسوقون الصينيون بمزيد من الخيارات كلما انطلقت دعوة "اشترِ الصيني" مع بدء الشركات المحلية في اقتحام قطاعات جديدة، تشمل مستحضرات التجميل والملابس الداخلية والحقائب الفاخرة ومنتجات الألبان،
في الماضي، تجنَّب المشترون الصينيون الأثرياء إلى حدٍّ كبير، العلامات التجارية المحلية، وسط مخاوف بشأن جودة وسلامة منتجاتهم، لكن اتجاه البلاد نحو العزلة في ظل المزاج القومي للرئيس شي جين بينغ وتطور العلامات التجارية المحلية قد أضعفا هذه الممانعة.
وقال جوناثان كامينغز، رئيس منطقة آسيا والمحيط الهادئ في وكالة "Landor & Fitch" العالمية للاستشارات وتصميم العلامات التجارية، لـ"بلومبيرغ": "تزداد ثقة المستهلكين الصينيين بالعلامات التجارية المحلية. ربما كانت المقاطعة في الماضي مجرد وقفة عابرة، لكنها بدأت الآن في خلق تأثير أكثر ديمومة في عقلية الناس، لأنَّهم يعرفون أنَّ لديهم بديلاً".
هل تغلق السوق الصينية أبوابها في وجه الغرب؟
تُشكّل هذه النزعة القومية الاستهلاكية معضلة بالنسبة للعلامات التجارية الأجنبية التي راهنت بشدة على السوق الصيني. ورغم أنَّ السوق الاستهلاكية الصينية أهم من أن نتجاهلها، فإنَّ محاولة التوافق مع بكين تخاطر أيضاً بردّ فعل عنيف من الحكومات الغربية والمتسوقين الغربيين.
قبل الجدل بشأن شينجيانغ، ساهمت منطقة الصين الكبرى بأكثر من 20% من الإيرادات العالمية لشركتي "نايكي" و"أديداس"، بعد أن تضاعفت تلك الإيرادات تقريباً في العقد الماضي. لكن انخفضت تلك الإيرادات إلى قرابة الخُمس في الربع الأخير من العام الماضي.
لكن المسؤولين التنفيذيين في شركتي "نايكي" و"أديداس" قالوا مراراً إنَّهم يزيدون رهاناتهم على الصين على الرغم من تراجع أربحاهم. رفض ممثلو شركة "أديداس" الإدلاء بمزيد من التعليقات بشأن البيانات الحديثة، بينما لم ترد شركة "نايكي" على طلبات موقع "Bloomberg" الأمريكى من أجل التعليق.
وكان جون دوناهو، الرئيس التنفيذي لشركة "نايكي"، قد قال في اجتماع مع المحللين لمناقشة النتائج المالية للشركة، في ديسمبر/كانون الأول: "نتحسن قليلاً كل ربع مالي. سنواصل الاستثمار لقيادة السوق الصينية".
من جانبه، أوضح كاسبر رورستيد، الرئيس التنفيذي لشركة "أديداس" للمحللين، في نوفمبر/تشرين الثاني، أنَّ شركته شهدت تطبيعاً بمعدل بطيء جداً واختلاف جوهري بين العلامات التجارية المحلية وغير المحلية في الصين، لكنه أكَّد لهم أنَّ التوتر الجيوسياسي آخذ في التراجع.
تستثمر "نايكي" و"أديداس" في تصميم المنتجات وفقاً للأذواق المحلية واستخدام ابتكارات البيع بالتجزئة الشائعة في الصين، مثل التسوق عبر البث المباشر، لزيادة الطلب.
ومع ذلك، تشعر الشركتان بالتهديد وسط استمرار قرع طبول القومية الصينية. يقول محلّلون إنَّ كلتا العلامتين التجاريتين تكافح من أجل إقناع كبار الرياضيين المحليين بتأييدها، خاصةً خلال الفترة السابقة لانطلاق دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين. وبينما استعادت "نايكي" صدارة مبيعات الأحذية الرياضية في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، تراجع حجم مبيعاتها في يناير/كانون الثاني هذا العام، حيث رفع الحدث الرياضي الجماعي درجة الشعور بالكبرياء والفخر الوطني مرة أخرى.
قال كلايد تشين، وهو شاب صيني يبلغ من العمر 25 عاماً يعمل في قطاع رعاية الحيوانات الأليفة وأمضى ما يقرب من 10 سنوات بالمملكة المتحدة من أجل الدراسة: "لم أهتم كثيراً بالعلامات التجارية الصينية قبل عام 2016. لكن نظرتي إلى المنتجات الوطنية تغيّرت الآن، بسبب الأحداث السياسية بدايةً من احتجاجات هونغ كونغ إلى مواقف العلامات التجارية الأجنبية من سياسات بلادي. بدأت أشعر بضرورة دعم منتجاتنا الوطنية. في الوقت نفسه، سهَّلت شبكات التواصل الاجتماعي العثور على المنتجات المحلية ذات الجودة والتصميم الجيدَين".
وبات التحوّل إلى المنتجات المحلية ملحوظاً حتى في القطاعات التي اعتاد فيها المتسوقون الصينيون تفضيل المنتجات الغربية. على سبيل المثال، كان المستهلكون الصينيون يتجنّبون على نطاق واسع، شراء حليب الأطفال المصنوع محلياً بعد فضيحة مميتة عام 2008 تتعلق بحليب أطفال ملوث، لكن الآن اكتسبت شركات محلية مثل "China Feihe Ltd" ميزة تنافسية أمام الشركات المُصنّعة الغربية.
تعد شركة "نستله" الآن العلامة التجارية الأجنبية الوحيدة الموجودة في قائمة العشرة الأوائل الأعلى مبيعاً في قطاع الأغذية والمشروبات، إذ احتلت المرتبة الرابعة. تفوقت شركات ناشئة محلية أخرى مثل شركة "Adopt A Cow" لمنتجات الألبان على نظيراتها الأجنبية. كذلك، تفوقت مستحضرات تجميل من العلامة التجارية المحلية "Colorkey" على منتجات تابعة لعلامات تجارية عالمية راسخة مثل "L'Oreal" و"MAC Cosmetics".