في ظل التصعيد الروسي واستمرار لعبة "حافة الهاوية" التي يخوضها الرئيس فلاديمير بوتين مع خصومه الأمريكيين والأوروبيين، يبدو أن مغازلة أوكرانيا للغرب كلفتها ثمناً باهظاً، حتى قبل أن تشن روسيا عليها الحرب. فقبل عقد من الزمن تقريباً، أدَّت انتفاضة أهلية في أوكرانيا ضد تحوُّل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش صوب موسكو ورفض إبرام اتفاق شامل مع الاتحاد الأوروبي إلى إجباره على الخروج إلى المنفى، لكن ليس قبل أن تقع مجزرة ساحة "ميدان" في كييف بحق المحتجين. ومن أجل معاقبة الأوكرانيين على إرادتهم، ردَّ بوتين بتقسيم بلادهم، فضمَّ شبه جزيرة القرم وقام بحكم الأمر الواقع باحتلال إقليم دونباس شرقي أوكرانيا.
هل تلاشى حلم انضمام أوكرانيا للناتو والاتحاد الأوروبي؟
رغم أزمة 2014، تشبث الأوكرانيون بالأمل. بل جعلت أوكرانيا في عام 2019 رغبتها في الانضمام إلى الغرب جزءاً من دستورها. وأعلن رئيس البرلمان الأوكراني أندريه باروبي، مبتهجاً، عقب تمرير التعديل الدستوري: "ستنضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ستنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو!".
علَّقت القوى الغربية أمل أوكرانيا في الانضمام إلى ناديي الصفوة هذين لسنوات. والآن تتلاشى سريعاً حتى الفرصة الضئيلة التي كانت قائمة سابقاً لانضمام أوكرانيا للناتو أو الاتحاد الأوروبي، كما يقول أنتوني فايولا، الكاتب بالشؤون الخارجية بصحيفة The Washington Post الأمريكية.
فقد امتنع قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن منح بوتين ما طالب به علانيةً: تعهُّد قاطع بألا تنضم أوكرانيا إلى الناتو أبداً. لكنَّهم أقرّوا بأنَّه لا توجد خطط فورية لضم أوكرانيا، محتجين في ذلك إلى حدٍّ كبير بالمشكلات المستمرة المتعلقة بالفساد وضعف سيادة القانون.
وقالت واشنطن والقوى الأوروبية الرئيسية الأخرى أيضاً إنَّها لن ترسل قواتٍ على الأرض للدفاع عن أوكرانيا في وجه الروس، وهو الأمر الذي كان سيتعين عليهم فعله فيما لو كانت أوكرانيا جزءاً من الناتو. وكان الاتحاد الأوروبي، بموجب قواعد التكتل الخاصة بالدفاع الجماعي، سيكون ملزماً أيضاً بالرد فيما لو انضمت أوكرانيا إلى الاتحاد الذي يضم 27 عضواً.
واقترب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، المحاصر في وضع مستحيل في ظل عدم تمتعه بعضوية أيٍ من التكتلين، هذا الأسبوع أكثر من الاعتراف بالواقع. فقد اعترف الإثنين الماضي، 14 فبراير/شباط، بأنَّ هدف أوكرانيا القائم منذ سنوات للانضمام إلى الناتو قد لا يكون أكثر من مجرد "حلم". بل أفادت صحيفة The New York Times الأمريكية الأربعاء، 16 فبراير/شباط، بأنَّ الرئيس الأوكراني يدرس إجراء استفتاء محتمل يمكن أن يمنع بلاده من الانضمام إلى الناتو، مُستجيباً بذلك لمطلب رئيسي لبوتين.
وقال زيلينسكي الإثنين الماضي، متحدثاً عن عضوية حلف الناتو: "إلى متى يجب أن نمضي في هذا المسار؟ مَن سيدعمنا؟".
أوكرانيا محبطة وستكون شبه خاضعة لروسيا
يقول أنتوني فايولا إن تفكير الرئيس الأوكراني ينُم عن إحباط بلد سعى للإفلات من فلك روسيا والاستفادة من ذلك النوع من الرخاء الذي شهدته بلدان الكتلة الشرقية السابقة مثل بولندا التي انضمت إلى كلٍّ من الاتحاد الأوروبي والناتو. وانضمام أوكرانيا للناتو والاتحاد الأوروبي هما أمران مختلفان، لكنَّهما كانا متشابهين جوهرياً في الغرض: إدماج أوكرانيا في الغرب.
يغازل الناتو والاتحاد الأوروبي كييف منذ سنوات. فتعهَّد أعضاء الناتو في "قمة بوخارست"، رومانيا، 2008 بمنح العضوية لأوكرانيا وجورجيا يوماً ما. ودعم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن مساراً أسرع نحو الانضمام، لكنَّ فرنسا وألمانيا رفضتاه. ومنذ ذلك الحين، بعثت روسيا، من خلال مهاجمة كلا البلدين، بتحذيرات لا لبس فيها حول كلفة ذلك إذا ما فعلتاه.
يُنبئ عدم إدماج أوكرانيا في أيٍ من الحلف أو الاتحاد عن حقائق متناقضة. فمن ناحية، يهدف حلف الناتو، وبدرجة أقل الاتحاد الأوروبي، إلى كبح القوة الروسية والتمسك بمبدأ حق تقرير المصير الوطني. لكنَّ يتهاوى هذان الهدفان أمام إدراك الحقائق الجيوسياسية والحاجة لتوازن أمني في أوروبا على نحوٍ يجعل انضمام أوكرانيا مستحيلاً عملياً طالما بقي بوتين في الكرملين.
كان القادة الأمريكيون واضحين جداً علانيةً في معارضتهم لفكرة أنَّ روسيا بقيادتها الاستبدادية يجب أن تحتفظ بمجال نفوذ في الكتلة السوفييتية السابقة. لكن بدا أنَّ بعض القادة الأوروبيين أقرّوا ضمناً بموقف موسكو. كان ذلك صحيحاً في عام 2008. فقال رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، فرانسوا فيون: "نعارض دخول جورجيا وأوكرانيا حلف الناتو لأنَّنا نعتقد أنَّ ذلك ليس الاستجابة الصحيحة لتوازن القوى في أوروبا وبين أوروبا وروسيا". ولا يزال صحيحاً الآن. فقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأسبوع الماضي بعد لقائه بوتين: "لا أمن للأوروبيين إذا لم يكن هنالك أمن لروسيا".
دول عديدة لا تزال تقف على أعتاب الاتحاد الأوروبي
يُعرَف الاتحاد الأوروبي بفتحه الباب أمام المنضمين الجدد ثم ما يلبث أن يغلقه، ولتأخذوا تركيا مثالاً. وقد توسع حلف الناتو- الذي سمح بانضمام سبع دول في أوروبا الشرقية عام 2004- في السنوات الأخيرة ليضم الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية. لكنَّ السماح بدخول الأوكرانيين- الذين يُصِرُّ بوتين على أنَّهم يُشكِّلون "شعباً واحداً" مع روسيا- أكثر تعقيداً بكثير.
ويبقى الانتقال الديمقراطي الأوكراني الذي لا يزال فوضوياً مشكلةً كبيرة. لكنَّ تحول الرئيس الروسي على مدار العقدين الماضيين من "رجل استبدادي إلى مُنتقِم عدواني" يمثل عاملاً مُغيِّراً لقواعد اللعبة. ففي عام 2004، حين انضمت بلدان البلطيق ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا- وكلها جمهوريات سوفييتية سابقة- إلى الناتو، كان هنالك أنين واتهامات مضادة من جانب موسكو، لكن لم تكن هنالك تحركات ضخمة للقوات إلى حدود هذه البلدان.
"الغرب منح أوكرانيا أملاً كاذباً"
من جانبه، يقول باري بافل، النائب الأول لرئيس المجلس الأطلسي لصحيفة واشنطن بوست: "ما تغيَّر هو تفكير القيادة الروسية. إنَّها تصبح عدوانية أكثر فأكثر. وأكثر ما يخيف بوتين هو وجود بلد ديمقراطي مزدهر قريب الصلة كثيراً بروسيا على حدودها مباشرةً".
يجادل البعض بأنَّ التبنّي غير الكامل من جانب الغرب لأوكرانيا منحها أملاً كاذباً، فملأها فقط بالجرأة الكافية لمواصلة قتال القوات الموالية لروسيا في دونباس والصخب من أجل إعادة شبه جزيرة القرم بدلاً من الإقرار ببساطة بالأفضلية الروسية.
ويقول بنجامين فريدمان، مدير السياسات بمركز أولويات الدفاع، إنَّ الولايات المتحدة وأوروبا "قالتا ما يشبه الرسالة: (سنساعدكم لكن لن ندافع عنكم).. وقد أطال ذلك الحرب الأهلية في الشرق وجعل الأوكرانيين يتجنَّبون التوصل إلى تسوية وفق الشروط الروسية، وهو للأسف ما يتطلَّبه حلهم الجيوسياسي".
لكن هناك رأي آخر يرى أنَّ "الغرب بذل أقصى ما بوسعه من أجل أوكرانيا في السياق الجيوسياسي القائم، وأنَّه تجب الإشادة بقراره رفض المطالب الروسية". ففي الوقت الراهن، يجعل خطر نشوب حرب نووية المواجهة العسكرية مع روسيا في ساحة شرق أوروبا فكرة ميتة قبل ولادتها. لكنَّ الغرب أبقى بصيص أمل في نافذة بعيدة لأوكرانيا، مُتوقِّعاً ما يمكن أن يكون احتمالاً بعيداً لمستقبل جديد به ما يكفي من التغيير الداخلي وفي عالم يخلو من بوتين.
ومع وجود ما يُقدَّر بـ150 ألفاً من قوات بوتين على حدود أوكرانيا، قد يبتعد هذا المستقبل أكثر وأكثر. لكن ربما لا يكون ميتاً إلى حين وجود علم روسي يرفرف فوق ساحة ميدان. يقول دانيال فريد، السفير الأمريكي السابق لدى بولندا: "أتعلمون أين أتذكر سماع هذا الرأي، هذا الرأي بشأن تقديم أمل زائف؟ كان ذلك في عام 1989، حين قال الناس إنَّنا لا يجب أن نمنح البولنديين أملاً زائفاً. وقالوا إنَّ بولندا لن تكون حرة أبداً. لكنَّهم كانوا مخطئين آنذاك، وأظنهم مخطئين حيال أوكرانيا الآن. رأيي هو أنَّ الأمر يستحق المقاومة، الأمر يستحق عدم الاستسلام لبوتين"، حسب تعبيره.