"فرنسا بين التطرف الحالي ومزيد من التطرف"، يبدو أن هذين هما السيناريوهان المتاحان للناخب في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، والتي تنذر بمستقبل كئيب للمسلمين في البلاد، وقد يتطور لمستقبل كئيب للاتحاد الأوروبي أيضاً.
إذ ستنتخب فرنسا رئيسها القادم، في جولتين من التصويت في 10 و 24 أبريل/نيسان المقبل، وهي انتخاباتٌ ستحدِّد مسار ثاني أكبر دولة في أوروبا الغربية خلال السنوات الخمس المقبلة، وقد تحدد مصير الاتحاد الأوروبي برمته، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وتجرى الانتخابات الرئاسية الفرنسية وسط جو سياسي مشحون، أهم مقوّماتِه غياب مرشّح قوي أو توافقي، سواء من اليمين أو اليسار، يَحُدّ من حظوظ الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ليظفر بعهدة ثانية، رغم عهدةٍ أولى مثيرة للجدل.
وتم انتخاب الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، في عام 2017، بعد أن بلَغ الدّور الثاني مع زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان عن اليمين المتطرف، حيث حصد ماكرون في الدور الثاني 66.1% من الأصوات.
ويَحقّ للرئيس الفرنسي تجديد عُهدتِه مرة واحدة فقط، بحسب التعديل الدستوري الذي تبنّاه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في عام 2008، والذي يستهدف تفادي احتكار المنصب الدستوري الأعلى في البلاد.
انتهاء عصر التنافس بين اليسار واليمين المعتدل
ولَطالما اختار الفرنسيون في أغلب تاريخهم رؤساءَهُم من بين حِزبَين اثنين لا ثالث لهما، أوّلهما حزب "الجمهوريون" اليميني، الذي يتبنى فكراً ليبرالياً، ويرتبط باسم الرئيس الفرنسي والشخصية التاريخية الشهيرة "شارل ديغول"، الجنرال الذي نزع البدلة العسكرية ليترأس البلاد، وهو مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، والرجل الذي استقال بعد استفتاء حصل على أغلب الأصوات فيه، ولكنها أصوات لم تكن كافية بالنسبة له.
وانتخب حزب "الجمهوريون" اليميني خمسة رؤساء، أشهرهم إضافة إلى شارل ديغول جورج بومبيدو، وجاك شيراك، ونيكولا ساركوزي.
وثاني الأحزاب الفرنسية التاريخية هو الحزب الاشتراكي، الذي تأسس في عام 1969 كذراع سياسية للفكر الشيوعي اليساري، ولحركة العمال وقتها، ثم تحوَّل لحزب يساري معتدل وبراغماتي وقدّم للجمهورية الخامسة رئيسَين اثنين: فرنسوا ميتران، وفرنسوا هولاند.
ولكن في الانتخابات القادمة، على غرار انتخابات 2017، فإن خريطة القوى المتنافسة قد تغيرت بعيداً عن الاستقطاب اليميني-اليساري التقليدي، لصالح منافسة على أصوات كل من اليمين المحافظ والمتطرف، وعزز ماكرون ذلك بتبنِّيه خطاباً يركز على تقليص حريات المسلمين بعد أن كان ينتقد ذلك في الانتخابات الماضية، وبعد أن أسهم المسلمون في فوزه بالانتخابات.
من سيترشح في الانتخابات الرئاسية الفرنسية؟
لن تُعرف القائمة الكاملة للمرشحين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية حتى أوائل شهر مارس/آذار، عندما تُعلَن أسماء أولئك الذين جمعوا التأكيدات الـ500 اللازمة من المسؤولين المُنتخَبين، من أجل التأهُّل لجولة الاقتراع الأولى.
لكن قلةً قليلة فقط هي التي لديها فرصةٌ للتقدُّم إلى الجولة الثانية. ومن بينهم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، وفاليري بيكريس من حزب الجمهوريين اليميني، ومارين لوبان من حزب التجمُّع الوطني اليميني المتطرِّف.
تشير استطلاعات الرأي إلى أنه من بين المرشحين الآخرين، فقط لوبان من اليمين المتطرف، والمحلِّل التلفزيوني المتطرف المناهض للهجرة إريك زمور، والمرشح المخضرم جان لوك ميلينشون، الذي يوصف باليساري الراديكالي، هما مَن في الطريق لتأمين أكثر من 10% من الأصوات.
ومع ذلك، قد تتغيَّر كثير من الأمور، إذ قال 47% من الناخبين إنهم ما زالوا مترددين، و30% قالوا إنهم غيَّروا رأيهم في الشهرين الماضيين. وقد تنقلب حصة التصويت النسبية لصالح الخصمين اليمينيين المتطرِّفين على وجه الخصوص.
سيكون لنتائج الانتخابات تأثير في فرنسا والاتحاد الأوروبي (فرنسا ثاني أكبر اقتصاد بالاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا) وخارجها، حسب The Guardian.
الاتحاد الأوروبي في خطر ولكن المسلمين يعرفون مصيرهم
منذ أن تركت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منصبها، أصبح ماكرون الذي يوصف بالوسطي الليبرالي الزعيمَ الأوضح للكتلة الأوروبية، وأكبر مَن يؤمن بـ"السيادة الأوروبية".
ويصف نفسه بالمدافع الصريح عن القيم الغربية مع رغبةٍ واضحة في تشكيل الأحداث العالمية، رغم أن فعلياً خطابه وسياسته تجاه الهجرة والمسلمين في بلاده أقرب إلى اليمين المتطرف.
ومن شأن فوز لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية أن يوجِّه ضربةً رمزية ثقيلة إلى الاتحاد الأوروبي، ويُنظَر إلى هذا الاحتمال على نطاقٍ واسع على أنه تهديدٌ شعبوي آخر لجهود الكتلة لتحقيق تكاملٍ أكبر. وقد تعارض المرشحة اليمينية المحافظة بيكريس أيضاً مزيداً من تقاسم السيادة في العديد من المجالات، وفقاً لتقرير صحيفة The Guardian.
هذا النظام الانتخابي المعقد قد يُخرج أسماء بارزة من السباق
للتأهل إلى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يجب على كلِّ مرشَّحٍ تأمين دعم ما لا يقل عن 500 من أكثر من 40 ألفاً من أعضاء البرلمان وأعضاء البرلمان الأوروبي وأعضاء مجلس الشيوخ والمستشارين الإقليميين ورؤساء البلديات من 30 مقاطعة مختلفة، على الأقل والأقاليم بالخارج.
هذه ليست عقبة سهلة، وقد يفشل واحد أو أكثر من الأسماء البارزة في القيام بذلك. ويجب جمع توقيعات المسؤولين المنتخبين بحلول 4 مارس/آذار، ويجب إعلان قائمة المرشَّحين بحلول 18 مارس/آذار. ومن المتوقع أن يتأهل نحو عشرة مرشَّحين.
وبافتراض أن لا أحد سيفوز بالأغلبية في الجولة الأولى -وهو أمرٌ مؤكَّدٌ تقريباً- فإن أعلى مرشَّحَين من حيث الأصوات سيتواجهان في الجولة الثانية بعد أسبوعين. ويحتاج الفائز في تلك الجولة الثانية إلى جمع أكثر من 50% من الأصوات.
قُدِّمَ نظام الجولتين، المستخدم أيضاً في الانتخابات البرلمانية والمحلية والإقليمية، في عام 1962، من قِبل الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول، وأثبت حتى الآن فعاليته في إبعاد المتطرفين عن السلطة، إذ يقول الفرنسيون إنك تصوِّت أولاً بقلبك في الجولة الأولى، ثم بعقلك في الجولة الثانية.
أسباب ضعف موقف اليسار رغم تأييد ثلث الناخبين له
أدَّى فوز ماكرون في عام 2017 على رأس حركةٍ سياسية وسطية ناشئة، إلى تفجير المشهد السياسي الفرنسي بطريقةٍ مذهلة، مِمَّا أدَّى إلى انخفاض النتيجة المجمعة لأحزاب اليسار واليمين التقليدية في الحكومة إلى أدنى مستوى تاريخي لها.
حطِّمَت نتائج انتخابات 2017، الحزب الاشتراكي، الذي سيطر عام 2012 على الإليزيه والبرلمان ومعظم مناطق فرنسا. وجاء مرشَّحه الرئاسي في المرتبة الخامسة بحصوله على 6.4% من الأصوات، وهي أسوأ نتيجة على الإطلاق، وخسر الحزب في الانتخابات البرلمانية 250 نائباً من أصل 280 نائباً.
وفقاً لاستطلاعات الرأي، سيجتذب اليسار الفرنسي، وضمن ذلك حزب الخضر، ما يقرب من 30% من الأصوات، وهي نسبةٌ أكثر من كافية للوصول إلى الجولة الثانية إذا اختير مرشَّحٌ واحد. ومع ذلك، من المُحتَمَل أن يُقسَّم مرشَّحو اليسار بين سبعة أو ثمانية مرشَّحين.
من بين هؤلاء ميلينشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" المرشح اليساري الوحيد الذي يُتوقع أن يصل إلى نسبةٍ من الأصوات من رقمين؛ والمرشَّحة الاشتراكية آن هيدالغو عمدة باريس؛ ويانيك جادوت من حزب الخضر؛ وفابيان روسيل من الحزب الشيوعي.
فازت كريستيان توبيرا، وزيرة العدل الاشتراكية السابقة، بـ"انتخاباتٍ أوَّلية شعبية" تهدف إلى توحيد اليسار، ولكن منذ رفض ميلينشون وجادوت وهيدالغو الاعتراف بنتائجها، من المرجَّح أن يؤدي ترشيح توبيرا إلى تقسيم التصويت اليساري إلى أبعد من ذلك.
اليمين التقليدي يشهد صحوة ولكن يواجه حرباً من ماكرون والمتطرفين
تضرَّرَ الحزب الجمهوري المحافظ بوصول ماكرون وحزب "الجمهورية إلى الأمام"، حيث فشل في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرت عام 2017، في الوصول إلى الجولة الثانية لأول مرة منذ عام 1981.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن فرنسا تحوَّلت إلى اليمين، ولا يزال حزب "الجمهورية إلى الأمام" الذي يقوده ماكرون، قوةً فاعلة.
ولكن اليمين المحافظ عاد بقوةٍ في الانتخابات الإقليمية العام الماضي، غير أنه تعرَّض للضغط من جانب ماكرون، الذي تروق سياساته الاقتصادية لاتجاهات اليمين الوسط في أوساط المحافظين المعتدلين، كما تعرَّض حزب الجمهوريين اليميني المحافظ للضغط، من ناحية أخرى، من قِبل لوبان وزمور، اللذين يتنافسان على ناخبيه الأكثر تقليدية، ولذا لدى الحزب مساحة صغيرة فقط للمناورة.
حرب تكسير عظام في أوساط اليمين المتطرف
في أقصى اليمين، يمكن أن تكون المعركة بين الخصمين وجودية. جهود لوبان "لإزالة الجناح الأكثر تطرفاً منها" من حزبها القومي، البالغ من العمر 50 عاماً، قد تركتها معرَّضة لخطاب زمور المعادي للأجانب، مِمَّا أدَّى إلى انشقاقاتٍ في صفوف حزب التجمُّع الوطني.
ويعتقد المراقبون أن هدف زمور على المدى الطويل هو زوال "التجمع الوطني" الذي تقوده لوبان، وتأسيس حركة يمينية جديدة توحِّد أقصى اليمين مع اليمين الأكثر تقليدية الذي لا يستطيع حمل نفسه للتصويت للوبان.
ماذا سيحدث بعد انتخاب الرئيس؟ صراع ماكرون الأصعب
تُجري فرنسا انتخابات تشريعية، على دورتين أيضاً، في 12 و19 يونيو/حزيران، وبدون أغلبية في البرلمان، تكون سلطات الرئيس الفرنسي محدودة.
حتى لو كان ماكرون هو المرشح الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية، فقد فشل حزبه "الجمهورية إلى الأمام" في حشد التأييد الشعبي، واستطلاعات الرأي مخيِّبة للآمال بالنسبة له في الانتخابات الإقليمية والمحلية والأوروبية. ويتوقَّع العديد من المحلِّلين أن يؤدي تشكيل برلمان معارض إلى مفاوضاتٍ مُعقَّدة وبناء تحالفاتٍ لتأمين الأغلبية.