"يبدو أن أهداف بوتين من الأزمة الأوكرانية قد اقتربت من التحقق دون رصاصة واحدة"، فمع استمرار الحشود العسكرية الروسية حول أوكرانيا، أصبح الرئيس الروسي محط اهتمام كل وسائل الإعلام ويتلقى المكالمات من زعماء العالم التي تعرض عليه اقتراحات لحل الأزمة.
فالرئيس الأمريكي جو بايدن على اتصال دائم مع بوتين عبر الهاتف، وحتى لو كانت هذه المكالمات مليئة بالتهديدات وفقاً للرواية الأمريكية، فإنه لا تخلو من محاولات الإغراء والاقتراحات وحتى الوعود.
وسافر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى موسكو، حيث وضعه بوتين في موقف محرج عندما وضعه في نهاية طاولة طويلة بعد أن رفض الخضوع لاختبارات كورونا.
كما كان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يحاول على الهاتف إقناع الروس برؤية الأمر بطريقته.
ووصل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان للزيارة في بداية شهر فبراير/شباط، ومن المنتظر أن يصل المستشار الألماني أولاف شولتز موسكو خلال ساعات وسيتبعه في وقت لاحق من هذا الأسبوع زعيم البرازيل القوي والمشجع بلا خجل لبوتين، جاير بولسونارو.
وفي الزيارة الخارجية الوحيدة له خلال الأزمة، حصل بوتين على دعم زعيم عالمي آخر حيث أبرم مع الرئيس الصيني شي جين بينغ شراكة وصفها الطرفان بأنها بلا حدود مع انتقاد صيني لافت للغرب وخطط الناتو لضم أوكرانيا.
مهما كانت أهداف بوتين من الأزمة الأوكرانية- والتي يحاول دبلوماسيون وسياسيون معرفتها- فمن الواضح أن الزعيم الروسي قد نجح بالفعل، دون إطلاق رصاصة واحدة، في أن يظهر أمام شعبه والعالم أنه لا يزال رجلاً يحسب له حساب على المسرح العالمي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Sydney Morning Herald الأسترالية.
ما هي دوافع وأهداف بوتين من الأزمة الأوكرانية؟
تبدو أهداف بوتين من الأزمة الأوكرانية غامضة حتى بالنسبة لأكثر محللي الشؤون الروسية حنكة، خاصة أن طلبات موسكو تبدأ من الحصول على ضمانة بعدم انضمام أوكرانيا للناتو مروراً بإحياء إتفاقية مينسك وصولاً إلى المطلب الشديد الجرأة الذي يطرح أحياناً ويطالب فيه الكرملين الناتو بالتراجع عن ضم بعض دول أوروبا الشرقية.
ولكن دوج كلاين، خبير أوراسيا في مركز أبحاث واشنطن The Atlantic Council يرى أنه"لا يمكن أن نقول إن دوافع بوتين تغيرت بشكل كبير على مدى عقود من حكمه.
وأضاف: "بوتين يفعل أشياء من شأنها أن تحافظ على سلطته، وتمدد حكمه، وتجعل حكمه أكثر أمناً ، وستثري نفسه والأوليغارشية التي تساعده في الحفاظ على سلطته".
بوتين يريد تأكيد وضعه كزعيم قوي أمام الشعب الروسي
يجادل كلاين بأن واحداً من أهم أهداف بوتين من الأزمة الأوكرانية مرتبط بالوضع الداخلي الروسي.
ويقول: "سيتضرر بوتين إذا رأى الشعب الروسي أن أوكرانيا- وهي جمهورية سوفييتية سابقة شعبها ينتمي للعرق السلافي مثل روسيا وتربطها علاقات تاريخية وثقافية عميقة بروسيا- تزدهر كديمقراطية فاعلة على النمط الغربي".
يجادل كلاين بأن التبرير الرسمي من الكرملين لأزمة أوكرانيا بأن روسيا مهددة من قبل توسع شرقي محتمل لتحالف الناتو بقيادة الولايات المتحدة مع أوكرانيا كعضو- هو ستار من الدخان.
فالناتو ليس لديه رغبة في غزو روسيا، والناتو لا يهدد روسيا، بل على العكس روسيا هي التي تهدد الجناح الشرقي للناتو، حسبما أظهرت الأزمة الحالية.
لكن كلاين يحذر من أن الهجوم الشامل الذي أمر به بوتين على أوكرانيا لن يؤدي إلى الفوائد السياسية التي جناها في الماضي من التحرش بجيرانه الأصغر كما فعل مع أوكرانيا عام 2014، حينما ضم القرم وخلق جيباً موالياً له في شرق البلاد، وكذلك عندما هاجم جورجيا ودعم انفصال إقليم أوسيتيا الجنوبية.
يعتقد البروفيسور مايكل ويسلي من جامعة ملبورن، وهو أحد محللي السياسة الخارجية البارزين في أستراليا، أن سلوك بوتين الأخير يجب أن يُنظر إليه من خلال عدسة السياسة المحلية الروسية ومكانة الزعيم بين شعبه.
يعتقد البروفيسور ويسلي أن حشد بوتين للقوات حول أوكرانيا مدفوع جزئياً بالرغبة في وضع روسيا- ونفسه- في مركز الصدارة في المحادثة العالمية، التي هيمنت عليها الصين والرئيس شي في السنوات الأخيرة.
وقال البروفيسور ويسلي: "أعتقد أن هناك تصوراً قوياً داخل روسيا بأن بوتين يعيد موسكو إلى مركز سياسات القوة العالمية، وقد رأينا ذلك بقوة عندما انخرط في الحرب الأهلية السورية".
"كان هناك شعور في روسيا بأننا عدنا إلى الطاولة الكبيرة".
يقول ماركو بافليشين، الأستاذ الفخري للدراسات الأوكرانية بجامعة موناش، إن الروس كانوا غير راضين عن تعامل بوتين مع الوباء.
ولقي أكثر من 625 ألف روسي حتفهم بسبب فيروس كورونا، وهو رقم يعتبر أقل من الواقع، كما ارتفعت تكلفة المعيشة. وبينما لا يزال ألكسندر نافالني المعارض في السجن، انشغلت السلطات العام الماضي بقمع احتجاجات مؤيديه ومعارضين آخرين.
وقال البروفيسور بافليشين: "هناك سبب سياسي داخلي دفعه لفعل شيء مهم مثل إثارة الأزمة الأوكرانية".
يجادل الأكاديمي بأن هذا الشيء الكبير يمكن أن يكون تخويف القوى الغربية للاعتقاد بأن منع الصراع المسلح هو إنجاز كبير بما يكفي لتبرير تنازلات كبيرة لبوتين، ومن المحتمل أن تمنحه النفوذ التي يتوق إليها على أوكرانيا جارته الصغرى، دون أن تضطر روسيا إلى طرد اطلاق النار.
جعبة بوتين لم تنفذ من الحيل
لكن معهد دراسة الحرب ومقره واشنطن، والذي كان يقدم تقارير عن كثب عن الأزمة منذ ديسمبر/كانون الأول، يشير إلى أن بوتين قد يستعمل حقيبة الحيل التي طورها على مر السنين لإبقاء خصومه في حالة تخمين بشأن أهدافه.
وكتب المعهد "إن أي عدوان عسكري روسي على أوكرانيا دون غزو واسع النطاق، حتى بما في ذلك حملة جوية مكثفة.. يمنح بوتين المبادرة ويخلق حالة من عدم اليقين بشأن الكيفية التي سيحل بها بوتين الأزمة في نهاية المطاف".
لقد استخدم بوتين هذا النهج بشكل كبير في سوريا وأماكن أخرى. إنه يفتح المجال لكثير من الجدل والاختلاف حول ردود الفعل بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين وأوكرانيا.
هل حقق بوتين أهدافه من إثارة الأزمة؟
تخفيف التسلح
يمكن القول إن بعض أهداف بوتين من الأزمة الأوكرانية قد تحققت دون إطلاق طلقة رصاص بالفعل.
فلقد عرضت الولايات المتحدة وحلف الناتو بشكل رسمي اقتراحات بشأن تخفيف التسلح، بعد أن كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد انسحب من ثلاث اتفاقيات لضبط التسلح منها اتفاقية الأجواء المفتوحة مع روسيا، معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى.
وكانت إدارة بايدن قد جددت العام الماضي مشاركة واشنطن في معاهدة "ونيو ستارت" وهي آخر اتفاق ثنائي من هذا النوع بين أبرز قوتين نوويتين في العالم. وتحدد هذه المعاهدة سقف كل من ترسانتي القوتين بـ1550 رأساً.
وبالتالي إذا لم يحدث تطور سلبي في الأزمة الأوكرانية، فإنه في الأغلب سيصبح تعزيز الحد من التسلح أحد الأشياء التي قد تنالها موسكو من الناتو، ومع الوضع في الاعتبار التفوق الروسي في مجال القوات التقليدية لا سيما البرية في أوروبا، (بالنظر إلى معظم الجيش الأمريكي خارج القارة)، فإن هذا في صالح موسكو.
هل نال بوتين هدفه المعلن بمنع انضمام أوكرانيا للناتو؟
أحد أهداف بوتين من الأزمة الأوكرانية المعلنة والواضحة، هو منع انضمام أوكرانيا للناتو.
وفي الأصل كان هذا الهدف بعيد المنال بالنسبة لكييف، فلقد سبق أن وعد الناتو أوكرانيا وجورجيا بالانضمام للناتو، ففي قمة بوخارست في أبريل/نيسان 2008، وافق الناتو على أن البلدين "سيصبحان عضوين"، دون منح خطط العضوية أو تحديد متى والظروف التي سيحدث فيها ذلك.
وقرر الناتو في هذه القمة أنه لن يعرض عضوية جورجيا وأوكرانيا في ذلك الوقت؛ مرت أكثر ثلاثة عشر عاماً على قمة بوخارست، لكن أوكرانيا وجورجيا ما زالتا تنتظران.
ولم يقدم الحلف حتى جدولاً زمنياً للعضوية المزعومة وسط حديث عن اعتراض بعض الدول على ذلك ولا سيما فرنسا وألمانيا.
واليوم بات هذا الهدف أبعد من ذي قبل حتى لو تحصل روسيا على تعهد خطابي من الناتو وأوكرانيا بذلك، فمن الواضح أن دول الناتو بما فيها أمريكا ليست على استعداد للمخاطرة باتخاذ هذه الخطوة التي يمكن أن تثير رداً روسيا حاداً كما ظهر من الأزمة الحالية التي أثارها بوتين دون أي جديد في مسألة انضمام أوكرانيا للناتو.
كما أنه حتى لو تمكنت أوكرانيا في غفلة من روسيا من الانضمام للناتو، فإن هذا يعني أن بلداً يحتل روسيا نحو 10% من مساحته سوف يصبح عضواً بالناتو وما قد يترتب على ذلك من احتمال اندلاع نزاع في إقليم الدونباس الموالي لروسيا قد يتصاعد لنزاع عسكري بين أوكرانيا وروسيا، وفي حال كانت كييف عضواً بالناتو فإن الأخير سوف يصبح ملزماً بالتدخل، مهدداً بحرب عالمية ثالثة وإن لم يفعل فهذا يفقد مصداقيته.
فرنسا ألمحت إلى قبول المطلب الروسي بعدم التحاق كييف بالناتو
وقد بدا واضحاً مما تتسرب من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لموسكو أن فرنسا مقتنعة أن أوكرانيا لن تنضم يوماً للناتو، وأن مسألة انضمام أوكرانيا للناتو تشبه طلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي بطلب دائم دون قبول أو رفض نهائي.
واللافت أن الرئيس الفرنسي قال أمام الصحفيين إن أحد الحلول هو جعل أوكرانيا مثل فنلندا، أي دولة محايدة مع مساحة من النفوذ الروسي الكبير فيها، ورغم نفيه أنه قال ذلك إلا أن الدبلوماسيين الفرنسيين تحدثوا عن هذا الخيار.
ولكن تطبيق نموذج الحياد الفنلندي على أوكرانيا أمر تريده روسيا تماماً، لأن فنلندا دولة متماسكة إثنياً وسياسياً، شعبها موحد ضد الخطر الروسي، بينما أوكرانيا دولة مقسمة، حيث تشير تقديرات إلى أن الروس يمثلون نحو 17% من السكان (معظمهم في الجنوب والشرق)، وزعمت موسكو أن من واجبها حماية هؤلاء الأشخاص كذريعة لأفعالها في أوكرانيا.
والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، نفسه ألمح إلى قناعته بصعوبة انضمام بلاده للناتو وأنه يريد بدلاً من ذلك علاقة وثيقة، إذ قال الشهر الماضي: "إذا لم يكن هناك انضمام لحلف الناتو، فعلى الحلف الإشارة إلى بعض الضمانات الأمنية الأخرى، ولم يكن واضحاً تماماً ما كان يدور في خلده".
وقد يريد بوتين أمام شعبه أن يحصل على المكسب الأكبر من إثارته الأزمة وهو تعهد رسمي بعدم انضمام كييف للناتو، وهي مسألة صعبة للغاية ومهينة لأوكرانيا والناتو معاً، ويمكن القول إن حل هذه المعضلة قد يكون محور الجهود الدبلوماسية الرامية لحل الأزمة الأوكرانية.
كما أثار بوتين على الطاولة مسالة إحياء اتفاق مينسك الذي باتت أوكرانيا تراه ضاراً بمصالحها، وكان ينتقد في الغرب باعتباره اتفاقاً غير واقعي، ولكن اليوم يحتمل أن يكون ضمن حزمة حل للأزمة الأوكرانية.
بوتين اقترب من اكتساب حق الفيتو في السياسة الأوكرانية
وقال ماكرون بعد لقائه الرئيس الأوكراني في كييف إثر زيارته لموسكو إن اتفاقات مينسك هي الطريق الوحيد إلى حل سلمي للنزاع في دونباس.
وإحياء هذا الاتفاق وتحديداً اتفاقية مينسك 2 سيؤدي إلى "لا مركزية" أوكرانيا التي تمنح "وضعاً خاصاً" لمناطق الشرق المتحدثة بالروسية التي يسيطر عليها الآن الانفصاليون، مع "خصوصيات" يتم الاتفاق عليها "مع ممثلي هذه المناطق".
جادلت روسيا، في تفسيرها الخاص لهذه "الخصوصيات"، بضرورة أن تشمل منح الممثلين المنتخبين في هذه المناطق حق النقض على قرارات السياسة الخارجية الأوكرانية، وضمن ذلك العضوية في الناتو. وبهذه الطريقة، ستصبح أوكرانيا فعلياً جزءاً من دائرة نفوذ روسيا.
تجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية الأوكراني، ديمترو كوليبا، استبعد مؤخراً منح وضع خاص لإقليم دونباس الموالي لروسيا.
لكن ماكرون قد يحاول على الأقل إلزام الحكومة الأوكرانية بمجموعة من الخطوات حول كيفية إجراء الانتخابات المحلية في دونباس وانسحاب القوات، وهي قضية أحبطت الدبلوماسيين منذ 2015.
تجنب العقوبات المستقبلية
خلال السنوات الماضية، وحتى بعد أزمة أوكرانيا 2014 بفترة، بدأت روسيا ومؤخراً حليفتها الصغيرة بيلاروسيا عرضة للتشدد الغربي والعقوبات الأمريكية تحديداً، كما ظهر في قانون مكافحة أعداء أمريكا، الذي تمَّ سنه عام 2017 في عهد ترامب وأصبح يشكل عقبة أمام صادرات الأسلحة الروسية، وفي العقوبات الأوروبية الأخيرة على بيلاروسيا.
وبعد مجيء إدارة بايدن، ورغم تركيزها على الصين، فلقد بدا عليها أنها تنوي التعامل بصلابة إن لم يكن بصلافة مع روسيا مع نظرة الديمقراطيين الذين يمكن اعتبارهم أكبر حزب ليبرالي غربي لبوتين كمستبد يريد تخريب الديمقراطية الغربية، حيث اُتُّهمت روسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية الأخيرة والتي سبقتها وكذلك في استفتاء البريكسيت عبر التشجيع الناخبين البريطانيين بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
وبصفة عامة كانت طريقة إدارة بايدن تنذر أنها تنوي استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية بكثافة مع روسيا.
اليوم مع تحرش روسيا بأوكرانيا والذي يمكن أن يتطور إلى تحرش بالجناح الشرقي الضعيف للناتو مثل دول البلطيق، فإن أمريكا ستفكر مرتين في فرض عقوبات جديدة على روسيا قد تستفز موسكو، وبصفة عامة نجح بوتين في تحويل أوكرانيا رهينة في يديه يساوم بها الغرب، في مواجهة سلاح العقوبات الذي يعد السلاح الوحيد الذي تمتلكه أمريكا ضد روسيا.
خسائر روسيا
بالطبع محصلة الأزمة الأوكرانية ليست كلها ماكسب لروسيا البوتينية.
إذ يمكن القول إن أكبر خسائر روسيا هي أن الأزمة أعادت تنصيب موسكو عدواً وخطراً محتملاً على الغرب، وقوَّت الريبة والقلق في أوروبا من روسيا وعززت حاجة القارة لأمريكا.
وبالتالي الأزمة الأوكرانية ستعزز الانفصال بين أوروبا وروسيا وتفتح الباب لتوجه الدول الأوروبية لتقوية دفاعاتها العسكرية، وتعزيز أمريكا ودول أوروبا الغنية لقوة أوكرانيا العسكرية باعتباره منطقة عازلة بين الناتو وروسيا وكذلك تعزيز دفاعات دول الجناح الشرقي للناتو مثل دول البلطيق الثلاث ورومانيا وبالأخص بولندا الدولة المتوسطة الحجم التي يمكن أن تلعب دوراً في تعزيز الجناح الشرق للناتو بسكانها البالغ عددهم نحو 38 مليوناً، واقتصادها النامي وصناعاتها العسكرية الواعدة.
ورغم أن خيار تعزير قوة أوروبا لاسيما جناحها الشرقي، يعاني من البخل والتردد الألماني المدفوع بخليط من عدم الرغبة في التصعيد مع روسيا والميول السلامية للحكومة الاشتراكية الليبرالية الحالية، إضافة إلى عدم رغبة القادة الألمان في توسيع النفقات الدفاعية حتى لا يبدِّدوا الرخاء الاستثنائي الذي تعيشه البلاد، إلا أن التوجه نحو تعزيز تسليح شرق أوروبا قد يكون أحد النتائج الرئيسية للأزمة الأوكرانية، كما أن الأزمة قد تدفع ألمانيا لزيادة ميزانيتها العسكرية وتقدم دفعة لمشروعات تصنيع الأسلحة الأوروبية المشتركة.
الصين قد تنقذ بوتين من أكبر خسارة له
أما أكبر خسائر بوتين من الأزمة الأوكرانية فهي متعلقة بالاقتصاد وتحديداً الغاز، فقد أيقظت الأزمة أوروبا على حقيقة أنها تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي الذي يلبي أكثر من ثلث احتياجاتها.
وتبين أن البعض في القارة الغنية يمكن أن يموت من البرد القارس حرفياً لو قطعت موسكو صنابير الغاز.
ومع أنه لا يمكن توقع أن تستطيع أوروبا أن تستغني عن الغاز الروسي تماماً، ولكن من المؤكد أنه على مدار السنوات القادمة سوف يقل اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، خاصة أن أمريكا تقوم بجهد كبير في هذا الشأن، وهو ما ظهر واضحاً في استضافة الرئيس الأمريكي جو بايدن لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في البيت الأبيض، وطلبه أن تزود الدوحة أوروبا بالغاز المسال، وما تردد عن أن واشنطن نفسها تتفاوض مع مشتري الغاز القطري الآسيويين بما فيهم الصين للتخلي عن حصصهم لصالح أوروبا.
كما وجهت أمريكا شحنات متزايدة من إنتاجها المتنامي من الغاز لأوروبا بدلاً من سوقه الرئيسية في آسيا، إضافة إلى محاولات مماثلة مع الجزائر وليبيا ودول إفريقية، كذلك لا يمكن استبعاد أن إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سعي بلاده لأن تستخدم أراضيها لنقل الغاز الإسرائيلي لأوروبا، يأتي في هذا الإطار.
بالتزامن مع ذلك أبلغت أمريكا إسرائيل واليونان تخليها عن دعم مشروع خط غاز شرق المتوسط لأنه يغضب تركيا وليس عملياً من الناحية الاقتصادية وكذلك تسريع أمريكا لوساطتها في المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل وسط حديث عن تقديم عروض جيدة للبنان.
كل ذلك يؤشر إلى أن أمريكا تريد التغلب على كل العوائق أمام غاز شرق المتوسط، بما في ذلك المناكفة اليونانية الأوروبية لتركيا، وذلك حتى يتسنى لأوروبا تقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
قد يعني ذلك خسائر مالية لروسيا وتقليل لنفوذها على أوروبا، ولكن يبدو أن الرئيس الروسي عبر اتفاقية الطاقة الضخمة التي أبرمها مع الصين والتي تخطت الـ117 مليار دولار، يسعى لإيجاد زبون بديل لأوروبا رغم أن الصفقة المشار إليها تعتمد على الغاز القادم من حقول سيبيريا، وليس لها علاقة بالغاز الذي يذهب لأوروبا.
ولكن الاتفاقية تؤشر إلى أن روسيا تتحسب لتقليل أوروبا لصادراتها الغازية حتى لو بعد حين، ومع النمو الكبير للاقتصاد الصيني فقد تستطيع بكين تعويض خسارة روسيا لبعض الأسواق الأوروبية بالفعل.