تونس على صفيح ساخن، والسبب هذه المرة هو السلطة القضائية، فالرئيس قيس سعيد أصدر مرسوماً بحل المجلس الأعلى للقضاء واستحدث مجلساً مؤقتاً بدلاً منه، فماذا يريد الرئيس؟
وقبل محاولة رصد الإجابات المتاحة عما يريده قيس سعيد، نتوقف قليلاً عند أبرز محطات الحالة الجدلية التي أوجدها الرئيس عندما اتخذ في 25 يوليو/تموز 2021 ما قال إنها "إجراءات استثنائية" جمَّد بموجبها عمل الحكومة والبرلمان ليمسك منفرداً بزمام السلطة التنفيذية والتشريعية في البلاد، مبرراً ذلك بحالة الانسداد السياسي والانقسام في البلاد، في ظل برلمان لا يحظى فيه حزب بأغلبية تسمح له بالحكم.
إجراءات سعيد الاستثنائية رفضتها أغلب الأحزاب السياسية في تونس ومنها حركة النهضة، التي وصفتها بالانقلاب، لكن بدا وقتها أن هناك ظهيراً شعبياً أبدى سعادته بما أقدم عليه سعيد، إضافة إلى بعض الأحزاب أيضاً والتي تعادي حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، وخصوصاً الحزب الدستوري الحر برئاسة عبير موسي.
ومع مرور ما يقرب من سبعة أشهر من انفراد سعيد بالسلطة في البلاد، لم تتحسن الظروف الاقتصادية للتونسيين، بل ازدادت قسوة، في ظل وقف المؤسسات الدولية تعاونها مع البلاد حتى تعود إلى المسار الديمقراطي، كما بات واضحاً أن المعونات الاقتصادية من جانب قوى إقليمية لم ترقَ لما كان يأمله الرئيس، وشيئاً فشيئاً بدأ التأييد لقرارات سعيد يتقلص، وانقلب عليه من كانوا يؤيدونه من السياسيين.
لماذا انقلب سعيد على القضاء؟
الرئاسة التونسية أعلنت السبت 12 فبراير/شباط أن سعيد وقع مرسوماً باستحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، وذلك بعد إعلانه قبل أيام أن المجلس الحالي "أصبح من الماضي".
وكشفت تفاصيل المرسوم الذي أصدره سعيد، أنه يتضمن نصاً يحظر إضراب القضاة، وآخر يعطي الرئيس "الحق في طلب إعفاء كل قاض يخلّ بواجباته المهنية بناء على تقرير معلّل من رئيس الحكومة أو وزير العدل".
وجاءت هذه التطورات في وقت تشهد فيه البلاد أزمتين سياسية واقتصادية، بعد نحو 7 أشهر من إجراءات سعيد التي كان منها تجميد اختصاصات البرلمان والإعلان عن انتخابات مبكرة في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وترؤسه للنيابة العامة وإقالة رئيس الحكومة وتشكيل أخرى جديدة عَيَّنَ هو رئيستها.
والمجلس الأعلى للقضاء، هيئة دستورية مستقلة من مهامها ضمان استقلالية القضاء ومحاسبة القضاة ومنحهم الترقيات المهنية.
ويُجدد الرّئيس التّونسي في كل مناسبة تأكيده أن "عمل القضاء هو وظيفة صلب الدّولة التّونسية وليس من دوره التّشريع" (أي أنه لا يسن القوانين بل يعمل بها).
سعيد كان قد قال إن حل مجلس القضاء يهدف "لتطهير البلاد (من الفساد)"، معتبراً أن "التّطهير لا يتم إلا بوجود قضاء عادل، الجميع متساوون أمامه، ليس كما يحصل اليوم حيث لا عقاب للمجرمين والبعض مُحتَمٍ بأفراد تسللوا داخل السّلطة وداخل القضاء".
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي نزار مقني، قال للأناضول إن "هذا الإجراء في لحظة من اللّحظات كان ضرُورياً، لكن طريقة الحل المباشر من قبل الرئيس سعيد متعسفة من سلطة على سلطة أخرى".
"في محصلة نهائية يبدو أن الدّافع الرّئيسي لإصرار سعيّد على قراره هو إتمام القطيعة النهائية مع منظومة ما قبل 25 يوليو/تموز، لأنها وجّهت القضاء لخدمة أغراض سياسية لا لخدمة الشعب"، بحسب نزار مفتي.
"الإصلاح يمكن أن يتم بطريقة أخرى غير الحلّ المباشر"، واقترح مفتي أن "تأتي المبادرة من القضاة أنفسهم بإجراء حوار داخلي يضم المتداخلين في هذا القطاع من قضاة ومحامين وعدول تنفيذ، لتعديل القوانين الجاري العمل بها، والابتعاد عن شبهات المحسوبية وخدمة أطراف سياسية على حساب أخرى".
"طريقة الإصلاح لا يجب أن تكون بهذا الشكل (الحلّ المباشر للمجلس). اعتماد هذه الطريقة قد يضع الرّئيس في صورة الباحث عن جمع السلطات بيد واحدة، إن كان هو أو المحيطون به لأهداف خاصة بهم وهم من يشكلون سبب التخوف، لكن ذلك لن يحصل وحرية الكلمة والإعلام موجودان حتى تتعافى تونس وتتجاوز أزمتها الحالية".
معركة أخرى هدفها الهروب للأمام
لكن الصحفي والمحلل السياسي صالح عطية له وجهة نظر أخرى، إذ يرى أن "الرئيس قيس سعيّد حلّ البرلمان والحكومة قبل سبعة أشهر واستحوذ على السّلطة التنفيذية بشقيها كما وضع يده على السلطة التشريعية، لتبقى السلطة القضائية العائق الأخير للتحكم والاستحواذ على السلطة".
واعتبر عطية في حديثه للأناضول أن "الرئيس يريد تعليق فشله لأشهر منذ يوليو/تموز 2021 على شماعة القضاء الذي طالب بتطهيره باسم إرادة الشعب الذي لم يخرج في يوم من الأيام للمطالبة بحل المجلس الأعلى للقضاء".
"المجلس الأعلى للقضاء لا يدير المحاكمات ولا يباشر القضايا وصبغته ترتيبية وتنظيمية، ورقابية بالأساس، وهنا الأمر واضح وجلي؛ فالرّئيس يريد تصفية خصومه بقضاء التّعليمات وليعود إلى مرحلة الاستبداد الذي يوجه الأوامر وفق دوافعه ورغباته الشخصية".
"سعيّد أدرك أن مشروعه السّياسي والاجتماعي والاقتصادي فشل، ليبحث الذهاب إلى الاستحواذ على القضاء لإجراء محاكمات على المقاس تضمن تأييد الشعب التّونسي له، وهو ما يجب أن يتصدى له القضاة والمعارضة بشدّة" على حسب ما قاله عطية.
وتوقع المحلل السياسي أن تؤدي هذه الخطوة، إلى بقاء تونس لمدة عقدين من الزمن على الأقل تحت إمرة قضاء التعليمات والولاءات للرئيس الساعي إلى البقاء لفترة أطول بالحكم والسّيطرة على انتخابات البرلمان المقبلة، لنمر إلى مرحلة مستبدة أشرس وأخطر من سابقاتها بالبلاد.
قانون الصّلح الجزائي
وفي نفس السّياق يعتبر المحلل السّياسي بولبابة سالم، أن "السّبب الحقيقي لمُضي الرّئيس سعيّد في قرار حل المجلس الأعلى للقضاء هو رفض هذا المجلس لقانون الصّلح الجزائي الذي اقترحه سعيد".
و"الصلح الجزائي" هو مرسوم قانون اقترحه سعيد على مجلس القضاء أواخر عام 2020، لإرساء صلح جزائي مع "من تورطوا في قضايا الفساد ونهب ثروات ومقدرات البلاد والملك العام طيلة السنوات الماضية".
وأشار سالم للأناضول إلى أن "المجلس قال حين عرض مرسوم القانون إنه يحتاج محاكم مختصة ولم يتقبله بالصيغة التي عرض بها، الأمر الذي دفع الرّئيس لشن هجمات متتالية على المجلس قبل أن يصدر قراراً بحله، في جانب أول لدوافع سعيّد لحل الأعلى للقضاء".
"الجانب الثاني لدافع قرار الرّئيس يأتي نتيجة لرفض المجلس قبول مرسوم قانون الصّلح الجزائي، في رغبة واضحة من الرّئيس للسيطرة على السّلطة القضائية بعد الإمساك بشكل كامل بالسّلطتين التنفيذية والتّشريعية".
وتوقع سالم أن تكون التركيبة الجديدة للمجلس، في "صفّ الرّئيس ومؤتمرين بأوامره، عكس التركيبة المنتخبة (التي تم حلها) المتكونة من 45 عضواً بين قضاة ومحامين قبل أشهر من موعد انتخابات المجلس".
وفي أكثر من مرة قال سعيّد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات، إن إجراءاته الاستثنائية هي "تدابير في إطار الدّستور لحماية الدولة من خطر داهم"، وشدد على عدم المساس بالحقوق والحريات.
وشهدت تونس الأحد خروج الآلاف في مظاهرات منددة بقرار الرئيس حل المجلس الأعلى للقضاء، ولفت عز الدين الحزقي الناشط في حركة "مواطنون ضد الانقلاب" إلى الحشد الكبير المشارك في التظاهرة، وتحدّث عن تزايد المعارضة في وجه الرئيس. وقال إن الشعب كان وراء سعيد في 25 يوليو/ تموز، لكنه الآن "لوحده"، بحسب موقع فرانس24.
واعتبر مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في اللجنة الدولية للحقوقيين سعيد بن عربية أن المرسوم الذي أصدره سعيد بتشكيل مجلس مؤقت للقضاء "يكرس خضوع القضاء للسلطة التنفيذية"، موضحاً أنه "بتنفيذ هذا المرسوم، تنتهي فعلياً سيادة القانون وفصل السلطات واستقلالية القضاء في تونس".
وأضاف بن عربية للموقع الفرنسي أن "هذا المرسوم يعطي سلطة مطلقة للرئيس للاعتراض على تعيين وترقية ونقل القضاة، وسلطات واسعة لإيقاف وعزل القضاة، بما يتعارض مع مبادئ سيادة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء".
المجلس الأعلى للقضاء في تونس هيئة دستورية معنية بمراقبة حُسن سير القضاء واستقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. لكن منذ 25 يوليو/تموز الماضي، أصبحت السلطات الثلاث عملياً في يد الرئيس التونسي بعد أن اتخذ إجراءات استثنائية رفضتها غالبية الأحزاب في البلاد ووصفها البعض بأنها "انقلاب" على الدستور.
وتأسس المجلس الأعلى للقضاء في تونس عام 2016 وكانت له الكلمة الفصل في التعيينات القضائية، ورفض المجلس بشدة المراسيم التي اعتبر أنها تشكل تعدياً على الهيكلية الدستورية للقضاء، معتبراً أن "لا أسس قانونية" لأي بديل له.