لا صوت يعلو فوق أزمة أوكرانيا التي يقول الغرب إن روسيا قد تغزوها في أي لحظة، فما الذي تريده موسكو من كييف؟ وما الذي تريده أوكرانيا من روسيا ومن الغرب؟ وما الذي تريده روسيا من الغرب؟
وقبل الدخول إلى إجابات الأسئلة الكبيرة الخاصة بروسيا وما تريده وأوكرانيا وما تريده والغرب وما يريده، نلقي نظرة سريعة على الدولة التي تدور الأزمة حولها وهي أوكرانيا، التي كانت عضواً مؤسساً مع روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت مقراً لثلث الأسلحة النووية السوفييتية وقوة كبيرة في حلف وارسو (الحلف العسكري الشرقي).
أوكرانيا بعد الاتحاد السوفييتي
وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.
وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لكن انتخابات 2010 أعادت يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا، وبدأ يتخذ إجراءات لوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود انقسام واضح داخل أوكرانيا بشأن مستقبل البلاد بين فريقين، الأول يميل إلى الغرب ويريد الانضمام لحلف الناتو وقاعدته الرئيسية في الأقاليم الغربية من البلاد، والثاني يريد التقارب مع روسيا والانضمام لها رسمياً وقاعدته في الأقاليم الشرقية التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية كلغة أولى.
ومطلع عام 2014 اندلعت ثورة ضد الرئيس يانكوفيتش، على غرار ثورة البرتقال التي كانت أيضاً داعمة للتقارب مع الغرب، لكن الرئيس وقوات الأمن الأوكرانية استخدموا العنف- عكس ما حدث في ثورة البرتقال- فسقط نحو 100 قتيل برصاص قناصة تابعين للأمن الأوكراني، وفي النهاية هرب يانكوفيتش من العاصمة كييف واتجه نحو الشرق.
وتولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً ليانكوفيتش وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف "تمرداً مسلحاً" واستدعت سفيرها للتشاور. في المقابل، وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة.
ووجّه حاكم القرم رسالة رسمية إلى روسيا طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014، مما أدى إلى فرض عقوبات على موسكو من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لكن ذلك لم يوقف الدعم الروسي للانفصاليين في الأقاليم الشرقية الأخرى، وهكذا تم التوصل إلى اتفاقيات مينسك، والتي يتمسك بها بوتين الآن كمخرج للأزمة الحالية.
ماذا تريد روسيا من أوكرانيا ومن الغرب؟
باختصار تريد روسيا من أوكرانيا أن تلغي أي اتفاقيات للتعاون مع حلف الناتو وأن تنهي تماماً على أي مظهر من مظاهر استعدادها لأن تصبح عضواً في الحلف في المستقبل.
أما ما تريده روسيا من الغرب فيتمثل في مطالب قدمتها موسكو بالفعل إلى واشنطن. إذ يريد بوتين ضمانات قانونية مكتوبة تقدمها الولايات المتحدة بأن أوكرانيا لن تنضم أبداً إلى حلف الناتو، إضافة إلى سحب الحلف العسكري الغربي لأسلحته الهجومية من دول شرق أوروبا كبولندا والمجر (دول كانت أعضاء في حلف وارسو سابقاً)، على اعتبار أن وجود تلك الأسلحة يمثل تهديداً لروسيا لا يمكنها قبوله.
وينطلق موقف بوتين من حقيقة تقديم الأمريكيين وعداً قبل أكثر من ثلاثين عاماً بأن حلف الناتو لن يتمدد في شرق أوروبا، وهو ما لم يحدث بالطبع؛ إذ ضم الحزب دولاً كثيرة من أوروبا الشرقية والباب مفتوح لانضمام أوكرانيا أيضاً.
وبالتالي تتزامن الأزمة الأوكرانية، التي تهدد أوروبا والعالم حالياً بحرب لا أحد يمكنه التنبؤ بمسارها أو حتى أطرافها إذا ما اندلعت بالفعل، مع مرور 30 عاماً على سقوط الاتحاد السوفييتي.
فالأزمة الأوكرانية في الأساس أزمة جيوسياسية، إذ يريد الرئيس الروسي أن يُرغم حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً، ولأن موسكو لا تثق بقدرة الدول الأوروبية على التحرك دون موافقة واشنطن، فقد قرر الرئيس الروسي أن يطلب ضمانات قانونية مكتوبة من نظيره الأمريكي بايدن تنص على أن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً.
ماذا تريد أوكرانيا من روسيا؟
حقيقة الأمر هي أن هذا السؤال قد لا توجد له إجابة واحدة، أو بمعنى أدق إجابة يتفق عليها الأوكرانيون جميعاً. والسبب هو وجود انقسام داخل أوكرانيا نفسها، فالأقاليم الشرقية المتاخمة للحدود مع روسيا والتي تشهد حركات مسلحة تريد الانفصال عن أوكرانيا (مثل القرم ودونباس ودونتسيك وغيرها) تفضل الانضمام إلى روسيا، بينما الأقاليم الغربية تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والتخلص من تأثير روسيا على البلاد.
وخلال الأزمة الحالية بدا من خلال تغطية الإعلام الأمريكي خصوصاً والإعلام الدولي عموماً كما لو أن أوكرانيا "دولة صغيرة" وأن السبب الوحيد لذلك الصراع بشأنها هو الصراع بين روسيا والولايات المتحدة وأجواء الحرب الباردة. لكن أوكرانيا ليست دولة صغيرة فهي ثاني أكبر دولة في أوروبا من حيث المساحة، بعد روسيا فقط، أي أن مساحتها أكبر من ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا. ويحد أوكرانيا من الشرق روسيا ومن الشمال روسيا البيضاء ومن الجنوب البحر الأسود ومولدوفا ورومانيا ومن الغرب بولندا.
وتريد الحكومة الأوكرانية الحالية برئاسة فولوديمير زيلينسكي من روسيا أن تترك كييف وشأنها وتتوقف عن التدخل في الشؤون الأوكرانية. وتريد أوكرانيا أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وتصبح إحدى الدول الغربية في نهاية المطاف.
وبالنسبة للحركات المسلحة في أقاليم أوكرانيا الشمالية، تريد كييف من موسكو التوقف عن دعم تلك الحركات وأن تكون للجيش الأوكراني السيطرة الكاملة على حدود البلاد. كما تريد أوكرانيا أيضاً أن تستعيد إقليم شبه جزيرة القرم الذي ضمته روسيا إليها عام 2014.
ما هي اتفاقيات مينسك التي تريد روسيا تنفيذها؟
تم توقيع اتفاقية مينسك الأولى بشأن النزاع في أوكرانيا في سبتمبر/أيلول 2014 بين طرفي النزاع، وهما الحكومة الأوكرانية والانفصاليون في الأقاليم الشرقية المتاخمة للحدود الروسية والمدعومون من موسكو.
أما مينسك فهي عاصمة جمهورية روسيا البيضاء، واستضافت المفاوضات بين طرفي النزاع إضافة إلى روسيا ومنظمة الأمن والتعاون التابعة للاتحاد الأوروبي، واتفق الأطراف على وقف القتال وعقد هدنة وإبرام السلام.
وبالفعل تم التوقيع على اتفاقية "مينسك1″، التي اشتملت على 12 بنداً أبرزها تبادل الأسرى (بين القوات النظامية الأوكرانية والقوات الانفصالية) والسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمدنيين في مناطق الصراع، وسحب القوات الانفصالية أسلحتها الثقيلة من خطوط المواجهة مع القوات الحكومية، مع استمرار المفاوضات للوصول إلى حل سلمي للصراع.
لكن هذه الاتفاقية لم تصمد سوى 5 أشهر فقط، في ظل اختراقات مستمرة لجانبي الصراع لبنودها، بحسب تقرير لرويترز، وبالتالي سرعان ما اندلعت الصراعات مرة أخرى، وهو ما تسبب في مقتل أكثر من 2600 شخص وقتها. هذا الرقم ارتفع الآن إلى أكثر من 14 ألف قتيل، بحسب بيانات الحكومة الأوكرانية.
وبالتالي عادت المساعي الدبلوماسية مرة أخرى في ذلك الوقت ونتج عنها توقيع اتفاقية مينسك 2 في فبراير/شباط 2015، والتي وقَّع عليها قادة فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا في روسيا البيضاء، وتم عرض الاتفاقية على مجلس الأمن الدولي، الذي أقرها وأصدر قراره رقم 2202 لعام 2015 لحل الصراع في أوكرانيا على هذا الأساس.
واشتملت مينسك2 على 13 بنداً، اعتبرت مجتمعة بمثابة خريطة طريق لحل النزاع الأوكراني بصورة شاملة. البند الأول فيها هو وقف فوري لإطلاق النار من الجانبين وتبادل الأسرى بين الانفصاليين والقوات الحكومية، وأن تشرف منظمة الأمن والتعاون في الاتحاد الأوروبي على تسليم الانفصاليين أسلحتهم من الخطوط الأمامية.
ومن بنودها أيضاً أن تصدر الحكومة الأوكرانية عفواً شاملاً عن العسكريين (الذين انضموا للانفصاليين) وعن المقاتلين الانفصاليين جميعاً، والتمهيد لإجراء انتخابات عامة في البلاد. كما تضمنت الاتفاقية بنداً خاصاً بضمان تسليم المساعدات الإنسانية بشكل آمن، والعمل على إعادة الاندماج الوطني والاجتماعي والاقتصادي بين جميع الفئات في أوكرانيا، وبصفة خاصة في الأقاليم الشرقية التي سيطر عليها الانفصاليون.
وتعهدت أوكرانيا، بموجب بنود اتفاقية مينسك2، بتنفيذ تغييرات دستورية تنص على "اللامركزية" في البلاد وتطبيق النظام الفيدرالي، وفي المقابل يتم انسحاب جميع "التشكيلات المسلحة الأجنبية"، واستعادة النظام الأوكراني السيطرة على الحدود الشرقية، في إشارة إلى الدعم الروسي للانفصاليين.
ماذا يريد الغرب من روسيا؟
الفصل الحالي من الأزمة الأوكرانية بدأ في التصعيد منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من خلال تقارير استخباراتية أمريكية بالأساس قالت إن روسيا تحشد قواتها على الحدود استعداداً لغزو أوكرانيا.
نفت روسيا تلك التقارير واتهمت الغرب باستفزازها عن طريق وضع أسلحة هجومية بالقرب من حدودها، وهو ما يخالف ما تم الاتفاق عليه قبل ثلاثة عقود. لكن صور الأقمار الصناعية أظهرت حشوداً عسكرية روسية ضخمة وتدريبات مكثفة واستعداداً واضحاً لتحرك عسكري كبير.
وهكذا بدأت الأزمة تتصاعد بصورة ملحوظة وتسير في مسارين، الأول سياسي ودبلوماسي شمل اتصالات مباشرة بين بوتين وبايدن في مناسبتين ولقاء في موسكو بين بوتين ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون ولقاء آخر مع المستشار الألماني أولاف شولتس، الذي من المقرر أن يصل موسكو 14 فبراير/شباط.
وتهدف هذه التحركات جميعاً إلى أن تستجيب روسيا لما يريده الغرب وهو بالأساس أن تسحب حشودها العسكرية من الحدود الأوكرانية وتتوقف عما يقول الغرب إنها تهديدات لاستقرار أوكرانيا.
الكرملين من جانبه لا يزال مصراً على أنه لا توجد أي نوايا لغزو أوكرانيا، وفي المقابل تواصل إدارة بايدن تسريب معلومات استخباراتية تخص النوايا الروسية وكان آخرها تحديد موعد "الغزو الروسي" على أنه الأربعاء 16 فبراير/شباط الجاري.
هذه هي أبرز المعلومات المتاحة بشأن الأزمة الأوكرانية، ويضاف إليها تحليلات تتهم زعماء غربيين مثل جو بايدن وجونسون وماكرون بتسخين الأزمة وتأزيمها لتحقيق مصالح سياسية داخلية تخص كلاً منهم، فبايدن يواجه اختباراً انتخابياً صعباً هذا العام (التجديد النصفي في الكونغرس) وسط تدنٍّ غير مسبوق في شعبيته، وماكرون لديه انتخابات رئاسية خلال شهرين، وجونسون رئيس وزراء بريطانيا تطارده "حفلات الخمور" أثناء فرض قيود صارمة خاصة بجائحة كورونا على الشعب.
ولا يبدو أن الاتهامات لبايدن وماكرون وجونسون مجرد تحليلات، إذ ألمح الرئيس الأوكراني نفسه إلى هذه النقطة- دون تحديد أيهم بالاسم- وقال إن هناك مبالغات غربية بشأن النوايا الروسية، مضيفاً أن ذلك قد يكون مفيداً سياسياً للبعض لكنه يضر أوكرانيا.
فالرئيس الأوكراني يرى أن بلاده تدفع ثمن الصراع بين بوتين وبايدن. فالرئيس الروسي يتصارع على النفوذ في أوروبا في حقبة ما بعد الحرب الباردة للحصول على ضمانات أمنية من بايدن، لمنع دخول كييف إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونشر الصواريخ بالقرب من حدود روسيا.