تمثل أسعار النفط المرتفعة كابوساً للرئيس الأمريكي جو بايدن، وكان اتصاله بالعاهل السعودي يهدف بالأساس إلى طلب مساعدته في عام انتخابات قد يخسرها الديمقراطيون، فما القصة؟
كان جو بايدن قد أجرى اتصالاً، مساء الأربعاء 9 فبراير/شباط، بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، تناول إمدادات الطاقة والتطورات في الشرق الأوسط، وضمن ذلك قضايا إيران واليمن، وقال البيت الأبيض في بيان: "أكد الزعيمان الالتزام بضمان استقرار إمدادات الطاقة العالمية".
وتواصل أسعار النفط ارتفاعها بصورة متصاعدة مؤخراً، إذ ارتفعت الخميس 10 فبراير/شباط، إلى قرابة 92 دولاراً للبرميل خام برنت، فيما تخطى الخام الأمريكي غرب تكساس حاجز 90 دولاراً للبرميل، بينما تشير التوقعات إلى أن سعر النفط قد يتخطى حاجز 100 دولار للبرميل خلال الأسابيع القادمة، في حال لم يتم إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
توقيت اتصال بايدن بالملك سلمان
الاتصال بين بايدن والعاهل السعودي هو الثاني منذ تولي الرئيس الأمريكي منصبه قبل أكثر من عام، وكان الاتصال الأول بينهما في فبراير/شباط من العام الماضي، ولكن الفارق ضخم بين أجندة الاتصالين.
فاتصال العام الماضي جاء في أجواء متوترة للغاية في العلاقة بين واشنطن والرياض، على خلفية الحرب في اليمن وجريمة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي. إذ اتخذ بايدن عدة قرارات تخص القضيتين واعتبرت عقاباً للسعودية، كوقف الدعم الأمريكي لعمليات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن وإلغاء تصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية، ورفع السرية عن تقرير استخباراتي أمريكي ألقى بمسؤولية اغتيال خاشقجي على الأمير محمد بن سلمان ولي العهد.
أما الاتصال الأخير فجاء في أجواء مختلفة تماماً، فبايدن هو من بادر بالاتصال وكشفت بيانات البيت الأبيض والديوان الملكي السعودي أن الرئيس الأمريكي أكد التزام الولايات المتحدة بدعم السعودية في الدفاع عن نفسها في مواجهة هجمات جماعة الحوثي اليمنية المتحالفة مع إيران.
كما أكدت البيانات الرسمية أن الرئيس الأمريكي أطلع الملك سلمان أيضاً على تطورات المحادثات الدولية الرامية إلى "إعادة فرض قيود على برنامج إيران النووي"، بينما ذكرت وكالة الأنباء السعودية أن الملك سلمان أبلغ بايدن "حرص المملكة على الوصول إلى حل سياسي شامل في اليمن".
لكن تظل إمدادات الطاقة العالمية الموضوع الرئيسي، وربما السبب الأساسي وراء اتصال الرئيس الأمريكي، بحسب أغلب المحللين. إذ أشار مصدر أمريكي مطلع على الاتصال الهاتفي، لـ"رويترز"، إلى أن "المملكة العربية السعودية لعبت تاريخياً دوراً حيوياً في ضمان توافر إمدادات جيدة بأسواق الطاقة العالمية لدعم قوة وصمود الاقتصادات".
وأضاف المصدر الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته: "أشار الرئيس إلى أن هذا له أهمية خاصة حالياً، في هذا الوقت من الاضطرابات السياسية والتعافي (الاقتصادي) العالمي".
كما قالت وكالة الأنباء السعودية إن الملك سلمان أكد "أهمية الحفاظ على توازن أسواق البترول واستقرارها، منوهاً بدور اتفاق أوبك+ التاريخي في ذلك، وأهمية المحافظة عليه".
لماذا تمثل أسعار النفط "كابوساً" لبايدن؟
يشكل ارتفاع أسعار النفط تهديداً مباشراً لإدارة بايدن هذا العام تحديداً قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والتي يسعى فيها المشرعون من حزب بايدن الديمقراطي للدفاع عن أغلبيتهم البسيطة في مجلسي الشيوخ والنواب.
وحتى تكون الصورة كاملة، من المهم أن نذكر أن أسعار الطاقة، النفط والغاز الطبيعي، ترتبط ارتباطاً عضوياً ومباشراً بالتضخم، فكلما ارتفعت تلك الأسعار ترتفع معها أسعار جميع السلع وبالتالي يزداد التضخم. وشهدت أسعار النفط خلال العام الماضي 2021، ارتفاعاً بنسبة تخطت 20% بالفعل.
وهناك عدة أسباب لارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، أبرزها بالطبع زيادة الطلب، فأسعار أية سلعة أو مادة خام ترتبط بالأساس بالعرض والطلب. لكن أسعار النفط تحديداً ترتبط بعوامل كثيرة وتعتبر من أكثر السلع أو المواد الخام التي تتأثر، بشكل كبير، بعدد لا نهائي من العوامل، من التغير المناخي وحتى الأزمات السياسية والحروب.
وكانت أسعار النفط قد انهارت إلى ما دون الصفر للبرميل خلال أبريل/نيسان 2020، بسبب تداعيات جائحة كورونا من ناحية وحرب الأسعار التي اشتعلت بين السعودية وروسيا من ناحية أخرى، وظلت الأسعار متدنية إلى حد كبير حتى بدايات عام 2021 عندما بدأت حملات التطعيم ضد كورونا تؤتي أكلها ولو جزئياً.
وعلى الرغم من أن جائحة كورونا لا تزال تمثل أزمة صحية عالمية، فإن تأثيرها على النشاط الاقتصادي بدأ يتراجع جزئياً، ومع العودة التدريجية للنشاط الاقتصادي زاد الطلب على مصادر الطاقة من نفط وغاز طبيعي ومعها بدأت الأسعار في الارتفاع تدريجياً.
وهكذا وجد الرئيس الأمريكي نفسه محاصراً بأزمة ترقى إلى حد الكابوس، تتمثل في ارتفاع أسعار السلع الأساسية والمحروقات، لذلك بدأت إدارة جو بايدن في استعمال جميع الأدوات المتوافرة لديها كي تنخفض أسعار النفط.
وناشدت إدارة بايدن منظمة أوبك (الدول المنتجة للبترول والتي تقودها السعودية) وكذلك الشركات الأمريكية أن ترفع من الإنتاج لتواكب ارتفاع الطلب، وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، اتخذ بايدن قراراً تاريخياً بسحب 50 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي، علماً بأن السحب من الاحتياطي تحكمه قاعدة رئيسية تتعلق بتوقف إمدادات النفط، بسبب الحروب أو الكوارث الطبيعية.
وتهدد إدارة بايدن كذلك بتفعيل إجراءات فيدرالية تتمثل في فرض حظر تصدير على الإنتاج الأمريكي أو فرض عقوبات على أوبك بدعوى الاحتكار، وهي تهديدات يراها مراقبون مبالغاً فيها وتنمّ عن حالة القلق الشديد التي تعاني منها الإدارة الأمريكية.
وربما يكون أبرز دليل على تلك الحالة من التوتر التي يعيشها بايدن، هو ذلك الرد غير اللائق الذي استخدمه منفعلاً لإجابة سؤال من أحد الصحفيين بشأن مدى تأثير التضخم سلباً على شعبية بايدن وفرص حزبه في انتخابات الكونغرس المقبلة.
وكان مراسل شبكة فوكس نيوز في البيت الأبيض قد سأل بايدن عما إذا كان التضخم يشكل عبئاً سياسياً قبل الانتخابات النصفية، وردّ الرئيس الديمقراطي الذي لم يكن على الأرجح يعلم أن ميكروفونه لا يزال مفتوحاً، بتهكم: "إنه ميزة عظيمة، المزيد من التضخم"، قبل أن يُسمع وهو يتمتم: "يا له من غبي ابن… (لفظ غير لائق)".
كما نشرت شبكة CNN مؤخراً تقريراً عنوانه "الأمر يزداد سوءاً كل مرة.. التضخم مشكلة ضخمة للديمقراطيين"، رصد كيف أن التدني المسبوق في شعبية بايدن سببه الأساسي هو التضخم وارتفاع الأسعار، وليس فقط الملفات السياسية سواء الخارجية أو الداخلية.
أزمة أوكرانيا وأسعار الطاقة
وما يزيد الطين بلة بالنسبة للرئيس الأمريكي هو الأزمة الأوكرانية، التي يهدد انفجارها وتحولها إلى غزو روسي بالفعل كما يحذّر بايدن وإدارته، بارتفاع أكبر في أسعار النفط والغاز الطبيعي. فروسيا هي ثاني أكبر منتج للنفط في العالم وأوكرانيا هي الجسر الذي ينتقل من خلاله الغاز الروسي إلى أوروبا.
وحالياً تعتبر روسيا أيضاً في موقف يمكّنها من التحكم أكثر في أسعار النفط؛ لكونها طرفاً رئيسياً في منظمة أوبك بلاس، التي تضم أكبر منتجي النفط في العالم والتي تتبع حالياً اتفاقاً لتخفيض الإنتاج كانت قد توصلت إليه العام الماضي، وبموجبه يزداد الإنتاج بالفعل تدريجياً.
ومن غير المتصور بالطبع أن يحدث أي تواصل بين بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين بشأن أسعار النفط، فالعلاقة بين الرجلين متخلفة تماماً عما كانت عليه علاقة بوتين ودونالد ترامب، سلف جو بايدن، الذي تواصل مع بوتين وولي العهد السعودي بالفعل خلال أزمة أسعار النفط عام 2020، على الرغم من أن الأزمة وقتها كانت معكوسة، إذ انهارت الأسعار، مما أدى إلى خسائر ضخمة للشركات الأمريكية وفقدان عشرات الملايين من الوظائف. نعم، كانت مشكلة ترامب الأسعار المنخفضة بينما مشكلة بايدن الأسعار المرتفعة، لكن النفط هو أصل المشكلة في الحالتين.
وبالتالي فإن اتصال بايدن بالعاهل السعودي منطلق بالأساس من أزمة أسعار النفط المرتفعة التي تواصل ارتفاعها، سعياً وراء نجدة تأتيه من الرياض تتمثل في ضخ مزيد من النفط في الأسواق كي تهدأ الأسعار، لكن مدى قدرة السعودية على أن تلقي لبايدن بالفعل طوق نجاة يحتاجه بشدة يظل رهناً بمعطيات متعددة.
إذ ليس من السهل أن تقرر السعودية منفردةً زيادة إنتاجها من النفط، لأن خطوة كهذه قد تشجع باقي أعضاء أوبك على عدم الالتزام بحصص الإنتاج المتفق عليها، وهو الأمر الذي تسعى السعودية تحديداً للحفاظ عليه، لأنه أهم ضامن للحفاظ على الأسعار. وكان الخلاف بين السعودية والإمارات داخل أوبك، العام الماضي، نموذجاً لهذا النوع من الإصرار السعودي على التزام أعضاء أوبك بالحصص المتفق عليها.