تأكيد رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، الثلاثاء الماضي، عدم تسليمه السلطة إلا لحكومة منتخبة، وبدءه مشاورات لتنفيذ الاستفتاء على الدستور وإجراء انتخابات في يونيو/حزيران المقبل، يُمهد لمواجهة حاسمة مع مجلس النواب، والحكومة التي يستعد لاختيارها برئاسة فتحي باشاغا.
وتهدد التطورات الأخيرة بعودة البلاد إلى مربع الانقسام الأول، بحكومتين وبرلمانين مع استمرار انقسام المؤسسة العسكرية، كما كان عليه الحال منذ 2014، وإلى غاية مارس/آذار 2021.
إلا أن اختيار باشاغا رئيساً لحكومة مجلس النواب سينقل الخلاف من صراع بين الشرق والغرب، إلى تدافع بين حكومتين في العاصمة طرابلس، على غرار ما حدث ما بين 2016 و2017، بين حكومتي "الإنقاذ" برئاسة خليفة الغويل، و"الوفاق" برئاسة فايز السراج، وانتهت بمواجهة عسكرية حُسمت لصالح الأخيرة.
ورغم أن ميزان القوى ما زال "لحد الآن" لصالح الدبيبة في مواجهة باشاغا، بفضل دعم المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية للبرلمان)، والمجتمع الدولي، فإن باشاغا، وما لديه من ثقل سياسي ونفوذ بين بعض كتائب مصراتة، قد يقلب المعادلة السياسية في طرابلس.
فالوضع ضبابي وغير محسوم لأي طرف، رغم أن الانقسام المتوقع يخدم مصالح رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، بإطالة المرحلة الانتقالية بشكل يضمن له ولمن معه البقاء أطول مدة على رأس السلطة التشريعية، بعد أن خسر، رفقة باشاغا، المنافسة على السلطة التنفيذية في فبراير/شباط 2021، أمام قائمة محمد المنفي والدبيبة.
خارطتا طريق متصادمتان
بينما أقرّ مجلس النواب، الإثنين، خارطة طريق جديدة ستدخل البلاد في مرحلة انتقالية سادسة، قال إنها لن تتجاوز 14 شهراً، تبدأ من تعديل الإعلان الدستوري، كما قبول أوراق ترشح كل من فتحي باشاغا وخالد البيباص، لرئاسة الحكومة الجديدة، التي ستحسم الخميس.
بالمقابل شدد الدبيبة على أنه لن يسمح بقيام مرحلة انتقالية جديدة، ولا بسلطة موازية، وأنه لن يُسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة، وأعلن شروعه في استشارات لإجراء الاستفتاء على الدستور والانتخابات في أجل لن يتجاوز يونيو/حزيران المقبل.
فملتقى الحوار السياسي، الذي رعته الأمم المتحدة في تونس، حدد في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، مدة المرحلة الانتقالية بـ18 شهراً تنتهي في يونيو المقبل، وعليه يرفض الدبيبة تجاوز هذا التاريخ لتفادي الدخول في مرحلة انتقالية سادسة.
وقال الدبيبة، الثلاثاء: "لن نسمح بمراحل انتقالية جديدة، ولن نتراجع عن دورنا حتى الانتخابات".
في حين يتجه باشاغا لحسم سباق رئاسة حكومة مجلس النواب، الخميس المقبل، بنسبة كبيرة في منافسة شخصية مغمورة (البيباص)، لكنه يواجه عدم اعتراف المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية للبرلمان)، بتغيير السلطة التنفيذية قبل المضي في المسار الدستوري.
فليبيا الآن أمام مفترق طرق، وبخارطتي طريق مختلفتين، بل متصادمتين، ما سيؤدي إلى شرخ سياسي جديد، قد يتطور إلى مواجهات عسكرية مسلحة، خاصة مع تحالف باشاغا مع عدوه السابق خليفة حفتر، قائد قوات الشرق.
وإصرار رئيس مجلس النواب عقيلة صالح على المضي في تغيير الحكومة، رغم معارضة 62 نائباً، دفع الدبيبة للجوء إلى المجلس الأعلى للدولة، الذي يمثل الشرعية في المنطقة الغربية.
إذ إن النواب الداعمين للدبيبة لم يتمكنوا لحد الآن من كبح انفراد عقيلة صالح بالقرارات المصيرية للبرلمان، مما دفعه إلى اللجوء لسلطة تشريعية موازية، لدعم شرعية حكومته في حال شكل مجلس النواب حكومة بديلة.
خطة الدبيبة غير تقليدية
ولكن خطة الدبيبة لإجراء استفتاء على الدستور وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية، في يونيو المقبل، تصطدم بعرقلة متوقعة لقوات حفتر من تنظيمها في مناطق سيطرته بالشرق والجنوب، ما سيؤدي لإفشالها وإسقاطها لعدم شموليتها كامل مناطق البلاد.
لذلك لجأ الدبيبة إلى خطة غير تقليدية، عندما لوح بـ"خيار الاستفتاء الإلكتروني، المعمول به في دول عدة.. إذا تعذر على المفوضية إجراء الاستفتاء والذهاب نحو العملية الانتخابية".
وشرع رئيس حكومة الوحدة في اتخاذ إجراءات عملية لتنفيذ هذه الخطة، حيث كلف رؤساء هيئة المعلومات، وهيئة الاتصالات، ومصلحة الأحوال المدنية، ومديري شركتي المدار وليبيانا (للاتصالات السلكية واللاسلكية)، بتنفيذ ورشة عمل موسعة لتوضيح الخطوات الفنية والتقنية للتصويت الإلكتروني للمواطنين.
ويحظى الدبيبة بدعم دولي وأممي، ومن المجلس الأعلى للدولة، ومحافظ البنك المركزي الصديق الكبير، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء محمد الحافي، بالإضافة إلى مساندة قائد الأركان محمد الحداد، ومعظم الكتائب العسكرية بالمنطقة الغربية، وهذا ما يجعله قادراً على الصمود لأشهر في وجه تحالف عقيلة وباشاغا وحفتر.
وإذا نجح الدبيبة في إجراء استفتاء إلكتروني على مشروع الدستور، وانتخابات برلمانية بنفس الآلية، فحينها بإمكانه التخلص من مجلس النواب الحالي، وتمهيد الطريق لتعديل قوانين الانتخابات بل والترشح لرئاسيات تكون حظوظه للفوز بها كبيرة.
إلا أن خطوة كبيرة من هذا النوع، وإن كانت ستبقي الدبيبة لفترة أطول في السلطة، إلا أنها لن تسهم في توحيد البلاد، بل ستكرس الانقسام وتزيده شرخاً.
ويمكن توقع أن التلويح بالانتخابات عبر الآلية الإلكترونية ليست سوى ورقة ضغط على عقيلة صالح، لإجباره على التراجع عن فكرة تغيير الحكومة، أو الذهاب إلى سيناريو لعبة "عض الأصابع" و"عليّ وعلى أعدائي".
فالدبيبة، الذي هادن مجلس النواب لفترة طويلة لم يبق له الآن من خيار سوى الدفع بكل أوراقه التفاوضية في مواجهة تحالف عقيلة وباشاغا، ومن ورائهما حفتر.
باشاغا.. حصان طروادة لحفتر
يصف باشاغا نفسه وعقيلة وحفتر بـ"أصحاب الحل والعقد"، ويعتقد أن بإمكانه إزاحة الدبيبة من الحكومة في طرابلس دون إراقة دماء.
بينما يراهن عليه أنصار حفتر لتمهيد الطريق لقوات الشرق لدخول طرابلس بـ"المكر والخديعة" بعدما فشلوا في تحقيق ذلك بالقوة والسلاح.
فباشاغا بالنسبة لحفتر ليس سوى "حصان طروادة"، الذي سيغري به قادة كتائب المنطقة الغربية، لتمهيد استيلائه على السلطة في كامل البلاد.
وعبّر عن هذه الحقيقة النائب علي التكبالي، التابع لحفتر، بالقول إنه "لو جاء باشاغا (لرئاسة الحكومة) سوف يتمكن الجيش (قوات حفتر) من السيطرة على كثير من المناطق".
ويراهن باشاغا على قدرته على إقناع قادة الكتائب في المنطقة الغربية، وخاصة بمصراتة، على تغيير ولاءاتهم، ونفض أيديهم من دعم الدبيبة، بما يمهد لإحكام سيطرته على طرابلس.
بنفس الطريقة التي أزاح بها خليفة الغويل من رئاسة حكومة طرابلس، وثبّت فيها السراج حاكماً وحيداً على العاصمة، بعد أشهر من التدافع، ودون إراقة الكثير من الدماء.
لكن باشاغا يواجه ثلاث معضلات كبيرة، أولاها أن شعبيته في المنطقة الغربية تراجعت كثيراً مع صعود نجم الدبيبة، وتدهورت أكثر لما وضع يده في يد حفتر، الذي يصفونه بمجرم حرب، بعد الدمار الكبير الذي خلفه خلال هجومه على العاصمة في 2019.
وثاني هذه المعضلات افتقاده للاعتراف الدولي، فحتى ولو اختاره مجلس النواب رئيساً للحكومة، فإن الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها عبروا صراحة عن دعمهم لحكومة الدبيبة، ورفضهم الدخول في مرحلة انتقالية جديدة تفقد الانتخابات زخمها.
وسيكون على باشاغا عمل جهد كبير للحصول على دعم مصري وفرنسي وروسي، ومحاولة تغيير موقف تركيا، للاعتراف بحكومته المتوقعة، وسحب الاعتراف من حكومة الدبيبة.
والمعضلة الثالثة أن مفتاح خزائن البنك المركزي بيد الصديق الكبير، الداعم للدبيبة، وبدون اعتراف دولي لن يتمكن من الحصول على تمويل من البنك المركزي لتمويل ميزانية حكومته.
ولن يتمكن حينها باشاغا من دفع مرتبات عناصر الجيش والكتائب والشرطة، التي عادة ما يكون ولاؤها لمن يدفع لها.
وبدون ضمان ولاء كتائب الغرب الليبي، فلن يتمكن باشاغا من إزاحة الدبيبة من رئاسة الحكومة في طرابلس، ويصبح حينها خاضعاً بالكامل لنفوذ قوات حفتر.
إذ إن أصعب ما واجه حفتر في سعيه للسيطرة على البلاد عدم قدرته على التحكم في الموارد المالية للبنك المركزي بطرابلس، المعترف به دولياً، رغم محاولته فتح بنك موازٍ في الشرق، وهيمنته على معظم الموانئ والحقول النفطية في البلاد إلا أن ذلك لم يكن كافياً.
فكل صادرات البلاد من النفط والغاز إلى الخارج تصب في حساب للبنك المركزي، ما جعل مجلس النواب الموالي لحفتر يقدم تنازلات عديدة حتى يتولى للمجلس الأعلى للدولة حتى يكون منصب محافظ البنك المركزي من نصيبه، في مفاوضات تقسيم المناصب السيادية.
وأمام هذه المعضلات الثلاث فلن يتمكن باشاغا من فرض سلطته على طرابلس بسهولة، وقد لا يفرضها أبداً، إلا إذا استطاع تغيير ولاءات قادة كتائب مصراتة وطرابلس، وأيضاً خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، الذي لا يعارض تغيير الحكومة، إلا وفق صفقة جيدة يكون على رأسها الاستفتاء على الدستور أو الاتفاق على قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات.
بينما يراهن الدبيبة على استقطاب المجلس الأعلى للدولة لصفه بشكل واضح وحاسم، بعد أن أبدى رئيسه في وقت سابق الرغبة في عقد صفقة مع عقيلة صالح، سرعان ما تنصل منها الأخير.
والدعم الدولي حاسم بالنسبة للدبيبة، لأن مجلس النواب ليس من اختاره رئيساً للحكومة بل ملتقى الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة، وبهذا الدعم يمكنه الاستفادة من الموارد المالية الكبيرة للبنك المركزي، وعزل الحكومة الموازية خارجية، وخنقها مالياً، ما يضمن له ولاء قادة الجيش وكبار موظفي الدولة.
إلا أن ليبيا دائماً ما تفاجئ الجميع بسيناريوهات غير متوقعة، بالنظر إلى تغير الولاءات وتقلب التحالفات بشكل سريع، وهو ما يخلط الحسابات في كل مرة.