يبدو أن بوتين لا يأبه لخطر العقوبات الأمريكية على روسيا، رغم توعّد المسؤولين الأمريكيين بأن هذه العقوبات سوف تكون غير مسبوقة، فمن أين يأتي الرئيس الروسي بهذه الثقة؟
وتوعّد الرئيس الأمريكي جو بايدن بوتين مراراً بأنه ستكون هناك "عواقب اقتصادية لم يسبق لها مثيل".
ولكن الثقة التي يتعامل بها بوتين مع هذا السيناريو قد يكون وراءها ما هو أكثر من القوة العسكرية أو التبجح الفارغ، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
كيف استعدّ لمواجهة العقوبات الأمريكية على روسيا؟
خلال السنوات العديدة الماضية، أعاد الرئيس الروسي هيكلة اقتصاد بلاده لغرض محدد هو التصدي للضغوط المالية الغربية.
فقد حدّت روسيا من استخدامها للدولار بدرجة كبيرة، وحدّت معه من نفوذ واشنطن. ونجحت في توفير احتياطيات هائلة من العملات الأجنبية، وقلصت ميزانيتها، للحفاظ على استمرار اقتصادها وخدماتها الحكومية في حال عزلها، وأعادت توجيه التجارة وأوجدت بدائل للواردات الغربية.
وهذه الدفاعات الاقتصادية الروسية ربما تشرح جزءاً من سبب استعداد بوتين لشن حملة عسكرية أخرى على أوكرانيا، رغم التكلفة الباهظة لضمه شبه جزيرة القرم عام 2014، حيث أوقعت العقوبات الغربية روسيا في أزمة اقتصادية وسياسية.
على أن هذه التغيرات لا توفر سوى حاجز حماية يخفف من حدة العقوبات، وليست درعاً لا يمكن اختراقه. فمن شبه المؤكد أن الإجراءات القاسية التي تدرسها واشنطن ستضر بروسيا، وربما يكون هذا الضرر مدمراً، ولو أنه سيطال بعض الاقتصادات الغربية.
حصن روسيا الأكبر احتياطياتها المالية
أهم تحصينات موسكو الاقتصادية هي مخزون بنكها المركزي من العملات الأجنبية.
فمنذ عام 2015، وسَّعت روسيا، عن طريق تحويل مسار عائدات النفط والغاز احتياطياتها من العملات إلى 631 مليار دولار، أي ما يعادل ثلث الاقتصاد الروسي كله، وهو رابع أكبر احتياطي من نوعه في العالم، وأحد أكبر احتياطيات الدول البترولية.
وبإمكان موسكو استغلال هذه الاحتياطيات لدعم الروبل في حالة فرض مجموعة أخرى من العقوبات، ويمكنها أيضاً استخدامها لتغطية الميزانيات العمومية للحكومة والشركات.
والرئيس بوتين، بتقليله النفقات، حافظ على مستوى الديون الإجمالية عند أقل من ثلثي احتياطيات بلاده من العملات.
ويمثل الدولار الذي كان مهيمناً 16% فقط من احتياطيات العملة الروسية، حيث أبدلته روسيا باليورو والرنمينبي الصيني والذهب.
وهذه الخطوة واحدة من خطوات عديدة نحو ما يسمى بـ"الحد من نفوذ الدولار"، الذي سيقلل من قدرة واشنطن على استغلال سيطرتها على المعاملات القائمة على الدولار لخنق الاقتصاد الروسي.
وعمدت روسيا أيضاً إلى إعادة هيكلة ديون الشركات في البلاد لتكون بالروبل بدلاً من الدولار.
التحول نحو آسيا
وفي الوقت نفسه، وجهت روسيا بعض تجارتها إلى آسيا. وبعد عام 2014، حين فرضت روسيا قيوداً تجارية على الجبن الأوروبي انتقاماً من العقوبات، لجأت لبدائل محلية لتعويض هذه الواردات.
وتعلَّم بوتين أيضاً كيف يحافظ على ولاء النخبة السياسية والتجارية التي تحظى بأهمية كبيرة في روسيا (الذين يحافظون على بقائه في السلطة مثلما يحافظ الناخبون على القادة الديمقراطيين في السلطة)، حتى في ظل العقوبات.
فعلى سبيل المثال، حصل بعض من هؤلاء، ممن خسروا شققاً في لندن أو استثمارات أجنبية بعد عام 2014 على عقود بناء أو طاقة في وطنهم.
ماذا لو فرضت أمريكا حصاراً نفطياً مماثلاً للنموذج الإيراني؟
اعتماد روسيا الاقتصادي الكبير على صادرات النفط والغاز يعتبره البعض نقطة ضعف قد يستغلها الغرب.
لكن بعض المحللين يقولون إن هذا لو كان صحيحاً فالتحصينات الاقتصادية الروسية ستحولها لصالح روسيا.
تقول إيما أشفورد، التي تدرس قضايا الأمن الأوروبي في شركة أبحاث المجلس الأطلسي: "أوروبا لم تحل مسألة اعتمادها على الغاز الروسي".
والسياسات المتشددة التي تتبعها روسيا في ميزانيتها، والتي لا تميل للتوسع في الإنفاق، تعني أن الكرملين يمكنه تغطية النفقات ما دام يُباع النفط بما لا يقل عن 44 دولاراً للبرميل، وفقاً للتقديرات الدولية. وسعر السوق الحالي ضعف هذا الرقم، وهذا يمكّن موسكو من الحفاظ على استمرار الخدمات الحكومية والميزانيات العسكرية، حتى لو حدث تراجع حاد في الأسعار.
وقدرت إيما أن احتياطيات العملة الروسية بإمكانها تعويض خسارة صادرات الطاقة إلى أوروبا "لعدد من السنوات". وفي الوقت نفسه، فمخزونات الطاقة في أوروبا قد لا تدوم إلا لبضعة أشهر فقط.
ويمكن أن تفرض واشنطن عقوبات على صادرات الطاقة الروسية، مثلما فعلت مع إيران، بحيث تجبر الدول الأخرى على عدم شرائها.
ولكن مثل هذه العقوبات الخطيرة، إضافة إلى أنها يمكن أن تدفع روسيا لمزيد من التهور تجاه أوكرانيا أو دول البطليق الأعضاء في الناتو، فإنها قد تأتي في وقت حرج في عالم الطاقة، خاصة بالنسبة لأوروبا؛ حيث تشهد أسعار الغاز صعوداً كبيراً ينذر بشتاء صعب للاتحاد الأوروبي، الذي يعتمد على روسيا في تلبية أكثر من ثلث احتياجاته من الغاز تحديداً.
وروسيا أيضاً مُصدِّر عالمي رائد للنحاس والألومنيوم والسلع الأخرى، التي تعتمد عليها الصناعات العالمية، ناهيك عن القمح، وربما ترى موسكو أن العالم يحتاج إليها بأكثر مما تحتاجه.
هل خطر العقوبات الأمريكية أكبر من توقعات بوتين؟
لكن بوتين ربما لم يتوقع الإجراءات القاسية التي تجري مناقشتها الآن، حسب تقرير The New York Times.
يقول إدوارد فيشمان، أحد كبار مسؤولي سياسة العقوبات في إدارة أوباما: "العقوبات الأمريكية على روسيا المطروحة على الطاولة في الوقت الحالي، أي عقوبات الحظر الكامل على أكبر البنوك الروسية، أقوى من التي كانت مطروحة عام 2014".
وهناك أيضاً خيار عزل روسيا عن النظام المصرفي الدولي، رغم أن مُحلِّلين قالوا إن هذا غير مُرجَّح.
وسبق أن لوَّحت الولايات المتحدة بأن واحدة من أقوى أدوات العقوبات الاقتصادية لديها هي فرض قيود على إصدار موسكو للديون السيادية، كما يمكن أن تفرض واشنطن عقوبات على قدرة روسيا على تداول الدولار الأمريكي، وسبق أن سعت موسكو بالتعاون مع الصين لإيجاد بدائل للتعامل بالدولار الأمريكي، في مؤشر على قلقها من هذا السيناريو.
وتنظر روسيا لهذه الحزمة من العقوبات على أنها تُشكّل تصعيداً خطيراً.
وتشعر دول غربية أخرى بالقلق من أنَّ فصل المؤسسات المالية الروسية عن نظام "سويفت" الدولي للتعاملات المصرفية قد يرتد بانعكاسات سلبية على الاقتصاد الأوروبي.
إذ ينظر الاتحاد الأوروبي إلى سيناريو منع روسيا من استخدام نظام الدفع العالمي "سويفت"، كمقترح "إشكالي"، في حين تدفع أمريكا لوضع اللمسات الأخيرة على حزمة عقوبات ضد موسكو، حال قررت غزو أوكرانيا، لأن حظر روسيا عن نظام "سويفت" الذي يستخدم لتحويل المدفوعات في جميع أنحاء العالم، يعتبر مشكلة كبيرة بسبب الاضطرابات المحتملة التي سيتسبب بها في الأسواق العالمية للطاقة والصادرات الروسية الأخرى، حسبما ذكر التقرير.
وكتب جورج بيركس، المحلل في شركة Bespoke Investment Group الاستثمارية، أنه مع هذه القيود، حتى في ظل توفر احتياطيات العملة الروسية "يصبح إنفاق تلك الاحتياطيات لدعم الروبل والحفاظ على مستويات المعيشة الروسية أمراً غاية في الصعوبة".
وتهديد الرئيس بايدن بمنع البنوك الروسية من المعاملات القائمة على الدولار تماماً سيعيق قدرة البنوك على تنفيذ أعمال تجارية في الخارج إذا وضعه موضع التنفيذ.
وكتب بيركس: "وسيعجز المستوردون عن الدفع لمورديهم، ولن يحصل المصدرون على عائدات جديدة، وتلبية المستويات العادية من الطلب على السلع الأساسية ستصبح مستحيلة".
وقال فيشمان: "ليس بمقدور روسيا أن تفعل شيئاً لحماية نفسها من ذلك".
وقال سفير روسيا لدى الصين، أندريه دينيسوف، إن موسكو وبكين تتحدثان بشكل متزايد عن استخدام العملات الوطنية في الحسابات المالية المتبادلة، وعن تنسيق الجهود لمواجهة العقوبات.
خيار هواوي
وألمح المسؤولون الأمريكيون إلى أن واشنطن قد تلجأ إلى النهج الذي تتبعه مع الصين، إذ من المُحتَمَل أن تفرض عقوبات قد تحرم الروس من هواتفهم المفضلة من الجيل التالي، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة وغيرها من الأدوات، علاوة على حرمان الجيش من المعدَّات المتطوِّرة.
تستطيع شركات التكنولوجيا الأمريكية إذا حجبت بعض تطبيقاتها عن روسيا أن تسبب مشكلة، ولكن يجب ملاحظة أن موسكو لديها تطبيقات منافسة كثيرة، وبكين تخطت أزمة هواوي، رغم أن روسيا تظل في هذا المجال أقل كفاءة من الصين، ولكنها قد تلجأ لبكين للبحث عن بعض الحلول.
أحد خيارات العقوبات الأمريكية الأخف وطأة هو فرض عقوبات تستهدف صادرات الولايات المتحدة في مجال التقنية المتقدّمة (مثل أشباه الموصلات والرقائق الدقيقة) إلى روسيا، وهو إجراء من شأنه أن يؤثر سلباً على صناعتي الفضاء والأسلحة الروسية.
ويبدو أن تهديد واشنطن بمنع صادرات الأجهزة التكنولوجية المتطورة قد فاجأ بوتين، وفقاً لألكسندر غابوف، الباحث البارز في مركز كارنيغي في موسكو.
وهذه الخطوة ستحد من قدرة روسيا على إنتاج معدات صناعية أو عسكرية متطورة، وقد يحرم الروس أيضاً من شراء هواتف ذكية أو غيرها من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، حسب آلية تنفيذها.
ومن المرجح أن بوتين تتطرّق إلى هذه المشكلة في محادثاته مع الزعيم الصيني شي جين بينغ، ولكن يرى كثيرون أن الصناعات التكنولوجية الصينية ليست كافية بعد لتحل محل المكونات الأمريكية.