“عش الدبابير” تحت حصار السلطة الفلسطينية وإسرائيل.. قصة تصاعد المقاومة في مخيم جنين

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2022/02/06 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/06 الساعة 12:56 بتوقيت غرينتش
جنود من جيش الاحتلال الإسرائيلي قرب جنين/رويترز

يسمى مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة بعش الدبابير، ويعيش سكانه الفلسطينيون في حالة من القلق تحسباً لاقتحام الجيش الإسرائيلي أو قوات الأمن التابعة للسلطة، بسبب وجود مسلحين مطلوبين من جانب الاحتلال.

وتبلغ مساحة مخيم جنين، الذي يقع في قلب المدينة الواقعة في المنطقة الشمالية من الضفة الغربية المحتلة، نصف كيلومتر مربع، ويسكنه حوالي 13 ألف لاجئ. وأُنشئ المخيم لإيواء الفلسطينيون الذين طردتهم الميليشيات الصهيونية من قراهم في عام 1948 خلال "النكبة"، وهي الحرب التي مهدت الطريق لإنشاء إسرائيل ونجم عنها تهجير قسري جماعي لأكثر من 750 ألف فلسطيني.

يمتلك مخيم جنين تاريخاً طويلاً من المواجهات مع إسرائيل التي بلغت ذروتها في عام 2002 خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية. لكن ظلت المواجهات المباشرة عند حدها الأدنى منذ ذلك الحين، لكن أعمال العنف في مايو/أيار من العام الماضي والتي أثارتها الغارات الإسرائيلية على المسجد الأقصى ومحاولات طرد عائلات فلسطينية من القدس الشرقية المحتلة، بدت وكأنها تبث روح جديدة في المقاومة المسلحة داخل جنين.

ومنذ ذلك الوقت، شوهد مسلحون ملثمون -في أكثر من مناسبة- يرتدون لباساً أسود وينتمون لفصائل فلسطينية مختلفة، من بينها فتح وحماس والجهاد الإسلامي، يجوبون شوارع المخيم كلما اشتعلت التوترات.

وبات وجود هؤلاء المسلحين ملحوظاً بعد واقعة هروب 6 أسرى فلسطينيين، جميعهم من جنين، من سجن جلبوع الإسرائيلي شديد الحراسة، في سبتمبر/أيلول، من ضمنهم زكريا الزبيدي، الشخصية المقاومة الشهيرة. إذ أثارت قصة فرار الأسرى من معتقل جلبوع أو "الخزنة" شديد الحراسة صدمة عنيفة لأجهزة الأمن في إسرائيل.

جنين
الأسير الفلسطيني أيهم الكمامجي (رويترز)

وقبل أن تتمكّن السلطات الإسرائيلية من إلقاء القبض عليهم في نهاية المطاف، سارع المقاتلون المسلحون داخل المعسكر إلى إظهار استعدادهم لمساعدة هؤلاء الأسرى الفارّين ونفَّذ بعضهم عمليات إطلاق نار على نقاط تفتيش إسرائيلية قريبة ونظّم آخرون مسيرات مسلحة تعهدوا فيها بالانتقام إذا أصاب الأسرى الستة أي مكروه.

ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً من داخل المخيم رصد تزايد التوترات خلال الأشهر الأخيرة، وكيف بات سكانه في حالة قلق مستمر من مداهمة الجيش الإسرائيلي أو قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية المخيم في أي لحظة.

البحث عن مقاومين داخل مخيم جنين

ينبع هذا القلق المسيطر على المخيم من حملة التفتيش المشتركة التي تنفذها إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بحثاً عما يتراوح بين 25 إلى 30 شاباً متهمين بالمشاركة في أعمال مقاومة ضد جنود إسرائيليين.

تشتمل تلك الأعمال على إطلاق نار على نقاط تفتيش بالقرب من مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة والاشتباك المسلح مع الجيش الإسرائيلي أثناء مداهمات يشنها في المدينة، فضلاً عن الوجود المسلح الملحوظ داخل المخيم، لاسيما منذ اشتباكات مايو/أيار 2021.

وتحدّث موقع "Middle East Eye" البريطاني إلى ثلاثة من الرجال المدرجين على قائمة المطلوبين في قضايا أمنية داخل معسكر جنين، وجميعهم أعضاء في سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. أراد الرجال الثلاثة إجراء المقابلة ليلاً ورفضوا إظهار وجوههم أو الكشف عن أسمائهم، لذا أعطاهم الموقع أسماء مستعارة.

يقول سلمان، اسم مستعار، وهو من سكان جنين في أوائل العشرينيات من عمره واسمه مدرج على رأس قائمة إسرائيل لأكثر الرجال المطلوبين في قضايا أمنية، إنَّه لم يغادر المخيم منذ أن داهمت وحدة من القوات الخاصة الإسرائيلية مكان عمله في ضواحي المدينة بحثاً عنه العام الماضي.

متظاهرون فلسطينيون في جنين/ رويترز

تلقى سلمان اتصالاً من جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلية (الشاباك) قبل 6 أشهر يهدده بالاعتقال ويطلبون منه تسليم نفسه. يقول سلمان: "يعلم الشاباك أنَّني لن أسلم نفسي ولن أستسلم، وأنَّني كذلك لن أعطيهم الفرصة لاعتقالي، ولهذا السبب حافظت على بقائي داخل المخيم ولم أغادره منذ ذلك الحين".

ولجأ رجال مسلحون آخرون، مثل سلمان، إلى تحصين أنفسهم داخل المخيم مع تزايد حملات السلطة الفلسطينية وإسرائيل لإلقاء القبض عليهم. يتنامى الإحباط من السلطة الفلسطينية، حيث يتهمها سكان مخيم جنين باستخدام القوة المفرطة لإحكام سيطرتها على المخيم.

وقال سلمان لموقع Middle East Eye: "نحن رجال المقاومة كنا على استعداد للموت في سبيل حماية هؤلاء الأسرى الستة ومنحهم ملاذاً آمناً.. لكن الظروف قادتهم إلى مكان آخر".

ومنذ ذلك الحين، لم تعد الأمور كما كانت عليه في جنين. يقول سلمان إنَّ التحريض الإسرائيلي ضد المخيم قد تصاعدت وتيرته، وهو ما يعتقد أنَّه مؤشر على وجود خطط لاستهداف المخيم مجدَّداً.

وأضاف سلمان: "بدأت إسرائيل تكرر وصفها للمخيم بأنَّه عش دبابير، بينما وصفت السلطة الفلسطينية عناصر المقاومة داخل المخيم بالفوضويين الخارجين عن القانون. يهدف هذا الخطاب برمته إلى مطاردة المقاتلين داخل المخيم وقتلهم.

يرى مقاتلون، مثل سلمان، أنفسهم امتداداً للمقاتلين الذين دافعوا عن المخيم خلال معركة 2002. بالنسبة لهم فإنَّ الغارات الإسرائيلية على المخيم، والتي تصاعدت وتيرتها بشدة في العام الماضي، تتجاوز خطاً أحمر ويجب الرد عليها.

أسفر اشتباك مسلح بين قوات الاحتلال الإسرائيلي ومسلحين محليين في يونيو/حزيران عن مقتل 3 أشخاص، من بينهم جميل العموري، عضو سرايا القدس، واثنان من ضباط السلطة الفلسطينية. وشنت إسرائيل مداهمة أخرى في أغسطس/آب أدَّت إلى اشتباكات عنيفة أسفرت عن مقتل 4 فلسطينيين.

حملات السلطة لمصادرة السلاح

وفي الطريق لمقابلة المقاتلين الثلاثة، وجد فريق الموقع البريطاني ملصقات الشهداء والأسرى في كل مكان عند مدخل مخيم جنين، بالإضافة إلى لوحة كبيرة في وسط المخيم مزينة بصور القتلى في المداهمات الإسرائيلية الأخيرة.

قال باسل وتامر (اسمان مستعاران)، شابان في العشرينيات من عمرهما، إنَّهما كانا ضمن قائمة إسرائيلية تضم 12 مطلوباً، من ضمنهم جميل العموري الذي قتله الجيش الإسرائيلي في يونيو/حزيران.

وأوضح الشابان أنَّهما في حالة تنقل دائم، إذ لا يمكثان أبداً في نفس المنزل مرتين وتتطلب تحركاتهما الآن، أكثر من أي وقت مضى، درجة أكبر من التخفي. وقال باسل لموقع Middle East Eye: "ترحب بنا العديد من عائلات المخيم وتدعونا للنوم في منازلهم، لكننا نخشى على سلامتهم ولا نريد تعريضهم للخطر".

أشار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، في مقابلة مع القناة "12" الإسرائيلية، في أواخر ديسمبر/كانون الأول، إلى أنَّ إسرائيل كانت على أعتاب إطلاق عملية عسكرية كبيرة في جنين قبل ثلاثة أشهر، قبل أن تطالب السلطة الفلسطينية بالتحرّك.

محمود عباس السلطة الفلسطينية إسرائيل
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس/ رويترز

وقال كوخافي إنَّ إسرائيل "شجّعت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية من خلال التنسيق الأمني ​​المنتظم. وبناء عليه، كانت قوات السلطة الفلسطينية تتولى مهمة دخول مخيم جنين ومصادرة الأسلحة واعتقال العديد من النشطاء".

نفذت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بالفعل عدة حملات أمنية على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، تضمنت اعتقال عدد من سكان المخيم ومضايقة آخرين بالتهديدات والاستدعاءات. تسبَّبت هذه الإجراءات التعسفية في زيادة حدة الغضب المتأجج بالفعل بين سكان المخيم ومحافظة جنين تجاه السلطة الفلسطينية.

ومع ذلك، يصر تامر، الذي جلس إلى جانب باسل حاملاً سلاحه، على أنَّ معركتهم ليست ضد السلطة الفلسطينية. وقال تامر، الذي قضى عدة سنوات في أحد السجون الإسرائيلية: "تريد السلطة الفلسطينية دفعنا نحو الاشتباك مع القوات التابعة لها وإطلاق النار عليها، لكن بوصلة أسلحتنا لا تزال موجهة نحو الاحتلال، ولا أحد غيره".

يتزايد الضغط على رجال مثل تامر لتسليم أسلحتهم، لكنه يقول إنَّه لا يوجد ما يضمن أنَّ حياتهم لن تتعرض للخطر، أو أنَّهم لن يتعرضوا للتعذيب في حال تعاونوا مع السلطة الفلسطينية.

وقال الشابان، باسل وتامر، لموقع Middle East Eye، إنَّ الأسلحة التي يحملها المقاومون داخل المخيم، والتي معظمها بنادق هجومية خفيفة الوزن، اشتروها بأموالهم الشخصية. وهذا سبب آخر يجعل فكرة التخلّي عن السلاح تبدو مستحيلة بالنسبة لهم. قال باسل: "لقد عملت بجد طوال عام ونصف العام حتى أستطيع شراء سلاحي. هذه الأسلحة للدفاع عن المخيم ولن نتخلّى عنها".

إسرائيل تستخدم السلطة الفلسطينية

تصر السلطة الفلسطينية على أنَّ الحملة الأمنية في جنين لا تستهدف مقاتلي المقاومة الذين يشتبكون مع إسرائيل، لكنها تهدف إلى القضاء على "البلطجية" الخارجين عن القانون.

وقال أكرم الرجوب، محافظ محافظة جنين، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، للإذاعة المحلية إنَّ الجهود الأمنية الأخيرة للسلطة الفلسطينية تهدف إلى "فرض سيادة القانون" وملاحقة مَن يسميهم بـ"الهاربين". وأضاف: "لن نسمح لهؤلاء البلطجية بالتطاول على رجال الأمن لدينا وإهانة كرامتهم. سنلاحقهم ونعتقلهم"، واصفاً ما يحدث في جنين بأنَّه خروج عن القانون.

لكن الفصائل الفلسطينية في المخيم رفضت تصريحات الرجوب، معتبرين إياها محاولة لشيطنة المقاومة. وقال بسام السعدي، أحد الشخصيات القيادية في حركة الجهاد الإسلامي في جنين، لموقع Middle East Eye: "تستخدم إسرائيل السلطة الفلسطينية لسحق المقاومة في جنين، بغرض إحداث صراع داخلي وإراقة للدماء، وتهدف أيضاً إلى نزع شرعية السلطة الفلسطينية في أعين الشعب الفلسطيني، وهي حقيقة يجب على قيادة السلطة الفلسطينية الانتباه إليها".

ثمة فصائل أيضاً داخل حركة فتح، الحزب الحاكم الفعلي للسلطة الفلسطينية، تعارض هذا النهج الأمني ​​للسلطة الفلسطينية.

يقول شامي الشامي، العضو السابق في المجلس التشريعي الفلسطيني عن كتلة حركة فتح، إنَّ العنف الإسرائيلي المتزايد يغذي المشاعر القومية ويشجع الشباب على تصعيد أنشطة المقاومة. ويتوقع الشامي أنَّ التوترات بين السلطة الفلسطينية وسكان المخيم ستظل قائمة ما دامت السلطة الفلسطينية تواصل اتّباع هذا النهج شديد الوطأة.

قال الشامي: "نحن لا ندعو إلى قتال السلطة أو مهاجمتها، لكننا ندعوها إلى تخفيف إجراءتها تجاه أهالي المخيم وتصحيح أخطائها".

أحد أفراد الأجهزة الأمنية التابعة لـ السلطة الفلسطينية يعتدي على صحفية خلال تغطية احتجاجات الفلسطينيين على مقتل نزار بنات/ شبكة قدس

وتصاعد الغضب ضد السلطة الفلسطينية في نوفمبر/تشرين الثاني بعد أن أثارت جنازة حاشدة لأحد قيادي حركة حماس، وهو وصفي قبها، الذي توفي بسبب مضاعفات فيروس كورونا، غضب السلطة في رام الله.

قال سلمان: "أعدّت المخابرات الفلسطينية قائمة مطلوبين تضم أسماء 20 من سكان المخيم. كانت هذه بمثابة لحظة محورية في ملاحقة المقاومة وأدت إلى تصعيد التوترات بين المخيم والسلطة الفلسطينية".

قال إياد حسينية، شقيق محمد عزمي حسينية- أحد المعتقلين خلال هذه الحملة، لموقع Middle East Eye، إنَّ "قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية ألقت القبض على محمد بزعم تلقي مكالمة من زعيم حركة حماس إسماعيل هنية". كان هنية قد اتصل هاتفياً بمحمد في أكتوبر/تشرين الأول لتقديم تعازيه في وفاة ابن أخيه أمجد الحسينية خلال مداهمة أغسطس/آب.

نُقل محمد البالغ من العمر 33 عاماً من مقر الأجهزة الأمنية في جنين إلى سجن الجنيد في نابلس، ثم إلى مقر المخابرات في رام الله، حيث تعرّض لاستجواب مكثف على مدار 40 يوماً. قال إياد: "جميع الاتهامات الموجهة لمحمد تتعلق بمقاومة جيش الاحتلال، بالإضافة إلى تلقيه اتصالاً هاتفياً من إسماعيل هنية".

تلقت عائلة حسينية عدة وعود بعودة محمد إلى جنين والمثول أمام المحكمة، كما قال إياد لموقع Middle East Eye، لكن لم تلتزم السلطة الفلسطينية بأي من تلك الوعود، وهو ما دفعه إلى بدء إضراب عن الطعام في 10 ديسمبر/كانون الأول.

اعتداءات غير مسبوقة

أخذت الأمور منعطفاً نحو الأسوأ في جنين في 7 يناير/كانون الثاني، حيث تعرَّض ثلاثة من شباب المخيم، من بينهم محمد الزبيدي البالغ من العمر 18 عاماً، نجل الأسير في سجن جلبوع، زكريا الزبيدي، للاعتداء بالضرب والصعق الكهربائي على أيدي ضباط أمن السلطة الفلسطينية.

انتشر مقطع فيديو يوثّق هذا الاعتداء، ما أدَّى إلى تصاعد التوترات من جديد داخل المخيم. تلا ذلك الحادث إطلاق نار كثيف على مقر قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في جنين.

قال عم محمد الزبيدي، جبريل الزبيدي، لموقع Middle East Eye إنَّ هذه تُعد المرة الثالثة خلال شهرين التي تعتدي فيها السلطة الفلسطينية على ابن أخيه.

اتهمت السلطة الفلسطينية محمد بحيازة مخدرات، وهي تهمة رفضتها الأسرة ووصفتها بأنَّها محض كذب وافتراء لعدم تقديم أي دليل يثبت هذا الاتهام.

كان محمد قد تولّى مسؤولية عائلته منذ اعتقال والده زكريا الزبيدي عام 2019، والذي كان ذات يوم قائد كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.

قال جبريل الزبيدي: "نشعر بالقلق على أبناء زكريا ونشعر دائماً بأنَّهم مستهدفون. لقد حاولنا فعل كل شيء لحمايتهم، لكن ما فعلته السلطة الفلسطينية كان غير مسبوق".

من جانبها، دعت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين وزارة الداخلية وقوات الشرطة إلى إجراء تحقيق في الحادث ومراجعة الطريقة التي تُنفذ بها الاعتقالات من أجل حماية حقوق السجناء وفرض سيادة القانون.

تحميل المزيد