تتواصل المحاولات الساعية للخروج من الأزمة الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، فهل يكون المقترح الأمريكي بشأن صواريخ توماهوك بداية الانفراجة أم أن ذلك ليس كافياً للرئيس الروسي بوتين؟
وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن تتزامن الأزمة الأوكرانية، التي تهدد أوروبا والعالم حالياً بحرب لا أحد يمكنه التنبؤ بمسارها أو حتى أطرافها إذا ما اندلعت بالفعل، مع مرور 30 عاماً على سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي كانت أوكرانيا دولة أساسية فيه، ومن ثم انتهاء الحرب الباردة.
فالأزمة الأوكرانية في الأساس أزمة جيوسياسية، إذ يريد الرئيس الروسي أن يُرغم حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً، ولأن موسكو لا تثق بقدرة الدول الأوروبية على التحرك دون موافقة واشنطن، فقد قرر الرئيس الروسي أن يطلب ضمانات قانونية مكتوبة من نظيره الأمريكي بايدن تنص على أن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً.
علام ينص الاقتراح الأمريكي؟
أبلغت الولايات المتحدة روسيا باستعداد الأولى مناقشة منح الثانية طريقة للتحقق من عدم وجود صواريخ توماهوك بقواعد حلف الناتو في رومانيا وبولندا، بحسب تقرير لوكالة بلومبيرغ الأمريكية، الثلاثاء 1 فبراير/شباط، شريطة أن تكون موسكو على استعداد لتبادل معلومات بشأن صواريخ في قواعد روسية معينة.
الرد الأمريكي، الذي لم ينشر بصفة علنية، جاء رداً على المطالب الأمنية لروسيا والتي قدمتها الخارجية الروسية إلى نظيرتها كتابةً. ويبدي الرئيس الروسي بوتين قلقاً بشأن التهديد الذي تشكله قواعد الدفاع الصاروخي لحلف الناتو في رومانيا وبولندا. ويهدف المقترح الأمريكي إلى معالجة تلك المخاوف بالتحديد.
وقال مصدر مطلع لـ"بلومبيرغ"، إن الولايات المتحدة عرضت فقط إجراء محادثات بشأن عدة مخاوف لدى روسيا. وقال المصدر: "كل شيء نوافق على القيام به سيكون بالتبادل.. بمعنى أنه سيتطلب إجراءات من جانب روسيا أيضاً.. ولن يتم تنفيذه إلا بعد مشاورات كاملة مع الحلفاء والشركاء".
ونشرت صحيفة "إل باس" الإسبانية وثائق سرية، قالت إنها تحمل الردود الأمريكية وتلك من حلف الناتو على مطالب روسيا الأمنية، التي تهدف إلى نزع فتيل الأزمة الأوكرانية قبل أن تتطور إلى غزو روسي.
وقالت الوثيقة الأمريكية إن "الولايات المتحدة مستعدة لمناقشة إجراءات متبادلة لدعم الشفافية والتزامات متبادلة من جانب الولايات المتحدة وروسيا، بالامتناع عن نشر أنظمة صواريخ هجومية يتم إطلاقها من الأرض، وقوات دائمة بمهام قتالية في أراضي أوكرانيا".
كما تضمنت الوثيقة أن أمريكا وباقي أعضاء حلف شمال الأطلسي، على استعداد لمناقشة إجراءات متبادلة لتجنب الحوادث الخطرة في الجو أو البحر، وطمأنة موسكو بأنه لا توجد صواريخ توماهوك كروز متمركزة في رومانيا أو بولندا. كذلك عرضت أمريكا في الرد المكتوب، تحقيق الشفافية بشأن مواقع صواريخها في رومانيا وبولندا، إذا فعلت موسكو الشيء نفسه بشأن موقعين في روسيا.
كانت روسيا قد طالبت حلف شمال الأطلسي وأمريكا وبريطانيا بسحب جميع القواعد العسكرية والقوات من دول وسط وشرق أوروبا، وضمن ذلك تلك الموجودة داخل الاتحاد الأوروبي، مقابل تخفيف التوتر مع أوكرانيا حليفة الغرب.
أيضاً طالبت روسيا "الناتو" وأمريكا بوقف أي توسع للحلف شرقاً، و"عدم نشر أسلحة وقوات، حيث قد يُنظَر إليها من الطرف الآخر على أنها تهديد للأمن القومي"، وفقاً لما ذكرته صحيفة The Times البريطانية.
كما شملت المطالب أيضاً دعوة لجميع عمليات نشر القوات في أوروبا الشرقية للعودة إلى المستويات التي كانت عليها قبل عام 1997، وإزالة حماية "الناتو" من جميع البلدان التي انضمت منذ ذلك الحين.
إضافة إلى ذلك، طالبت روسيا بالتزام الولايات المتحدة "عدم إنشاء قواعد عسكرية في دول الاتحاد السوفييتي السابق"، أو "تطوير التعاون العسكري" مع دول تشمل أعضاء الاتحاد الأوروبي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، بحسب ما أوردته وكالة الأنباء الفرنسية.
ماذا يقول بوتين عن الرد الأمريكي؟
من جانبه، خرج الرئيس الروسي بوتين عن صمته واتهم واشنطن بمحاولة استدراج موسكو إلى حرب في أوكرانيا، محذراً من أن هدف الولايات المتحدة يتمثل في استخدام المواجهة ذريعة لفرض مزيد من العقوبات على روسيا.
وعقب لقائه مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، في موسكو، الثلاثاء، أكد بوتين أن الولايات المتحدة تتجاهل مخاوف روسيا بشأن قوات الناتو في أوروبا: "يبدو لي أن الولايات المتحدة ليست قلقة للغاية بشأن أمن أوكرانيا…لكن مهمتها الرئيسية هي احتواء التنمية التي تشهدها روسيا. وبهذا المنطق فإن أوكرانيا نفسها مجرد أداة للوصول إلى هذا الهدف".
وقال بوتين إن الولايات المتحدة تجاهلت مخاوف موسكو في ردها على المطالب الروسية بضمانات أمنية ملزمة قانوناً، وضمن ذلك منع توسع الناتو الإضافي نحو شرق أوروبا، وأشار إلى أنه إذا تحققت رغبة أوكرانيا في الانضمام إلى الناتو، فقد يفضي ذلك إلى دفع الأعضاء الآخرين إلى حرب مع روسيا.
وقال الرئيس الروسي: "تخيل أن أوكرانيا عضو في الناتو وأن عملية عسكرية (لاستعادة شبه جزيرة القرم) بدأت… ماذا، هل سنحارب الناتو؟ هل فكر أحد في هذا؟ يبدو أنهم لم يفعلوا ذلك".
الفجوة إذن لا تزال شاسعة بين ما يقول بوتين إنه يريده وما عرضه نظيره جو بايدن، بينما يوجه كل منهما الاتهام بأن الآخر هو المتسبب في الأزمة ويستهدف منها فرض شروطه على الطرف الآخر، فيما يحذّر مراقبون من أن الحرب الباردة قد تتحول إلى "حرب فعلية" في أي لحظة، بحسب تحليل لشبكة CNN الأمريكية.
لكن باب الدبلوماسية لا يزال مفتوحاً على ما يبدو، إذ أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن بلاده تتوقع استجابة سريعة من دول حلف الناتو، وضمنها الولايات المتحدة، للرسالة التي تم إرسالها الثلاثاء بشأن عدم قابلية الأمن للتجزئة.
ونقل موقع الخارجية الروسية نص الرسالة التي أرسلها لافروف إلى وزراء خارجية الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول الأوروبية: "نتوقع رداً سريعاً. لا ينبغي أن يستغرق وقتاً طويلاً، فالحديث يدور حول شرح المفاهيم التي على أساسها قام الرؤساء (رؤساء الحكومات) بالتوقيع على التعهدات".
وتابعت الوثيقة: "ننطلق أيضاً من حقيقة أن الرد على هذه الرسالة سيأتي بصفته الوطنية، حيث إنه تم قبول الالتزامات المذكورة أعلاه من قبل كل دولة من دولنا على حدة، وليس نيابة عن كتلة"، بحسب وكالة سبوتنيك الروسية.
هل تنفجر الأزمة الأوكرانية؟
يجيب الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو عن هذا السؤال بالقول إنه من الصعب تقدير الكيفية التي سيتطور بها الوضع الراهن: "يبدو أن المخاطر والأخطار تتراكم. لكن يجب على جميع الأطراف أن تُعطي فرصةً للدبلوماسية".
ونينيسو هو أكثر زعيم غربي يعرف الرئيس الروسي، لدرجة أن صحيفة Sunday Times البريطانية وصفته مؤخراً بأنه "مُروّض بوتين".
وخلال حديثه عن كيفية التعامل مع بوتين، قال نينيستو إنّ إجابته الوحيدة هي تلك التي قالها للرئيس السابق دونالد ترامب، خلال زيارته إلى هلسنكي عام 2018، حيث قال: "كنت جالساً في هذه الغرفة نفسها، وقلت لترامب إن بوتين مقاتل. وهو يقاتل بكل ضراوة، لكنه يُدرك أن رد الفعل سيكون قوياً للغاية. وسيحترمك بوتين إذا بادلته الاحترام"، بحسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
أما ترجمة هذا الاحترام على أرض الواقع الآن فتشير إلى أن إعادة أوكرانيا تحديداً إلى الفلك الروسي باتت تشكل هاجساً رئيسياً لدى بوتين، الذي يسعى إلى استرجاع مجد الاتحاد السوفييتي، بعد أن ترك تفتّت هذا الاتحاد خلال ثلاث سنوات فقط (1989-1991)، جرحاً عميقاً في نفسه ونفوس كثير من الروس من أبناء جيله، بحسب تحليل نشره موقع إذاعة مونت كارلو الدولية.
إذ يرى بوتين، حسبما يعتقد أليكسي ماكاركين من مركز التقنيات السياسية، أن "أوكرانيا ستصبح جزءاً من حلف شمال الأطلسي بعد 10-15 عاماً إذا لم تحلّ روسيا مسألة الأمن هذه"، و"ستكون بذلك صواريخ الحلف في موسكو".
ومنذ عام 2008، وبحسب وسائل إعلام روسية وأمريكية، لطالما نفى بوتين وجود الكيان الأوكراني، وقال لنظيره الأمريكي جورج دبليو بوش، إن أوكرانيا "ليست دولة حتّى". وقال الرئيس الروسي بمؤتمره الصحفي السنوي، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إن أوكرانيا ليست سوى "اختراع من نسج خيال لينين"، فهل يعني ذلك أنّ رفض الغرب إعطاء بوتين ما يريد قد أغلق الباب أمام الدبلوماسية وباتت الحرب مسألة وقت؟ لا أحد يمكنه الجزم بالإجابة، على ما يبدو.