"أبي أنت رجل سيئ" سمع ناشط إيغوري هارب هذه الكلمات من ابنته عبر الهاتف، ولكن ليست هذه فقط مصيبته بل إن زوجته طلبت منه حتى تتوقف السلطات الصينية عن مضايقاتها، ولكن اضطهاد الصين للمنشقين ومحاولاتها لاسترجاعهم قد تتضمن ممارسات أسوأ من ذلك.
يعيش طاهر أمين، وهو ناشط ينتمي إلى أقلية الإيغور الصينية، مأساة حقيقية منذ فراره من البلاد في عام 2017 متوجهاً إلى إسرائيل، تاركاً وراءه زوجته وابنته.
ففي أحد الأيام، تلقى مكالمة من الشرطة في منطقة سنغان الصينية، وحاولوا إقناعه بالعودة إلى الوطن.
ونظراً إلى أنه على دراية مباشرة بما تفعله الحكومة الصينية من حملة اضطهاد قاسية ضد أبناء الأقلية التي ينتمي إليها، كان أمين، الذي يبلغ من العمر الآن 40 عاماً، متخوفاً من أن المكالمة لن تكون سوى بداية لحملة موسعة من الضغط الذي لا يتوقف من أجل التأثير عليه. بعد أن حصل على تأشيرة للسفر إلى الولايات المتحدة، انتقل أمين إلى واشنطن وحاول أن يبقى على اتصال بعائلته، لكن زوجته أبلغته أنها تريد الطلاق كي تتوقف الشرطة عن إزعاجها بالسؤال عنه.
اتصلت ابنته به وأبلغته بأن عليه التوقف عن الاتصال بهم لأنه "رجل سيئ". وفي مقابلة عقدها في عام 2018 مع موقع BuzzFeed، قال إنه أدرك أنها كانت مجبرة على التحدث إليه بتلك الطريقة.
تضرب قصة أمين مثالاً على مساعي الصين لملاحقة المنفيين في الخارج، والطرائق التي يلجأ إليها النظام للضغط على هؤلاء، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
كانت حملة الاضطهاد التي تقودها السلطات السياسية والقضائية في بكين موضوع تقرير نُشر في 18 يناير/كانون الثاني بواسطة منظمة Safeguard Defenders الحقوقية التي تتخذ من العاصمة الإسبانية مدريد مقراً لها.
الأمر لم يقتصر على الإيغور.. حملة ضد الفساد تتحول لحفلة صيد
لم يكن السكان المحليون من الإيغور الأهداف الرئيسية في مثل هذه الحالات. وبالفعل، يصف التقرير كيف لعملية ترمي إلى مكافحة الفساد- وهي حملة روج لها الرئيس الصيني شي جين بينغ منذ سنواته الأولى في سدة الحكم- أن تتحول إلى آلية حكومية تُمكِّن الصين من بسط ذراعها الطويلة إلى خارج البلاد.
في عام 2014، أطلقت بكين عملية صيد الثعلب، بهدف إلقاء القبض على المسؤولين الفاسدين، بما في ذلك موظفو المؤسسات الحكومية الذين فروا من الصين وحصلوا على حق اللجوء في بلاد أخرى، سواء حدثت عملية الاعتقال هذه بصفة رسمية أو سرية.
وفي عام 2018، تأسست هيئة الرقابة الوطنية للارتقاء بعملية مكافحة الفساد، وفي إطار ما كان فعلياً امتداداً لوحدة فحص الانضباط التابعة للحزب الشيوعي الصيني. ترفع الهيئة الحديثة، وهي ليست جهة قضائية، تقاريرها إلى الرئيس شي مباشرة ولديها سلطة على أعضاء الحزب وغير المنتسبين إليه.
بحسب تقرير منظمة Safeguard Defenders، عززت هيئة الرقابة الوطنية "الوصول المتنامي لشرطة الصين خارج البلاد". بالإضافة إلى الأشخاص المشتبه في ارتكابهم جرائم فساد وجرائم اقتصادية، استهدفت الهيئة كذلك خصوم النظام المزعومين، والجماعات الدينية- مثل الإيغور وفالون غونغ- والآخرين الذين ترى بكين أنهم يمثلون تهديداً للبلاد.
تهديد العائلات أو الخطف مباشرة من بلد المهجر
يحدد التقرير الجديد الصادر عن منظمة Safeguard Defenders، والمعنون بـ"عودة غير طوعية" (Involuntary Return)، ثلاث وسائل رئيسية تستخدمها بكين لإعادة الأشخاص قسرياً إلى الصين القارية بعد تعقبهم عن طريق عمليات سكاي نت.
تتمثل إحدى الطرق في تهديد أفراد العائلة الذين ظلوا في الصين، وممارسة ضغوط شديدة عليهم كي يقنعوا ذويهم الذين فروا بالعودة إلى البلاد. وتتضمن الوسائل الأخرى ممارسة الضغط المباشر على الأشخاص الذين فروا، سواء من خلال إرسال رسائل تهديد إليهم في البلاد التي استقروا فيها أو عن طريق عملاء يقتربون منهم في هذه البلاد.
أما الطريقة الثالثة فتكون باختطاف "الفارين" من البلاد التي طلبوا اللجوء فيها أو عن طريق إغرائهم للانتقال إلى بلد آخر واعتقالهم فيها. ففي بعض الحالات يكون الهدف جعلهم يدخلون بلداً عقد مع الصين معاهدة تسليم المجرمين، أو بكل بساطة اعتقال هؤلاء الأشخاص بدون إجراء قانوني منظم.
احتجزوا والدته لأنه سأل عن عدد ضحايا المواجهات مع الهند
كان وانغ جينغيو يبلغ من العمر 18 عاماً عندما غادر الصين ووصل أوروبا في عام 2019، وذلك بهدف بدء حياة جديدة. في فبراير/شباط الماضي، كتب منشوراً على منصة التواصل الاجتماعي الصينية Weibo، حول تبادل إطلاق النار الذي وقع في يونيو/حزيران 2020 على الحدود الصينية الهندية، وتساءل عن عدد الخسائر الذي أسفر عنه الحادث. وفي غضون نصف ساعة من نشر سؤاله، وصل عملاء من الشرطة أو من إحدى المنظمات الأمنية إلى منزل أبويه في تشونغتشينغ جنوب غرب الصين، وصادروا الحواسيب واعتقلوا أبويه.
أبلغ وانغ منظمة Safeguard Defenders أن أبويه أُطلق سراحهما في نهاية المطاف في منتصف نفس ليلة اعتقالهما، ولكنهما استُدعيا أكثر من مرة في الأيام التالية عن طريق قسم الشرطة وظلّا محتجزين لساعات. وأُمر الأبوان بمهاتفة وانغ لإقناعه بالعودة إلى الصين وتسليم نفسه.
وقد أبلغ الشاب المنظمة الحقوقية الإسبانية بأن الشرطة هددته أيضاً بأن جريمته المشتبه بارتكابها يمكن أن "ترقى" إلى جريمة تقويض سلطة الدولة إذا رفض العودة إلى الوطن.
وبعد ذلك، اتصلت به الشرطة مباشرة وأبلغته بأن عليه العودة إلى الصين على وجه السرعة لأن أمه دخلت المستشفى وأنها تحتضر. استمرت المضايقات لأسابيع، وفي أبريل/نيسان من العام الماضي، أُلقي القبض على وانغ عن طريق السلطات في مطار دبي أثناء انتظاره إقلاع رحلته المتجهة إلى الولايات المتحدة. ثم أُطلق سراحه بعد شهر ونصف، وتحديداً في 27 مايو/أيار، بعد أن نشرت وسائل الإعلام الغربية عن اعتقاله، وبعد أن ضغطت وزارة الخارجية الأمريكية على الإمارات من أجل تسليمه. ومنذ ذلك الحين، يمكث وانغ في هولندا في انتظار استكمال طلب اللجوء الذي تقدم به هناك.
وتكثر الأمثلة لحالاتٍ مشابهةٍ استهدفت فيها السلطات الصينية مواطنيها في الخارج من مختلف مناحي الحياة، بعضها نجحت خطط السلطات في إجبار هؤلاء المواطنين على العودة إلى البلاد، وبعضها الآخر أخفقت فيه المساعي المحمومة في الإيقاع بالمواطنين.
الحملة تحولت لوسيلة لمطاردة المعارضين وضحاياها بلغوا 10 آلاف
يقول بيتر داهلين، مدير منظمة Safeguard Defenders، إن ما بدأ بوصفه عملية لمكافحة الفساد صار أداةً رئيسيةً في أيدي شي جين بينغ لتعزيز سلطته أكثر وأكثر والتخلص من الخصوم والمعارضين. منذ إطلاق عملية صيد الثعلب في أواسط عام 2014، أُعيد حوالي 10 آلاف شخص إلى الصين من 120 دولة، وذلك وفقاً للبيانات الحكومية. كان غالبية هؤلاء متهمين في واقع الأمر بارتكاب جرائم اقتصادية، لكن الرقم يخفي حالات كثيرة من العودة القسرية للنشطاء السياسيين، وأبناء الأقليات، مثل الإيغور وغيرهم.
في مقابلة مع صحيفة Haaretz الإسرائيلية عبر تطبيق زووم، قال داهلين إن الرقم الحقيقي قد يكون أكبر بكثير من المُبلغ عنه، مع أنه يدرك كذلك احتمالية أن يكون المسؤولون الحكوميون في بكين ضخّموا الرقم لكسب ثقة الهيئات واللجان الرسمية التابعة للحزب الشيوعي الصيني.
وتروي وثيقة منظمة Safeguard Defenders الحالات الخاصة بـ62 شخصاً استُهدفوا عن طريق ثلاثة أساليب يتبعها النظام: ممارسة الضغوط على الأقارب، واستخدام العملاء، والاختطاف. كانت إعادتهم إلى الصين هي النتيجة في 36 حالة من هذه الحالات.
ويضيف داهلين أن المنظمة حددت هويات 46 حالة لم يشتمل عليها التقرير بسبب الافتقار إلى المعلومات الكافية. ويوضح أنه في كل الأحوال لا تشكل النتائج التي توصلت إليها منظمته سوى غيض من فيض. يتابع داهلين قائلاً: "إنه الجزء الظاهر، لكننا لا نرى كيف يبدو هذا الفيض".
وفقاً لباحثي المنظمة الحقوقية، كانت هناك زيادة في عدد الأشخاص الذين أُعيدوا إلى الصين بدءاً من عام 2014. وبرغم جائحة فيروس كورونا والقيود المفروضة على السفر حول العالم، شهد العام 2020 تسجيل عودة 1421 شخصاً، وهو ثاني أعلى رقم منذ بدء عملية صيد الثعلب. فيما سجل عام 2019 أعلى رقم من العائدين، وهو 2041 حالة. يخضع العائدون للمحاكمة، وفي أغلب الحالات يقضون عقوبة بالسجن بعد إدانتهم. وتقول منظمة Safeguard Defenders إن معدل الإدانة في الصين لمثل هذه الحالات يصل إلى 99%.
الصين تختطف المعارضين من بلدان وقعت معها اتفاقيات لتسليم المجرمين
ويقول داهلين: "يكشف تقريرنا عن شيء آخر لم يكن معروفاً حتى هذه اللحظة، وهو أن هناك وثيقة قانونية رسمية تحدد استخدام هذه الأساليب: الخطف، والإيقاع بالأشخاص، وإغراء الأشخاص للقدوم إلى بلد ثالث يسهل فيه اعتقالهم. لدينا صورة منها بالأبيض والأسود". ويضيف أنه برغم اعتبار هذه الأساليب استثنائية، فهي ليست نادرة الاستخدام.
ويتابع حديثه قائلاً: "عندما يحاول مسؤولو الحكومة الصينية تبرير مثل هذه العمليات، فعلى الأحرى يقولون إن هذه البلاد [الثالثة] ليس لديها اتفاقيات تسليم المجرمين مع الصين، "ولذلك لا نملك خياراً". لكننا وجدنا أن كثيراً من هذه العمليات تحدث في بلاد لديها اتفاقيات تسليم المجرمين موقعة مع الصين، غير أن هذه العمليات تُنفذ بواسطة عملاء أجانب غير شرعيين وعمليات اختطاف فعلية. بعبارة أخرى، إنهم يستخدمون وسائل "بديلة" في البلاد حينما يناسبها ذلك، لأنها أسهل وأسرع وأنجح وفعالة من حيث التكلفة".
ويؤكد أن مثل هذه الطرق "لا تنتهك سيادة هذه البلاد وحسب، بل إنها تنتهك الثقة الكامنة في أي اتفاقية تسليم مجرمين أو أي اتفاقية تعاون قضائي".
صحيحٌ أن التعاون القضائي مع الصين لتسليم المشتبه بارتكابهم جرائم فساد يحمل أهميةً، وهو رأي يتفق معه داهلين، لكن البلاد التي تتعامل مع الصين يجب أن تدرك الموقف بكل وضوح. ويضيف: "في الوضع الطبيعي بالنسبة لحالات تسليم المجرمين، ثمة عمل متبادل بين سلطات الملاحقة القضائية. ولكن في هذه الحالات، تُلزَم البلاد بالتعامل مع هيئة سياسية: الحزب الحاكم".
ويصف داهلين هيئة الرقابة الوطنية بأنها "وزارة مركزية أعلى من الشرطة والمحكمة العليا والنيابة العامة. إنها تتوسع بسرعة، وتسيطر على مزيد من الجوانب التي يجب أن تكون من مسؤولية هذه الجهات. إنهم يركزون السلطة في أيدي الهيئة، ولا سيما فيما يتعلق بالساحة الدولية".
قالت المنظمة الإسبانية كذلك إنه بموجب القانون الذي يمنح سلطةً إلى طريقة عمل الهيئة، فإن الصين سوف تنفذ هذا العام "عمليات تعاون دولي من مكافحة الفساد". وأوضحت أن المادة ذات الصلة في هذا القانون لا تنص على وجه التحديد على كيفية تنفيذ ذلك وضد أي أهداف.
العالم يجب عليه التعامل مع اضطهاد الصين للمنشقين بدعوى مكافحة الفساد
ومن جانبه، يعرب داهلين عن قلقه من أن المجتمع الدولي لا يفعل ما يكفي في وجه النشاط العدواني للصين. فبكين تستمد التشجيع من هذه اللامبالاة، ولا ترى أي سبب يدعوها للتوقف عن عملياتها.
ويطالب داهلين ومنظمته من البلاد والسلطات في كل مكان، سواء كانت هذه البلاد وقعت على اتفاقيات تسليم المجرمين مع الصين أم لم تفعل، بأن تكون متيقظة بشأن التعامل مع أنشطة بكين، وأن تنشئ آليات رقابية وأن تطور من طرق حماية المواطنين الصينيين الذين يطلبون اللجوء في أراضيها.
ويقول داهلين: "لا يمكن أن يكون لدينا حكومة أجنبية ترسل عملاء لتنفيذ أنشطة شرطية ضد أقلية عرقية في بلد آخر. إن ذلك من السخف".
كيف ردت بكين؟
قالت صحيفة Haaretz الإسرائيلية إن السفارة الصينية في إسرائيل أكدت في ردها أن السنوات الأخيرة "شهدت تعاون الصين مع حوالي 120 بلداً ومنطقة لإعادة المشتبه بهم".
وقالت السفارة: "خلال تعاوننا، كانت الصين تتقيد بصرامة بالقانون الدولي والممارسات العرفية على صعيد العدالة الدولية وإنفاذ القانون، وتحترم كلياً السيادة القضائية للبلاد الأخرى، وتحمي المصالح والحقوق المشروعة الخاصة بالمشتبه بهم جنائياً، التي تحظى بالدعم والاعتراف الكامل على نطاق واسع".
وأوضحت السفارة: "نأمل أن نضطلع بمزيد من التعاون مع الدول ذات الصلة في هذا الصدد، من أجل تطوير التعاون الدولي لمكافحة الفساد".